التكنولوجيا تؤسس لمرحلة جديدة بين واشنطن وسول.. شراكة تتجاوز آثارها حدود آسيا
منذ توقيع اتفاقية الهدنة الكورية عام 1953 والشركات الأمريكية ونظيرتها في كوريا الجنوبية تتمتع بعلاقات تعاون وثيق، ومع مرور الوقت نضجت تلك العلاقة الثنائية عبر المساعدات الإنمائية الأمريكية لسيئول لتتسم العلاقة الراهنة بالديناميكية التجارية بين البلدين، وفي عام 2019 أي قبل جائحة كورونا بلغت التجارة السنوية بينهما 168 مليار دولار، وباتت كوريا الجنوبية سادس أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة.
لكن مشهد التعاون الثنائي بين البلدين في المجال الاقتصادي والتجاري يبدو أكثر تعقيدا وتنوعا، حيث يصعب حصره في اتجاه أو مسار واحد، فمقابل العلاقات التجارية المنتعشة تبدو الاستثمارات المباشرة متأخرة ولا تحتل المكانة الواجبة لها، فكوريا الجنوبية تحتل المرتبة الـ14 من بين الدول التي تستثمر في الولايات المتحدة، وتأتي خلف اقتصادات أصغر بكثير مثل أيرلندا وبلجيكا وسنغافورة.
مع هذا شهد عام 2021 تحولا واضحا في مضمون العلاقة الاقتصادية بين الحليفين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، مدفوعا في ذلك بتكثيف المنافسة والتعاون في آن واحد، خاصة في مجال التقنيات الحيوية، والعمل المشترك في مجال سلاسل التوريد للتصدي للهشاشة التي كشفت عنها جائحة كورونا في هذا المجال، وبات من الواضح الآن أن البلدين يقومان بتحديث علاقاتهما لمواجهة الحقائق الجديدة، خاصة في ظل المنافسة الشرسة التي تشهدها القارة الآسيوية والعالم بين الولايات المتحدة والصين.
وذكرت تقرير لموعقع الاقتصادية الإماراتي أن العناصر الأكثر أهمية في مجال التعاون الاستراتيجي بين البلدين حاليا تتضمن سلسلة من المشاريع المشتركة تركز على بطاريات المركبات الكهربائية وأشباه الموصلات ولقاحات كوفيد-19، هذه القطاعات الإنتاجية ذات التقنيات عالية التطور التي تعد أهم حقول المعرفة الإنسانية في القرن الـ21 هي التي يعتقد المحللون أنها ستحدد الشكل المستقبلي للعلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وستغير شكلها الراهن -وإن كان ببطء- إلى شكل جديد يضع التحديات التقنية والتكنولوجية في المقدمة.
لا شك أن التركيز الأعمق على مزيد من التعاون التكنولوجي بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية يدفع إلى التساؤل عن الأسباب التي دفعت البلدين إلى تبني هذا المسار، وهو ما ترى الدكتورة روزلين آندرو أستاذة الاستراتيجيات الدولية في جامعة لندن أن هناك عاملين رئيسين يعززان هذا الاتجاه.
وقالت آندرو إن "العامل الأول يتعلق بأثار وتأثير العولمة على الصين والولايات المتحدة، حيث تستعد واشنطن حاليا لمنافسة طويلة الأمد مع بكين، وقد تغيرت الديناميكية الاقتصادية بين البلدين، وحلت الصين محل الولايات المتحدة كأفضل شريك تجاري لعديد من البلدان".
وفي عام 2001 كانت الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول لـ80 في المائة من بلدان العالم، الآن ومن بين 120 دولة بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة مثل كوريا الجنوبية واليابان والاتحاد الأوروبي التي تعد الصين أكبر شريك تجاري لهم، ومن ثم على واشنطن التعاون مع الحلفاء المميزين لتكون قادرة على مواجهة الصين والتصدي لتوسعها الحالي.
والعامل الثاني يتعلق بالتحول التكنولوجي العالمي، وسيمنح لمن يتبوأ المركز الأول فيه الدور الأول في القيادة العالمية، وقد أدى وباء كورونا إلى زيادة وتيرة الرقمنة عالميا.
ويشير تقرير حديث لبنك آسيا للتنمية أن 40 في المائة من نمو الناتج المحلي الإجمالي سيأتي من الرقمنة في آسيا وحدها.
وإضافة إلى ذلك الذكاء الاصطناعي وهو أمر بالغ الأهمية ليس فقط في تعزيز النمو الاقتصادي والأمن السيبراني، لكن أيضا في النزاعات العسكرية، حيث إن الولايات المتحدة تتمتع بمزايا في هذا المجال، ويمكن أن يؤدي تعاونها مع كوريا الجنوبية إلى سد ثغرات مهمة في كل من المنظومة الاقتصادية وفي الأمن القومي لكوريا الجنوبية".
وفي الواقع فإن تراجع القاعدة الصناعية للولايات المتحدة خاصة في المجالات الحساسة مثل أشباه الموصلات تدفع بواشنطن إلى تعزيز قاعدتها الصناعية عبر اللجوء إلى حلفاء مثل كوريا الجنوبية، إذ أعلنت الشركات الكورية الجنوبية عن استثمارات تقارب 40 مليار دولار لبناء قاعدة للصناعة والبحث والتطوير في الولايات المتحدة، بما في ذلك قرار لشركة سامسونج ببناء مصنع ثاني لأشباه الموصلات في الولايات المتحدة.
من جانبه، قال إل.تروي الباحث في شؤون شرق آسيا، إن "النقص العالمي في أشباه الموصلات يعد انعكاسا للطلب العالمي المتزايد على السلع الاستهلاكية المعمرة، وهذا الوضع أدى إلى إبراز أهمية كوريا الجنوبية للولايات المتحدة، حيث إن صناعة أشباه الموصلات في كوريا الجنوبية تمثل 20 في المائة من السوق العالمي لأشباه الموصلات، وفي بعض الأنواع تبلغ حصة شركات مثل سامسونج نحو 70 في المائة وفي أنواع أخرى 50 في المائة.
وعلى مستوى الشركات، فإن شركة سامسونج وشركة تي إس سي إم التايوانية هما القادرين على إنتاج أشباه الموصلات الأكثر تقدما في العالم، كما أنهما تشاركا مع جامعة هارفارد الأمريكية لتطوير نوع جديد من أشباه الموصلات يعتمد على كيفية عمل الدماغ البشري "
وبينما تتمتع كوريا الجنوبية بمزايا في مجال أشباه الموصلات، فإن الولايات المتحدة تحقق مزايا نسبية -بالطبع مع دول أخرى- في مجال معالجة البيانات والذكاء الاصطناعي، وتدرك سيئول أهمية هذه المجالات لمستقبل صناعاتها، وهو ما يجعل التعاون الثنائي بين الطرفين يحقق مصالحهما المشترك في آن واحد.
مع هذا يجد البروفيسور فريدي آرثر أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة أبردين، أن هناك مجموعة من العوامل تجعل الشراكة المستقبلية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية شراكة ذات طابع استراتيجي.
وقال إن "الشركات الكورية الجنوبية تعد شريكا رئيسا للولايات المتحدة في جهودها للانتقال إلى عالم السيارات الكهربائية، وستقوم شركات كوريا الجنوبية ببناء 11 من أصل 13 مصنعا للبطاريات كبيرة الحجم من المقرر بناؤها في الولايات المتحدة بحلول عام 2025، ويزداد هذا التعاون أهمية مع إبقاء الصين لصانعي البطاريات الكوريين الجنوبيين خارج أسواقها، لذلك فإن شركات كوريا الجنوبية لديها مصلحة استراتيجية في الشراكة مع الولايات المتحدة".
ويستدرك قائلا: "التغيرات الديمجرافية في كوريا الجنوبية تلعب دورا فاعلا في تعزيز التحالف الاقتصادي بين واشنطن وسيئول، فعدد السكان في سن العمل في كوريا الجنوبية آخذ في الانخفاض منذ عام 2017، بينما بدأ إجمالي عدد السكان في الانخفاض منذ عام 2020، كما أن التركيبة السكانية ستؤثر في الأمن القومي لكوريا الجنوبية، وسيتم تخفيض الجيش من 620 ألف مقاتل إلى نصف مليون جندي، لكن استمرار الانخفاض في معدلات المواليد يعني أن الجيش الكوري الجنوبي القائم على التجنيد الإجباري سيواجه تخفيضات إضافية حتى منتصف القرن تقريبا، وأحد الحلول الرئيسة لمواجهة تلك المشكلة ستكون الاعتماد بشكل أكبر على التكنولوجيا، وسيكون هناك حاجة متزايدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي الذي تحقق فيه الولايات المتحدة إنجازات كبيرة".
ويرى البعض أن كوريا الجنوبية واحدة من الحلفاء القلائل القادرين على المساهمة مع الولايات المتحدة في ثلاثة مجالات تعد حيوية لضمان مواصلة الولايات المتحدة لقيادتها للاقتصاد العالمي، وهي أشباه الموصلات والبطاريات ذات السعة الكبيرة والمستحضرات الصيدلانية، إلا أن بعض الخبراء يعتقدون أن هذا التعاون سيصطدم في بعض الأحيان بمجموعة من التحديات سواء في السياق الاستراتيجي أو الثنائي.
بدوره، قال الدكتور أوسكار جاك أستاذ العلوم السياسية في جامعة جلاسكو، إن "المشكلة الأولى التي ترتبط بتعزيز العلاقات التقنية بين واشنطن وسيئول تتعلق بقدرة البلدين على إقامة تحالف استراتيجي يلقى ترحيبا من الحلفاء الآخرين مثل اليابان وسنغافورة، وإدخال الشركاء الآخرين في هذا التحالف أمر له عديد من التعقيدات، وقد يضعف الثنائية الأمريكية – الكورية، كما أن إبعاد الحلفاء الآخرين قد يدفع إلى إيجاد ثغرات قد تسمح لمنافسي الولايات المتحدة للولوج منها وإيجاد جبهات أخرى تستنزف خلالها الموارد في صراعات جانبية، والجانب الآخر أن التعاون بصفة عامة في المجال التقني ليس دائما سهلا، وإيجاد التوازن بين المصالح المحققة للاقتصاد الوطني ومصالح الحلفاء تبدو صعبة".
ويواصل قائلا: إن "الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية لديهما مصلحة في الحفاظ على صناعة قوية لأشباه الموصلات، لكن كوريا الجنوبية ستكون مترددة في رؤية صناعتها الخاصة، تستغل من أمريكا لإحياء صناعاتها، التي يمكن أن تكون منافس لها في يوم من الأيام، كما أن كوريا الجنوبية قد لا تقف مع الولايات المتحدة في عدائها للصين بالدرجة ذاتها التي ترغب فيها واشنطن، ويصعب على سيئول أن تتخذ خطوات تستهدف الصين بشكل مباشر"
لكن بصرف النظر عن الآفاق والتحديات التي تواجه المرحلة الجديدة من العلاقات الأمريكية الكورية الجنوبية، فالمؤكد أن منطقة جنوب شرق آسيا تشهد شراكة استثمارية بين واشنطن وسيئول تضع الأرضية لمرحلة نوعية من التطور التقني تتجاوز آثاره حدود المنطقة والقارة الآسيوية برمتها.