بعد مئات السنين من الاستعباد والغزو المُتعاقب، انتفضت الأمة المصرية- سنة ١٩١٩م- لتصنع مصيرًا جديدًا بثورة شعبية طرحت في أرض المحروسة أحلام وردية وآمال تتطلع للحرية والعدالة والحكم الذاتي. ثم تحول جزء كبير من تلك الأحلام-سنة ١٩٢٣م- إلى دستور يُنظم الواقع الجديد، لكن لسوء حظ الشعب المصري! عجز دستور ١٩٢٣م- أول دستور مصري- عن حماية مُكتسبات المصريين أو جني ثمار ثورة ١٩١٩م التي دفع تكاليفها من دمه وروحه، ولسوء الحظ أيضاً- كما يقول الكاتب الصحفي صلاح عيسى- "كانت تحوم نظرية المُستبد العادل فـي أُفق السياسة المصرية العربية مُنـذ مُنتصـف الثلاثينيـات وكانت هي التي حرمت الشعب المصري جانبًا من أهم ثمار ثورة ١٩١٩م، وهي حقه في أن يحكم نفسه بنفسه، وفـي أن تكون الأمة مصدر كل السلطات، بتحريض من هؤلاء الذين حجبت الأمة ثقتها عنهم، ولم تمنحهم أصواتها في الانتخابات العامة، فشجعوا الملك فؤاد، ومن بعده الملـك فاروق على الانقلاب علـى الدسـتور أو علـى تزويـر الانتخابات أو كليهما وأقروا مبدأ أن الملك يملك ويحكم، وهو المبدأ الذي قامت عليه فيما بعد كـل دسـاتير البطريركيـة الثورية وغير الثورية، الملكية والجمهورية!".
نشر صلاح عيسى-سنة ٢٠٠١م- كتابًا بعنوان "دستور في صندوق القمامة" للمشاركة في الحوار المجتمعي المصري للبحث عن حل آمن للخروج من سطوة الدستور الأبوي؛ فبعد خمسة عشر عامًا من المطالبة بتعديلات دستورية عامة تُناسب تطلعات الشعب المصري، تحولت تلك المطالبات إلى لجان مناقشات مُصغرة ومُوسعة، وشارك الكاتب في بعض تلك اللجان وتناول تلك التجربة حتى نهايتها بالعرض والنقد، ويُشير الكاتب إلى الدافع لتأليف كتابه عن دستور ١٩٥٤م في ذلك التوقيت، الذي يراه الأنسب لإجراء تعديلات دستورية جادة، تصاحبها تعديلات جذرية للنظام السياسي العام؛ فقد كتب أنها "الفترة المناسبة للانتقال من الأوضاع المؤقتة والاستثنائية التي تعيش في ظلها مصر منذ عام ١٩٧١م، إلى أوضاع ثابتة ومستقرة، بتهيئة انتقال سلمي للسلطة يتحقق فيه الاستقرار بإرادة الناس، وليس بسطوة قانون الطوارئ وبوفرة الحراس، على نحو يتواءم مع دور مصر، ومع متطلبات الألفية الثالثة. لذلك يعود الكاتب إلى وثيقة مشروع دستور ١٩٥٤م، ويعتبرها أساسا صالحا لأي إصلاح دستوري يقوم في مصر أو في غيرها من البلاد العربية.
تنقل عيسى في كتابه بين كل أطراف اللعبة السياسية في مصر- بداية الألفية الثالثة- بنظرة تحليلية قريبة كشريك في الأحداث، ثم قرر على مدار صفحات كتابه أن تكون نقطة البداية بتحليل عناصر المجتمع المصري منذ ثورة ١٩١٩م وأدوارهم في صناعة أول دستور مصري سنة ١٩٢٣م، ثم تابع التغيرات الاجتماعية وملامحها والظروف التاريخية التي ولدت دساتير تعبر عن هذه العناصر وتلك الملامح. كان من أكثرها نُبلاً- من وجهة نظر صلاح عيسى- هو مشروع دستور ١٩٥٤م، الذي يقول عنه "يبدو مشروع دستور ١٩٥٤ الذي وضعته عام ١٩٥٤م لجنة الخمسين، والتي كان يرأسها المرحوم علي ماهر باشا وقدمته إلى مجلس قيادة الثورة في ١٥ أغسطس من ذلك العام، فألقاه كما يقول المرحوم الدكتور وحيد رأفت في صندوق القمامة- وعثرنا على نصه الكامل في صندوق أوراق مهملة بمخزن مكتبة معهد الدراسات العربية التابع للجامعة العربية بالقاهرة- أساسًا صالحًا لأي إصلاح دستوري يقوم في مصر، أو يقوم في غيرها من البلاد العربية، فهو يصوغ مشروعًا لنظام جمهوري نيابي برلماني، ويُمكن بتعديل طفيف في بعض الصياغات أن يكون أساسًا لنظام ملكي دستوري، بعد أن أثبتت التجربة أن المُفاضلة ليست بين النظام الجمهوري والنظام الملكي، فمن بين النـُظم الملكية ما هو أكثر قربا للشعب وتمثيلاً له من النُظم الجمهورية، ولكن ينبغي أن تقوم على المُفاضلة بين نظام استبدادي ونظام ديمقراطي".
ربما كانت أهم العقبات التي واجهت إجراء أي تعديلات سياسية أو دستورية حقيقة- وقت نشر الكتاب- تتناص مع ظروف إلقاء دستور ١٩٥٤م- النادر المثال كما يقول الكاتب- في صندوق القمامة؛ حيث يرى صلاح عيسى أنه بعد مرور سنوات طويلة صارت النخبة والسلطة والشعب انعكاسات لبعضهم البعض، نُسخ مُتشابهة برغم الاختلافات الشكلية؛ فحين حضرت ساعة تحديد مصير جديد تراجع الجميع مُكبلين بالخوف، من التغيير ومن أحدهم الآخر. يقول عيسى "ومن الإنصاف للنظام الحاكم أن نعترف بأنه ليس هو وحده الذي يعارض إدخال تعديل جذري على النظام الدستوري القائم منذ ۱۹۷۱م، بل منذ عام ١٩٥٦م، إذ الحقيقة، أن كثيراً من القوى السياسية والأحزاب، التي تُشكل التيارات الرئيسية في مصر، كانت ولا تزال تتحفظ بقوة استناداً إلى هواجس سياسية وأيديولوجية ومخاوف تتلبس بعضها تجاه البعض الآخر، وتتولد من ضعفها جميعاً على الدعوة لإدخال هذا التعديل "ولعل أكثر تلك الهواجس ظهوراً أن تغيير الدستور باب يسهل فتحه ويستحيل سده، أو التحكم في قوى الرياح التي تدخل منه، نتيجة لحالة الاستقطاب الفكري والسياسي السائدة في المجتمع بين الإسلاميين والعلمانيين وبين اليساريين والليبراليين، وبين القوميين العرب والوطنيين المصريين، فضلا عن الصراعات بين قوى الضغط الاقتصادية والسياسية، الظاهرة والخفية، الخارجية والداخلية"، ويرى عيسى أن بعضاً من تلك الهواجس "المشروعة" كانت من بين الأسباب التي دفعت الرئيس مبارك للإعلان عن أنه ليس في نيته أن يقوم بأية إصلاحات سياسية أو دستورية جذرية خلال دورة رئاسته الرابعة. ولم يكن هناك جديد في الأسباب التي استند إليها الرئيس مبارك في تبريره للعزوف عن القيام بإصلاحات سياسية جذرية، خلال فترة ولايته الرابعة، ومنها "التعلل بضرورة إتمام الإصلاح الاقتصادي أولًا، ثم بتصفية الإرهاب والتطرف ثانياً ليسود مناخ من الهدوء ثالثًا، يُمكن بعده التفكير في إحداث الإصلاحات السياسية والدستورية؛ لأن الشُروع بهذه الإصلاحات في ظروف التوتر الاجتماعي يمكن أن يُعرّض البلاد إلى قلاقل سياسية تُهدد الاستقرار، والقيام بها في ظرف تصاعد موجة الإرهاب والتزمت الديني يمكن أن ينتهي بأن يتولى الإرهابيون المتزمتون الإسلاميون السلطة".
يعتقد عيسى أنه في ظل دساتير البطريركية الثورية- على مدار عشرات السنين- وما أفرزته من أوضاع سياسية، تخلفت التيارات السياسية الرئيسـيـة فـي المجتمع العربي، وعجزت عـن تجديـد رؤاهـا، بل لعلها قد ارتدت إلى مـا هـو أسـوأ مـن ذلـك؛ "فالليبراليون العرب، هم في الأغلب الأعم فاشيون، والقوميون العرب، هم في الأغلب الأعم عُنصريون، والماركسيون العرب هم في الأغلب مُتعصبون متهوسون. ولا مفر من أن نضع فأس المسئولية عـن تـدهور وانحطاط الخطاب السياسي العربي علـى صـعيد النخـب الحاكمة والمعارضة وعلى صعيد الجمـاهيرـ فـي عُنـق الدولـة المعصـومة الاستبدادية التي سادت كنمط للحُكم العربي طوال النصـف الثاني من القرن العشرين، وهي الوجه الآخر للدولة الدينية، فهي دولة تعتبر مُعارضتها كفرًا بالله أو خيانة للوطن، ولا تتصور أنها تفعل شيئا يدعو لنقدها أو أن من حـق أحـد أن ينقدها أو يطالب بتغييرها، وليس لديها لمن يفعل ذلك سـوى السجون والمشانق والمجالد، وكانت الحيلولة دون قیام مثل هذه الدولة، هي أحد أهداف الذين وضعوا دسـتور ١٩٥٤م".
ينقسم كتاب "دستور في صندوق القمامة" إلى تقديم للدكتور عوض المر، ومدخل- الجمهورية البرلمانية هي الحل- وثلاثة فصول، وأخيرًا النص الكامل لمشروع دستور ١٩٥٤م. وتنقسم الفصول الثلاثة إلى الفصل الأول بعنوان "البحث عن مُستبد عادل" ويعرض فيه الكاتب تطور مفهوم المُستبد العادل الذي بدأت بذرته من تقرير اللورد دوفرين المفوض البريطاني بعد هزيمة الثورة العرابية وتقرير اللورد ملنر بعد ثورة ١٩١٩م، وقد قررا أن الشعب المصري أعجز من أن يحكم نفسه بنفسه، وربما يؤدي حكمه لنفسه إلى الهاوية، ثُم يتبنى لطفي السيد فيلسوف حزب الأمة المُعتدل نظرية أن الشعب المصري غير مؤهل للحكم الديمقراطي، كما أعلنت أقليات حزبية عقب إعلان دستور ١٩٢٣م ومنهم عبدالعزيز فهمي باشا الذي يؤمن أن "الدستور يُعطي الشعب القاصر الجاهل حُريات يسيء استخدامهما!"، بينما يعتقد إسماعيل صدقي باشا أن "المصريين مجموعة من الخراف تجمعهم صفارة وتفرقهم عصا". في حين كان التيار الثوري في الحركة الوطنية منذ أحمد عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد وصولاً إلى سعد زغلول يربط الاستقلال والحرية بالديمقراطية. ويُبدي الكاتب دهشته من تبني ثورة يوليو ١٩٥٢م نظرية اللوردين وفرين وملنر وأحزاب الأقليات السياسية مثل عبد العزيز باشا فهمي وإسماعيل باشا صدقي. بل إن عفريت المستبد العادل قد خرج من القمقم رغما حتى عن رغبات محمد نجيب وجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر في بداية مشوار الثورة، ومن المعروف أن مجموعة الضباط الأحرار كانت ستتحرك عام ١٩٥٥م لولا أحداث حريق القاهرة ١٩٥٢م التي عجلت بالأحداث، ومن المعروف كذلك أن هدف الأحرار كان فقط السيطرة على الجيش وتطهيره، لكن الأقدار لا يمكن السيطرة عليها!.
يتناول الفصل الثاني دساتیر عصر البطاركة، وهو المصطلح الذي يُطلقه صلاح عيسى على فترة ما بعد التخلص من دستور ١٩٥٤م، الذي يهَدّد النظام الأبوي ويعتمد على الحكم البرلماني ويُشكل فرصة نادرة لحُكم الشعب لنفسه، ثم ينتقل عيسى إلى الأحداث المتلاحقة في مصر والمنطقة العربية وتأثيرها على خروج دستور ١٩٥٦م ودساتير أخرى، منها ما هو مؤقت وما هو مُشترك وقت الجمهورية العربية والاتحاد الثنائي المصري السوري والاتحاد الثلاثي المصري السوري العراقي، ثم عرض المؤلف وناقش دستور ١٩٦٤م، ودستور ١٩٧١م وتعديلاتهما، ويرى الكاتب أن تلك الدساتير كافة تلتقي تحت مظلة الدساتير الأبوية البطريركية كما هو واضح من عنوان الفصل، ولم يتغير هذا الواقع حتى يوم نشر الكتاب. ويشير عيسى بأصابع الاتهام إلى الذين حرضوا ثوار يوليو- في الشهور الأولى للثورة- على الانقلاب على الدستور والانصراف عن الطريق الديمقراطي، وفي مقدمتهم ثلاثة أسماء أولهم عبدالرازق السنهوري باشا- رئيس مجلس الدولة- وثانيهم سليمان حافظ- وكيل مجلس الدولة- وثالثهم فتحي رضوان- رئيس الحزب الوطني الجديد وأحد مؤسسي حزب مصر الفتاة في فترة الثلاثينات- ولم يكن هؤلاء وحدهم بل انضم إليهم الكثيرون وفي طليعتهم جماعة الإخوان، التي ظنت أن تشجيع الضباط الأحرار على التخلص من الأحزاب والدستور سيُفرغ الساحة لهم تماما للسيطرة على الحكم. لا سيما أن جماعة الإخوان كانت لا تزال تُؤمن أن خمسة من أعضاء مجلس الثورة الاثني عشر، لا يزالون يتمسكون ببيعتهم للمرشد العام "حسن البنا" وهم "الأخ" جمال عبد الناصر و"الأخ" عبد الحكيم عامر و"الأخ" كمال الدین حسین، و"الأخ" عبد المنعم الرءوف و"الأخ" أنور السادات.
يعقد صلاح عيسى في الفصل الثالث مُقارنة بين دستور الباشاوات ودستور الثوار، وقد اعترف بمُكتسبات المصريين في الدساتير الأبوية عصر البطاركة، بل أبدي عيسى إعجابه بكثير من الحقوق الاجتماعية والإنسانية التي كفلتها الدساتير الأبوية الثورية، والتي تتطابق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والحقوق الدولية، ويظهر ذلك واضحاً في مُكتسبات مثل التعليم والعمل وحقوق المرأة، وكثير من الحقوق الشخصية كالحق في الحرية والخصوصية والعقيدة، والحرية في الإبداع والبحث العلمي، وكفالة الخدمات الصحية وتحسين مستوى المعيشة والمسكن والغذاء، ويعتقد الكاتب في مقارنته أن الدستور الليبرالي ١٩٢٣م والدساتير البطريركية تتلاقى كثيرًا، بل ربما تتفوق دساتير العصر الأبوي في التأكيد على جوانب اجتماعية بشكل مثالي، بينما تكمن الخلافات في نظام الحكم العام، وقد تتعرض كثير من بنود الحريات الشخصية للمساس إذا تم المساس بنظام الحكم؛ فمُعظم المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية وحريات البحث والصحافة والرأي مرهونة بدعم وتأييد الحاكم، ولكن لسوء الحظ الشعب المصري! أن ما كفلته الدساتير البطريركية من حقوق وحريات احتفى بها الكاتب، باتت هي الأخرى أحلام وردية وآمال مُستحيلة! نظراً لسيادة قانون الطوارئ الذي انقض على المصريين عام ١٩٥٢م واستمر حتى لحظة نشر كتاب دستور في صندوق القمامة.