رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الإسكندرية التى هجرها عشاقها

6-9-2017 | 15:02


بقلم : إقبال بركة

 "يا إسكندرية بحرك عجايب.. يا ريت ينوبنى من الحب جانب.. تحدفنى موجه والبحر هوجه والصيد مطايب.. أغسل هدومى وأنشر همومى على شمس طالعه وأنا فيها دايب".

 لا أعرف من الذى كتب تلك الأبيات الجميلة, ولكننى عشت فترة طويلة من عمرى بالإسكندرية ودرست بجامعتها والتقيت فيها بشريك حياتى وأنجبت ابنى وابنتى, والإسكندرية ببحرها فى كل أحواله هادرا مزمجرا صاخبا، أو هادئا كموج من حرير ألهمتنى حب الحياة, وعلمتنى عشق الجمال, كانت عائلتى تعيش فى حى سيدى بشر بالرمل، لذلك كانت قبلتنا السياحية منطقتى المنتزة والمعمورة, تلك الرقعة البديعة التى ينطق كل شبر فيها بإبداع الخالق ويحكى أحداث التاريخ، اكتشفها الخديوى عباس حلمى الثانى فى أوائل القرن الماضى وشيد فيها مصيفا ملكيا سماه "المنتزة" يعتبر بمبناه وملحقاته وحدائقه الغناء تحفة معمارية لا مثيل لها, ثم أصبحت المصيف المفضل لكل الملوك والرؤساء إلى أن رأى جمال عبد الناصر أن يستمتع الشعب أيضا بمصيف ينافس المنتزة فأمر بتشييد المعمورة فى الرقعة المجاورة للمنتزة والتى لا تقل عنها جمالا وبهاء.

منذ أن أسسها الإسكندر المقدونى فى القرن الرابع قبل الميلاد أصبحت الإسكندرية مرفأ يلهم قريحة الشعراء والأدباء بأروع القصائد والروايات، وقد تغنى بجمال جوها وترابها ونبيذها الشعراء (إسكندرية ماريا وترابها زعفران), وأقام فيها عظماء الرومان منازل جميلة وكانوا يأتون من روما لقضاء بعض الوقت فيها, وسموها مارية.

وفى العصر الحديث شيد بها أمير الشعراء أحمد شوقى داراً كبيرة أطلق عليها اسم "درة الغواص"، وكان يقضى فيها شهور الصيف كلها، ويستقبل فيها الأدباء والفنانين والشعراء, وقال فيها:

إســــكـــندريـــــــة يا عــــروس المــــــــاء وخميلـــــة الحكمـــــــاء والشــــــــــعراء

نشــــــأت بشاطئك الفنون جميلة وترعـــرعت بســـــمائك الزهـــــــــراء

جاءتك كالطير الكريــــم غرائباً فجمعتـــهـــــا كالربــــــــــوة الغنــــــــــــاء

غرســـوا رباك على خمائل بابــــل وبنوا قصـــــورك فى سنا الحمراء

  • بها العديد من الأدباء الأوروبيين، ومن هؤلاء الشاعر اليوناني كونستانتين كفافيس, الذى ولد في الإسكندرية في 17 أبريل1863، وعاش مع أسرته فى حي العطارين، والتقى بالكاتب "إي. إم. فورستر"، الذي كان متطوعا في الصليب الأحمر أثناء الحرب العالمية الأولي، وكتب روايته الشهيرة "الطريق إلى الهند" في نفس الفترة, كما ألف كتابه "الإسكندرية.. تاريخ ودليل" وصارا صديقين، وكانا يلتقيان بأصدقائهما المثقفين الأجانب في مقهاهم المفضل التريانون.

ومن عشاق الإسكندرية الكاتب البريطانى لورانس داريل الذى عاش بها من عام 1945 إلى 1956, وكانت فاتحة خير عليه رفعته إلى مصاف الروائيين العالميين برباعيته التى كتبها بين عامي 1957 و1960، وصورت الإسكندرية المدينة الكوزموبوليتانية التى جمعت كل الحضارات فى كل تفاصيلها ومعالمها كما وصفها داريل قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية, وعلاقة الأوروبيين بالطبقات العليا في المجتمع المصري في حينه, المؤسف أن الإسكندرية التى عشت فيها صباى وأجمل أيام العمر، وكانت تتربع فوق قمة سكندريات العالم كالمدينة الأعرق والأجمل لم تعد موجودة، اختفت "عــــروس المــــــــاء وخميلـــــة الحكمـــــــاء والشــــــــــعراء" بعد أن سيطر المقاولون عليها وهدموا مبانيها الأثرية الفاخرة وفيلاتها الأنيقة ليبنو أبراجا فى كل شبر من جسدها المعتل, حرمت سكان المدينة من النور والهواء والراحة, توارت الإسكندرية متعددة الجنسيات التى ألهمت الكتاب والشعراء العالميين ووصفها الكاتب الصعيدى إدوار الخراط "لؤلؤة العمر الصلبة في محارتها غير المفضوضة" و"سفوحها ناعمة غضة بالزروع اليانعة، بالسوسن والبيلسان، ترابها زعفران", ضاعت الإسكندرية فى زحام المبانى فى الحارات الضيقة وهجرها عشاقها.