رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


نذر حياته للبحث عن الحقيقة .. محفوظ عبد الرحمن .. المسرحي القدير

9-9-2017 | 13:09


بقلم: د.عمرو دوارة

رحل عن عالمنا الأديب المبدع الكبير محفوظ عبد الرحمن يوم السبت الموافق 19 أغسطس 2017 بعد فترة صراع مرير مع المرض، أضطر خلالها إلى السفر - على نفقته الخاصة - للعلاج بالخارج أكثر من مرة!! والحقيقة أننا فقدنا برحيله قامة أدبية ومسرحية شامخة، وفرعا كبيراً وعزيزاًَ من فروع شجرة الإبداع العربي المعاصر، خاصة وأنه كان بجميع أعماله - التي جمع فيها بتميز بين كل من الفلسفة والإبداع - دائم الانحياز إلى الأغلبية الكادحة، وكذلك لقضايا التنوير وإلى قيم الحق والعدل والخير والجمال.

بمجرد إذاعة خبر رحيله ازدحمت جميع صفحات التواصل الاجتماعي برسائل الرثاء والعزاء، ليس فقط من قبل مجموعات الأقارب والأصدقاء والزملاء بل ومن القاعدة العريضة من جمهوره الذي يعرف قدره جيدا، خاصة بعدما تابع بشغف عبر السنوات الماضية كثيراً من إبداعاته بمختلف القنوات الفنية، فتعلق بشخصياته الدرامية التي برع في رسمها سواء كانت مستوحاة من وحي أفكاره وخياله أو من بعض الشخصيات التاريخية (كعنترة بن شداد والخديو وديليسيبس وسليمان الحلبي) أو من بعض الشخصيات المعاصرة كبيرم التونسي وأم كلثوم وجمال عبد الناصر وعبد الحليم حافظ.

تميزت جميع كتاباته بصفة عامة بمهاراته الرائعة وقدرته الفائقة على تقديم حبكة درامية محكمة الصنع، يجمع فيها بموهبته وخبراته وذكائه بين الفكر والمتعة، وتعتمد بالدرجة الأولى على كثير من المفارقات الدرامية المدهشة، مع استخدامه وتوظيفه الجيد والبديع لكافة الحيل الدرامية (من قصص حب، ومغامرات مثيرة، وفقرات مدهشة من المرح والكوميديا الراقية)، كما تميزت بصياغته الحوارية الراقية والبديعة التي تتناسب مع كل شخصية من الشخصيات الدرامية، والتي تتخذ من لغة التكثيف المعبرة والجمل التليغرافية القصيرة الموحية والتي تفيض بالحكمة والذكاء والشاعرية سمة أساسية لها.

نجح القدير محفوظ عبد الرحمن بوعيه وخبراته في العودة إلى التاريخ كثيراً ليستحضر منه ما يتناسب مع اللحظة الراهنة ويلقي بظلاله على كثير من القضايا والأحداث المعاصرة. وهو حينما يحرص على العودة إلى التاريخ لا يعود إليه برؤية تسجيلية لإعادة رصد بعض الأحداث، ولكن يعود إليه بعين خبيرة فاحصة تعيد قراءة الأحداث وتربط بينها وتعقد المقارنات لكشف كواليس وخبايا بعض أحداثها، وذلك كله بهدف الاستفادة من خبرات الماضي في قراءة الحاضر والتطلع للغد. فهو عاشق حقيقي للدراما ويسبر أغوارها جيدا، وبالتالي يستطيع وبتفوق توظيف اللعبة الدرامية ليلقي من خلال أعماله - وباعتماده على إطار الحكاية الشعبية البسيطة - بكثير من الظلال على أحداث الواقع الآني من خلال بناء درامي متماسك ومتصاعد وشديد التشويق.

نذر الكاتب المبدع محفوظ عبد الرحمن حياته للبحث عن الحقيقة ونشرها عبر الدراما التاريخية الواعية التي تساهم في الارتقاء بمستوى التذوق الجمالي ونشر الوعي فتنير البصائر والعقول، وبالتالي فقد حرص في جميع أعماله الخالدة على مخاطبة عقولنا ووجداننا وقلوبنا بمجموعة من الأعمال الرصينة التي تجمع بين الفكر والمتعة ومن بينها على سبيل المثال وليس الحصر: "الزير سالم"، "عنترة بن شداد"، "ساعة ولد الهدى"، "القادسية"، "ليلة مصرع المتنبي"، "محمد الفاتح"، "ليلة سقوط غرناطة"، "الكتابة على لحم يحترق"، "الفرسان يغمدون سيوفهم"، "سليمان الحلبي"، "بوابة الحلواني"، "أم كلثوم"، "ناصر 56"، "حليم"، و"أهل الهوى"، وغيرها كثير من الأعمال التليفزيونية والسينمائية، التي شاركه في تقديمها نخبة من كبار المخرجين وكبار الممثلين.

يحسب لمجموعة أعماله البديعة نجاحها في نسج إطار من المقاومة لكل الأوضاع العربية المترهلة، وسعيها إلى شحذ همم المواطن العربي حتى يستعيد أمجاد تاريخه، ويعمل الفكر فيما آلت إليه الحال في لحظته الراهنة. والحقيقة أن أهم ما يميز إبداعاته ككاتب هو إيمانه العميق بقيمة ما يكتب واقتناعه بدوره التنويري في المجتمع، ولذا فقد كانت جميع كتاباته وسيلة لتعريف الإنسان بحقيقة وجوده وحقه في الحياة والكرامة والحرية والعدل، خاصة وأنه كان شديد الاقتناع بأن الإنسان يستطيع أن يري بوضوح صورته ومعاناته من خلال الأعمال الدرامية الجادة، وربما يفسر ذلك انشغاله علي مدار مسيرته الأدبية بمختلف الأخطار التي تحيط بالإنسان العربي.

بدأت علاقته بالكتابة المسرحية متأخرة بعض الوقت، حيث بدأت مساهماته الإبداعية بصفة عامة بكتابة القصة القصيرة، فكتب أول قصة عام 1950، وإن لم ينشر أول مجموعاته القصصية "البحث عن المجهول" إلا عام 1967، ولكنه عمل قبل ذلك التاريخ بعالم الصحافة والنقد الأدبي، وبالتحديد منذ عام 1958 بكل من مجلات: "البوليس"، "الشهر"، "الهلال" و"السينما"، كما نشر ثاني مجموعاته القصصية "أربعة فصول للشتاء" عام 1984، في حين قام بكتابة أول أعماله المسرحية بعنوان "حفلة على الخازوق" عام 1977، وقد نشرت مع مسرحيته الثانية "عريس لبنت السلطان" عام 1978 بسلسلة "الكتاب الذهبي" التي تصدر عن مؤسسة "روزا اليوسف".

تبقى جميع مسرحياته علامات بارزة في مسيرة مسرحنا العربي، خاصة وأنها جميعا وكباقي إبداعاته الأخرى أعمال رصينة تحترم المتلقي، وبالتالي فإن كل نص منها كفيل بتقديم عرض ناجح مع أقل جهد إخراجي، ذلك إذا كان المخرج حريصا على توصيل الخطاب الدرامي مع الاستفادة من كل المميزات الكبيرة التي تتمتع بها نصوصه والسابق ذكرها، فيكون لزاما عليه الالتزام بالنص وعدم التدخل بتشويهه سواء بالحذف أو الإضافة. هذا وتضم قائمة إبداعاته المسرحية الأعمال التالية: حفلة على الخازوق، عريس لبنت السلطان، محاكمة السيد ميم، ما أجملنا، الحامي والحرامي، كوكب الفيران، إحذروا، الفخ، الدفاع، السلطان يلهو، بلقيس ملكة سبأ، السندباد البحري (للأطفال).

يستطيع الناقد المتابع للحركة المسرحية بمصر وباقي الدول العربية أن يقرر بأن جميع النصوص المسرحية البديعة لهذا الكاتب القدير قد قدمت تقريبا بجميع دول المشرق والمغرب العربي، كما أن معدل تقديمها على مستوى الفرق الاحترافية ببعض الدول العربية الشقيقة قد يكون أكثر جدا من معدل تقديمها بمصر!!، أما على مستوى فرق الهواة بمصر فالحقيقة أنه يصعب حصر عدد مرات تقديمها من خلال الفرق المختلفة للهواة بالعاصمة والأقاليم، حيث أعيد تقديمها عشرات المرات بصفة شبه دورية بكل من الفرق المسرحية بالمدارس والجامعات ومسارح هيئة قصور الثقافة وأيضا بفرق مراكز الشباب والفنون وفرق الهواة الحرة والمستقلة والمشهرة.

قدمت له فرقة "المسرح القومي" خلال مسيرتها مسرحيتين فقط هما: "ما أجملنا" من خلال نادي المسرح المصري (عام 1981)، و"بلقيس" (عام 2011)، في حين يعد المسرح الحديث أكثر الفرق انتاجا لنصوصه حيث قدمت له مسرحيات: "كوكب الفيران" (1986)، "عريس لبنت السلطان" (1987)، "الحامي والحرامي" (1989)، كما قدمت له فرقة "المسرح المتجول مسرحيتي: "إحذروا" (1984)، "محاكمة السيد ميم" (1987)، وكذلك قدم مسرح الطليعة مسرحيتي: "إحذروا" (1995)، "ما أجملنا" (1999)، والمسرحية الأخيرة قام بتقديمها مسرح الشباب أيضا (2008)، كما قدم مركز الهناجر للفنون مسرحية "عريس لبنت السلطان" (2001).

شارك في بطولة مسرحياته نخبة من كبار نجوم المسرح المصري ومن بينهم: سميحة أيوب، سميرة عبد العزيز، سهير المرشدي، ماجدة الخطيب، محمد رضا، أبو بكر عزت، حسن عبد الحميد، حسين الشربيني، أحمد راتب، توفيق عبد الحميد، لطفي لبيب، نجاة علي، نادية رشاد، سوسن بدر، تيسير فهمي، رغدة، هادي الجيار، سمير حسني، محمود التوني، سامي العدل، عادل هاشم، مخلص البحيري، سامي عبد الحليم، سلوى محمد علي، إنتصار، راوية سعيد، أحمد عبد الوارث، أحمد سلامة، سمير وحيد، عهدي صادق، سامي مغاوري، مفيد عاشور، أحمد صيام، نضال الشافعي، زين نصار، يوسف رجائي، علي عبد الرحيم، محمد دسوقي، محمود عبد الغفار، عادل أنور، مصطفى طلبة، أمل عبد الله، ياسر الطوبجي، حسام الشاذلي، أحمد السيد، سامح بسيوني.

سعدت وشرفت بثقته وموافقته على إخراجي لنصين من نصوصه لأول مرة، الأول هو نص "عريس لبنت السلطان"، من انتاج فرقة "مجانين المسرح" عام 1978، وديكور يوسف شاكر، وموسيقى خالد سلامة، وشارك في بطولته نخبة من هواة المسرح المخلصين في مقدمتهم: ممدوح عبد العليم (الغلبان)، ناصر سيف (القائد/ عياش)، أحمد مختار (المهرج/ عزة)، مجدي شكري (كبير المنجمين)، نجوى فكري (الأميرة ذهبية)، طارق عبد العزيز (شهبندر التجار)، مصطفى رجب (منصور مساعد كبير المنجمين)، والنص الثاني "السلطان يلهو"، لفرقة "مسرح الغد" عام 2002، وقامت بتصميم الديكور والملابس مهيرة دراز، وبوضع الموسيقى خالد سلامة، وشارك في بطولته كل من الفنانين: أحمد راتب (السلطان)، سميرة عبد العزيز (السلطانة)، خليل مرسي (قائد الشرطة)، سامي مغاوري (الوزير)، انتصار (فتاة الحانة)، عهدي صادق (صوت الشعب الساخر)، زين نصار (المعارض الثائر/ بشر الراعي)، يوسف رجائي (صاحب الحانة)، عادل أنور (الشرطي)، محمد دسوقي (اللص البلطجي).

حظى الأديب محفوظ عبد الرحمن في حياته بكثير من مظاهر التكريم إلا أن أكثرها قربا إلى قلبه وأفضلها قيمة بلاشك كانت حب الناس له وتقديرهم لشخصه، ويكفي أن نذكر أنه ربما المبدع الوحيد الذي لم يختلف أحد حول مدى استحقاقه لجائزة الدولة التقديرية عام 2003، بل أجمع عدد كبير من المثقفين على أن الجائزة قد تأخرت كثيراً وأنها قد حققت مصداقيتها بحصوله عليها. حقا لقد أنعم الله على هذا الكاتب الكبير بحب واحترام وتقدير وثقة الجميع، مما أهله لتولى كثير من المناصب الشرفية ومن بينها: رئيس رابطة كتاب السيناريو، الرئاسة الشرفية للجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، عضوية مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر (لأكثر من دورة)، رئاسة اللجنة العليا لمنح التفرغ بوزارة الثقافة (لعدة سنوات)، كذلك كرم بعدد كبير من المهرجانات الدولية والعربية المصرية، ومن مظاهر التكريم أيضا تنظيم حفل خاص لتكريمه من قبل زارة الثقافة خلال شهر ديسمبر عام 2015، والذي تم من خلاله إهداؤه أكثر من درع لجهات مختلفة من بينها: المجلس الأعلي للثقافة، الاتحاد العام للنقابات الفنية، نقابة المهن السينمائية، نقابة المهن التمثيلية، البيت الفني للمسرح، الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما

لا نملك في النهاية سوى الدعاء لهذا المبدع الكبير بالرحمة والمغفرة وجنة الخلد جزاء عشقه لبلاده وإخلاصه واجتهاده في عمله واختياره للطريق الأصعب دائما، وحرصه على إسعادنا بمخاطبة عقولنا ووجداننا وقلوبنا بمجموعة من الأعمال الرصينة، وسعيه الدائم للبحث عن الحقيقة ونشرها عبر مجموعة إبداعاته الدرامية الواعية التي ساهمت كثيرا في الارتقاء بمستوى التذوق الجمالي.