رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


معركة تحقيق المواطنة فى مصر

9-9-2017 | 15:26


عندما شكل سعد زغلول وزارته الأولى قدم قائمة بأسماء الوزراء كانت تشمل تسعة وزراء منهم ثلاثة وزراء مسيحيين.. لكن الملك فاروق رأى أن هناك خطأ فى الحساب طبقاً لنسبة عدد المسيحيين من بين جملة عدد سكان البلاد ورأى أن تقتصر القائمة على وزير مسيحى واحد.. وهنا رد عليه سعد زغلول قائلاً لكن رصاص الإنجليز لم يحافظ على هذه النسبة، فكان يطلق على المصريين كافة بدون تمييز، دون أن يراعى أن يقتل مسيحياً مقابل ثمانية مسلمين.. وصصم بالتالى سعد زغلول انطلاقاً بإيمانه بعدم التمييز بين المسلمين والمسيحيين على موقفه بالإبقاء على الوزراء المسيحيين الذين اقترحهم، ووافق فقط على تغيير وزير واحد مسيحى كان قد كلفه بوزارة الحقانية “العدل” لأنه كان يشرف على المحاكم الشرعية للمسملين.

هذا الموقف الذى تبناه الزعيم سعد زغلول هو ترجمة عملية حقيقية لمفهوم المواطنة، دون ما حاجة وقتها للقول بذلك.. فهو كان يؤمن بمبدأ المساواة وإعمال الكفاءة فى اختيار وزراء أول حكومة له، ولذلك لم يفهم مجرد تمثيل المسيحيين فى هذه الحكومة طبقاً لنسبتهم العددية من إجمالى عدد سكان البلاد.. وهذا هو الجوهر الحقيقى لمفهوم المواطنة الذى عرفته مصر فى وقت متأخر ولم تفكر فى النص عليه فى دستورها إلا مع بداية الألفية الثالثة، حينما قام الرئيس المصرى الأسبق بإجراء تعديل على دستور ١٩٧١ فى عام ٢٠٠٥ ثم جاء دستور ٢٠١٤ لينص على المواطنة والمساواة فى عدة مواد منه.. غير أن المواطنة لا تعنى فى جوهرها مجرد المساواة بين المختلفين دينياً ولكنها تعنى المساواة بين المختلفين فى الجنس والعقيدة والانتماء الاجتماعى والطبقى والعرقى بالإضافة للمختلفين فى الدين أيضاً.. إنها تضمن باختصار المساواة فى الحقوق والواجبات بين كل المواطنين مهما كانت اختلافاتهم ما داموا يشتركون فى أمر واحد وهو أنهم مواطنون.. المواطنة تظلهم جميعاً سواء كانوا رجالاً أو نساء، وكانوا مسلمين أو مسيحيين، وكانوا أغنياء أو فقراء، وكانوا ينتمون لأهل النوبة وأهل سيناء أو أهل الوادى.

تطور مفهوم المواطنة:

لكن هذا المفهوم للمواطنة اقترن ظهوره بظهور الدولة الوطنية أو القومية الحديثة.. أى بظهور الوطن كدولة.. فخلال الحقبة التاريخية التى سبقت ظهور الدولة كان الناس ينقسمون كسادة وعبيد ولم يكن للعبيد ذات الحقوق التى يتمتع بها السادة.. بل إن الدولة اليونانية القديمة فى أثينا كانت تحرم العبيد والنساء والعمال فضلاً عن الغرباء عن وصف مواطن، وبالتالى حرمتهم من المشاركة فى إدارة شئونهم وأمورهم والمساهمة فى ديمقراطيتهم.

إلا أنه مع ظهور الدولة الحديثة بدأ مفهوم المواطنة يتشكل ليعترف بحق أبناء وأهل هذه الدولة أو مواطنيها وأن يكون لهم دور فى إدارة شئونها.. وكانت البداية فيما صاغه الفيلسوف جان جاك روسو حول ما عرف فيما بعد بالعقد الاجتماعى الذى يبلور اتفاقاً بين أهل الدولة الواحدة وينظم حياتهم أو يحدد القواعد التى يلتزمون بها جميعهم، وهذا العقد الاجتماعى هو الذى تحول فيما بعد إلى الدستور بمفهومه الحالى.

واستقر مفهوم المواطنة بجوهره المعروف به وهو المساواة بين المواطنين فى الدولة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية مع الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الذى يقر بأن كل المواطنين متساوون فى الحقوق والواجبات، ولا يجوز التمييز بينهم بسبب الدين أو الجنس أو العنصر أو العقيدة.. فالمواطنون سواء أمام القانون، على كل دولة عضو أن تصدر قوانين داخلية خاصة بها تكفل عدم التمييز بين المواطنين، باعتبار المساواة حقاً من حقوق الإنسان وأن انتهاك حقوق الإنسان فى أى دولة يعتبر انتهاكاً للكرامة الإنسانية.

ورغم أن مصر لم تنص فى دستورها على مبدأ المواطنة إلا متأخراً فى عام ٢٠٠٥ إلا أنها حرصت على أن تشمل دساتيرها نصوصاً تقر بمبدأ المساواة بدون تمييز بين المواطنين كل المواطنين مهما اختلفوا فى الدين والجنس والعقيدة.. وربما يرجع ذلك لأن مصر كدولة عرفت بمبدأ المواطنة منذ سنوات قديمة وتحديداً عندما انفتحت من خلال البعثات التى نظمها محمد على المؤسس الأول للدولة المصرية الحديثة لأوربا.. حيث صاغ رفاعة الطهطاوى المفهوم المصرى الأول لمبدأ المواطنة حينما جعله يرتكز على ما أسماه المساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات.. وبعدما فرض هذا المفهوم للمواطنة نفسه على لائحة «دستور” ١٨٨١ بعد الثورة العرابية عندما نصت على أن يكون عضو مجلس الشورى من أبناء الوطن بالإضافة إلى حسن السير والسلوك.. وهذا المفهوم تبناه فيما بعد دستور ١٩٢٣ بعد ثورة ١٩١٩، حنيما ساوى بين المصريين جميعاً.

التطبيق العملى للمواطنة

غير أن النص على مفهوم المواطنة فى الدساتير المصرية المختلفة لم يكفل تحقيق هذه المواطنة على أرض الواقع.. صحيح أن مجلس الشورى الذى تشكل بعد لائحة ١٨٨١ كان ربع أعضائه من المسيحيين.. وصحيح أيضاً أن الممارسة السياسية من ١٩٢٣ إلى ١٩٥٢ كانت تتيح تمثيلاً معقولاً ومناسباً للمسيحيين فى المجالس النيابية.. إلا أن ذلك كان وجهاً واحداً من المساواة فقط بين المسلمين والمسيحيين، بينما المواطنة لا تختص فقط على المساواة فى التمثيل السياسى بين المسلمين والمسيحيين وإنما تتسع لتشمل نبذ كل مظاهر التمييز وأيضاً المساواة بين كل المواطنين.. الرجال والنساء، والأغنياء والفقراء.. حيث كان تمثيل النساء والفقراء فى البرلمانات يعكس تمييزاً واضحاً ضدهم.. وفوق ذلك فإن المساواة التى يقضى بها مبدأ المواطنة لا تقتصر على الميدان السياسى فقط وإنما تتسع لتشمل المجال الاجتماعى والاقتصادى والدينى وهو ما كان مفتقداً طوال هذه الفترة.

أما بعد ١٩٥٢، ورغم اهتمام قادة ثورة يوليو بتحقيق المساواة بين الرجال والنساء والفقراء والأغنياء، خاصة فى المجال الاقتصادى، فإنهم لم يمدوا نطاق هذه المساواة فى المجال السياسى.. بل وبمرور الوقت بدأ المسيحيون بصفة خاصة يفتقدون المساواة السياسية.. ومنذ السبعينيات من القرن الماضى بدأوا يشكون التمييز الاجتماعى، رغم أن مظاهر التمييز السياسى لم تكن وقتها ذات صيغة دينية.. كما أن التمييز الاجتماعى بدأ مع تنفيذ سياسات الانفتاح الاقتصادى التى أسماها كاتبنا الكبير أحمد بهاء الدين» انفتاح سداح مداح» أى بلا ضوابط والذى على أثرها سقطت فئات تحت خط الفقر، وقفزت فئات إلى أعلى درجات السلم الاجتماعى بما حققته من كسب سهل وسريع والأهم غير مشروع.

وهكذا.. فإن النص على المساواة، ثم على مبدأ المواطنة لم يضمن تحقيق هذا المبدأ على أرض الواقع.. وهذا يفسر لنا ما نراه من مظاهر تمييز واضحة وأحياناً صارخة ليس فقط تجاه المسيحيين، وإنما تجاه النساء والفقراء وأبناء الصعيد والمناطق الحدودية التى لا تنال نصيبها العادل من التنمية وبالتالى من الخدمات التى يتمتع بها أهل القاهرة والمدن الكبيرة فى مصر.

نحن لدينا دستور الآن يصون حقوق المواطنة للجميع ويشيع المساواة بين جميع المواطنين.. فهو ينص فى المادة ١٩ منه على إرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز فى التعليم، ويلزم الدولة فى المادة ١٩ بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز، وفى المادة ١١ بتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة فى جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وأيضاً الثقافية، وينص فى المادة ٥٣ منه على أن المواطنين لدى القانون سواء لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعى أو الانتماء السياسى والجغرافى.

ونحن لدينا العديد من القوانين التى تترجم جوهر وفحوى هذه المواد الدستورية وتقضى بالمساواة بين المواطنين وتجرم العديد من صور التمييز المختلفة، ربما كان أحدثها ذلك القانون الذى صدر لينظم عملية بناء الكنائس لعلاج العديد من المشاكل التى تواجه المسيحيين فى بناء وترميم كنائسهم، وإن كان هناك من تطلع لإصدار قانون موحد لبناء دور العبادة غير أن كافة الكنائس فى مصر اعتبرت هذا القانون الجديد خطوة متقدمة فى هذا الصدد.

لكن رغم ذلك فإننا لم نحقق بعد المواطنة التى نصبو إليها، وما زال مجتمعنا يعانى بعض مظاهر التمييز.. وذلك ناتج عن منظومة قيم اجتماعية ما زالت سائدة ولم تتغير تحض على عدم المساواة وترحب بالتمييز وترفض قيم ومبادئ العيش المشترك.. والأهم ولجود بعض المسئولين فى مواقع شتى يؤمنون بهذه القيم الفاسدة التى تتعارض مع الدستور، أو لوجود مسئولين أحياناً فى بعض المواقع يخشون من هؤلاء الذين يؤمنون بهذه القيم الفاسدة ولا يتجرأون على مواجهتهم لفرض قيم المواطنة والمساواة والعيش المشترك.. ولذلك تبرز لنا مشكلة خاصة بالمواطنة هنا أو أخرى هناك، كان أحدثها مشكلة صلاة المسيحيين فى إحدى قرى المنيا.. ولن تكون هذه المشكلة هى الأخيرة فى هذا الصدد.

فنحن يعيش بيننا فئات لا تعترف أصلا بالدولة الوطنية المصرية وتعترف فقط بدولة الخلافة، وبالتالى هى لا تؤمن بالمساواة بين المواطنين مع اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم.. إن هذه الفئات تعتقد أن الذين يستحقون أن يعاملوا كمواطنين ويتمتعون بحقوق المواطنة هم هؤلاء فقط الذين ينتمون لهم ويشاركونهم أفكارهم بل وعضوية جماعاتهم ومنظماتهم.. أما من لا يشاركونهم هذه الأفكار فهم لا حقوق لهم، وإنما هم فى أحسن الأحوال رعايا يجب أن يمتثلوا لتعليماتهم وأوامرهم، أو هم كفار يتعين تطبيق الحدود الشرعية عليهم، التى تقضى بقتلهم.. بينما يعتقدون أن الذين لا يشاركونهم دينهم فهم رعايا درجة أدنى.

إنهم باختصار لا يعترفون بأن النساء لهم ذات حقوق الرجال، ولا يعترفون بأن المسيحيين يستحقون المساواة مع المسلمين، ولا يعتقدون أن أهل سيناء أو النوبة مواطنون مصريون، ويحتقرون الفقراء ويرون أن التمييز تجاهم من سنن الحياة ويقره الدين.

والخطير أن هذه الفئات أو المجموعات تبث أفكارها الخبيثة هذه بين عموم الناس وتنشرها خاصة بين الأقل وعياً والأكثر فقراً فى البلاد.

إنهم يروجون للتعامل مثلا مع النساء بوصفها كائنات خلقت لإسعاد الرجال جنسياً ولخدمتهم فقط وليس لهم ذات حقوق الرجال ويتعاملون مع المسيحيين باعتبارهم أهل ذمة وليسوا مواطنين متساويين فى الحقوق والواجبات مع أشقائهم المسلمين.

ويتعاملون مع الفقراء باعتبارهم أشخاصاً يستحقون الصدقات وليسوا مواطنين لهم حقوق اجتماعية واقتصادية أساسية يجب على الدولة أن تكفلها بل ويتعاملون مع المخالفين لهم وغير المشاركين لهم فى أفكارهم الخبيثة باعتبارهم خونة ومخربين ومارقين والأخطر كفاراً وملاحدة.

وهكذا باسم الدين يهدرون مبدأ المواطنة فى كل ما يقولون ويفعلون.. والغريب أن ذلك يحدث رغم أن مبدأ المواطنة قد عرفه الإسلام فى وقت مبكر جداً، وتحديداً عندما هاجر المسلمون إلى المدينة ومعهم الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.. فقد شاءت الظروف وقتها أن يؤسس المسلمون دولة فى المدينة التى كانت بها مجموعات ثلاث: أهل المدينة الأصليين، واليهود الذين استوطنوها وسيطروا على التجارة، ثم المهاجرون، وهم عرب مكة الذين آمنوا بالإسلام وهاجروا للمدينة فراراً من اضطهاد أهل قريش.. وقتها وضع الرسول صحيفة يطلق عليها «صحيفة المدينة» أو دستور المدينة، وهذا الدستور أقر بالمساواة مع الاحتفاظ لكل منهم بدينه والإقرار بأن لكل منهم ما لغيره من الحقوق.. لكن هؤلاء يحتكرون فهما خاصاً وغريباً وشاذاً للدين ويريدون فرضه على الجميع، رغم أنه يتناقض مع جوهر الدين الإسلامى.. وهم لا يكتفون بمجرد الرغبة فقط وإنما يسعون لتحقيقها من خلال الترويج لأفكارهم هذه فى أوساط عموم الناس، مستثمرين نقصاً فى الوعى، ونقصاً فى فهم صحيح الدين، وأيضاً تقاعساً فى مواجهتهم أحياناً.

وهذا هو التحدى الأهم والأخطر الذى يواجه المواطنة فى مجتمعنا.. إنها ثقافة التمييز التى يتم الترويج لها ونشرها فى المجتمع وبشكل ممنهج ومخطط منذ سنوات، بواسطة فئات ومجموعات بل وتنظيمات وجماعات.. وهذه الثقافة الفاسدة هى التى تعوق ترجمة النصوص الدستورية الواضحة والصريحة حول المواطنة والمساواة إلى واقع حقيقى نعيشه ونمارسه، أو إلى مبادئ وقواعد نلتزم بها فى سلوكنا وتصرفاتنا وأفعالنا وأقوالنا.

بلا مواجهة قوية وصارمة لثقافة التمييز سوف نظل نعانى مشكلة أو مشاكل بخصوص تحقيق المواطنة فى مجتمعنا.. وهذه المواجهة تقتضى بالضرورة التصدى بشجاعة لتلك المجموعات والجماعات والتنظيمات والفئات التى تنشر وتروج للتطرف الدينى فى المجتمع.. وأحسب أن ذلك سيكون أحد شواغل أعضاء المجلس الأعلى لمواجهة الإرهاب والتطرف وهم يعدون ويصيغون الاستراتيجية الخاصة التى سوف تنتهجها البلاد فى مواجهة العنف والإرهاب.