الصومال.. الانتخابات ومستقبل الدولة
د. أيمن شبانة
مدرس العلوم السياسية
معهد البحوث والدراسات الإفريقية- جامعة القاهرة
فى الثامن من فبراير الجارى، وبعد مخاض شاق وطويل، أسدل الصوماليون الستار على العملية الانتخابية فى البلاد، حيث تم انتخاب رئيس جديد، لتكتمل العملية الانتخابية، التى بدأت بانتخاب أعضاء البرلمان الاتحادى، ولتبدأ بذلك صفحة جديدة فى تاريخ البلاد، التى تدور فى حلقة مفرغة من الصراع منذ العام ١٩٩١.
يعتبر تكوين البرلمان وانتخاب الرئيس استحقاقات دستورية تم إقرارها بموجب الدستور الصومالى المؤقت الصادر عام ٢٠١٢، والذى نص على انتخاب البرلمان والرئيس عبر الاقتراع الشعبى المباشر. لكن التعقيدات السياسية والأمنية والقيود المالية والتنظيمية حالت دون إجراء الانتخابات بالأسلوب المباشر. فطالب البعض بإرجاء إنشاء البرلمان حتى عام ٢٠٢٠. كما تأجلت الانتخابات الرئاسية لأكثر من مرة عن موعدها المقرر فى أغسطس ٢٠١٦، رغم انتهاء ولاية الرئيس حسن شيخ محمود فى العاشر من سبتمبر٢٠١٦.
استمر الجدل إلى أن تم التوافق على إجراء الانتخابات بشكل غير مباشر، بعد توسيع القاعدة الانتخابية لتصل إلى نحو ١٤ ألف مندوب، يمثلون كافة شرائح المجتمع والقوى السياسية، بما فيها النساء والشباب، ليقوموا بانتخاب أعضاء البرلمان، وذلك بخلاف البرلمان السابق، الذى تكون عام ٢٠١٢، بعدما اختير عن طريق هيئة مصغرة من زعماء القبائل والأعيان. كما تم التوافق على أن ينتخب البرلمان بدوره الرئيس الجديد للبلاد، تحت إشراف هيئة وطنية، هى مجلس القيادة الوطنى.
وبالفعل أجريت الانتخابات البرلمانية فى ديسمبر٢٠١٦، ليتشكل بموجبها برلمان جديد، يتكون من غرفتين هما مجلس الشيوخ (الغرفة الأعلى) ومجلس النواب (الغرفة الأدنى)، حيث يبلغ عدد أعضاء مجلس الشيوخ اثنين وسبعين عضوًا، بينما يضم مجلس النواب مائتين وخمسة وسبعين عضوًا، ليصل إجمالى الأعضاء إلى ٣٤٧ عضوًا، مقابل ١٣٥ عضوًا فقط للبرلمان السابق.
تلى ذلك التحضير لإجراء الانتخابات الرئاسية، حيث انتخب أعضاء البرلمان محمد عبد الله فرماجو، من بين واحد وعشرين مرشحًا، ليكون فرماجو هو الرئيس التاسع للصومال منذ استقلالها، وذلك بعد جولتين انتخابيتين، حصل خلالهما على ٧٢ صوتًا بالجولة الأولى، و١٨٤ صوتًا، بالجولة الثانية، متقدما بذلك على أقرب منافسيه، وهما الرئيس المنتهية ولايته حسن شيخ محمود والرئيس الأسبق شيخ شريف أحمد، اللذان اضطرا للانسحاب من السباق الانتخابى قبل إجراء الجولة التصويتية الثالثة.
يرى البعض أن الانتخابات الصومالية، سواء البرلمانية أو الرئاسية، كانت أقرب إلى صفقة سياسية، مع بعض المظاهر الانتخابية، حيث جرى اقتسام مقاعد البرلمان، ورئاسة البلاد، والمناصب القيادية الأخرى، وفقًا للعوامل القبلية والإقليمية، وليس حسب اعتبارات الكفاءة المهنية أو المؤهلات الشخصية.
وعلى سبيل المثال تم اختيار أعضاء البرلمان جميعًا على أساس المحاصصة القبلية والمناطقية، وليس على أساس الانتماء الحزبى، وذلك بتقسيم مقاعد البرلمان بغرفتيه بين الأقاليم الفيدرالية الستة المعمول بها داخل البلاد، بخلاف العاصمة مقديشيو، التى لم يحسم وضعها المستقبلى فى النظام الفيدرالى الجديد فى الصومال. وهو ما يبرر استمرار وجود معظم الوجوه القديمة فى مقاعد البرلمان. ويفسر أيضًا موافقة مجلس القيادة الوطنى، بمباركة الرئيس المنتهية ولايته حسن شيخ محمود على زيادة عدد مجلس الشيوخ من ٥٤ عضوًا إلى ٧٢ عضوًا، وذلك فى إجراء غير دستورى، بهدف ترضية بعض الولايات التى تمسكت بزيادة تمثيلها فى المجلس، ولاعتبارات مصلحية تتعلق بالانتخابات الرئاسية، لذا وصف البعض البرلمان الجديد بأنه برلمان زعماء القبائل وحكام الأقاليم.
لكن الطابع القبلى والإقليمى للبرلمان لا ينفى وجود تكتلات سياسية وفكرية أساسية داخله. وهنا يمكن التمييز بين ثلاثة تيارات هى: التيار الموالى لزعماء القبائل والولايات، والذى يتمتع بالأغلبية داخل البرلمان. والتيار الإسلامى، الذى يشمل ثلاث جماعات فرعية متنافسة هى: الإخوان المسلمين، وجماعة الاعتصام بالكتاب والسنة، وجماعة آل الشيخ. والتيار المستقل، الذى يضم عناصر من الأكاديميين المؤهلين علميًا، ويسعون للخلاص من سيطرة القبلية على الحياة السياسية فى الصومال، والاعتماد على معايير الكفاءة والنزاهة.
وفى هذا الإطار أيضًا كانت كفة التيار الموالى للزعامات الإقليمية والقبلية، هى الأقوى تأثيرًا فى اختيار الرئيس فرماجو، الذى ينتمى إلى قبلية الدارود، التى فازت برئاسة البلاد للمرة الأولى منذ عام ١٩٩١، وذلك بفضل انتشارها فى ربوع الصومال، واحتفاظها بخطوط اتصال قوية مع أعضاء البرلمان الذين ينتمون لأقاليم جنوب غرب الصومال وبونت لاند وجوبا لاند، والذين يمارسون أدوارًا مؤثرة على عملية صنع القرار داخل البرلمان، وذلك فى مواجهة التيار الإسلامى، الذى ساند الرئيس المنتهية ولايته فى انتخابات ٢٠١٢.
لكن ذلك لا يعنى اختزال العوامل المسئولة عن فوز فرماجو فى التحالفات القبلية وحدها، حيث تلقى الرئيس الجديد دعمًا قويًا من أطراف دولية إقليمية عديدة، لما يجسده من قيم وتوجهات معتدلة، تضمنها برنامجه الانتخابى، الذى ركز على قضايا الأمن، ومحاربة الفساد، ورفع مستوى معيشة المواطنين. كما استفاد فرماجو أيضًا مما تحصل عليه من تأهيل علمى ودبلوماسى، خلال سنوات طويلة قضاها بالولايات المتحدة الأمريكية التى يحمل جنسيتها أيضًا. وكذا نتيجة لخبرته السابقة التى اكتسبها خلال فترة تقلده لمنصب رئيس الوزراء فى عهد الرئيس شيخ شريف شيخ أحمد، والتى نجح خلالها فى ضبط الأوضاع الأمنية إلى حد كبير.
على أى حال، فقد جرت الانتخابات البرلمانية والرئاسية، فى أجواء معقدة للغاية، لدرجة أن البعض يعتبر أن مجرد إجرائها يعد إنجازًا فى حد ذاته، خاصة أنها تجرى فى دولة لم تعرف إلى الاستقرار سبيلًا منذ ربع قرن من الزمان، ولم تشهد انتخابات برلمانية أو رئاسية وفق أسلوب الاقتراع الشعبى المباشر منذ عام ١٩٦٩. وبالتالى لم يلتفت أحد إلى الانتقادات التى وجهت للعملية الانتخابية، والتى تقدح فى نزاهتها وتقلل من مصداقيتة نتائجها، وذلك من قبيل التزوير وتلقى الرشاوى، وشراء الأصوات، باعتبار أن الانتخابات أجريت فى ظل وجود مراقبين دوليين وإقليميين، وأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان.
وفى تصورى أن إجراء الانتخابات فى الصومال يعتبر خطوة مهمة على طريق الاستقرار فى تلك الدولة، لكن ذلك مشروط بمواجهة القادة الجدد للعديد من التحديات وأهمها: إقرار الأمن، واستعادة وحدة البلاد، وتحقيق المصالحة الوطنية، ومجابهة الفساد، وصياغة الدستور، وإعادة توطين اللاجئين والنازحين.
يأتى الأمن على رأس قائمة التحديات التى تواجه الصومال. وهى قضية فى غاية الأهمية، فى ظل رخاوة الدولة، وعدم قدرتها على السيطرة على حدودها البحرية والبرية الطويلة، واحتضانها للتنظيمات المتشددة، ممثلة فى تنظيم القاعدة فى القرن الإفريقى، وحركة الشباب المجاهدين، المتحالفة مع تنظيم القاعدة، والتى انشق عنها البعض ليتحالف مؤخرًا مع تنظيم داعش، بهدف تكوين ما يسمى ولاية القرن الإفريقى.
ولعل هذه الأوضاع الأمنية المتردية هى التى حالت دون إجراء الانتخابات عبر الاقتراع الشعبى المباشر. كما أجبرت أعضاء البرلمان على أداء اليمين الدستورية فى أحد مراكز تدريب قوات الأمن، وأجبرتهم أيضًا على انتخاب الرئيس الصومالى فى قاعة محصنة داخل مطار آدم عدى فى مقديشيو، خشية استهدافهم من جانب عناصر الشباب المجاهدين، بعدما طالت ذراعها العسكرية العديد من المناطق الحيوية دخل العاصمة الصومالية.
وربما يزداد الوضع الأمنى سوءًا إذا ما أقدمت الدول المشاركة فى بعثة الاتحاد الإفريقى فى الصومال «أميصوم» على تنفيذ تهديداتها بالانسحاب الفعلى من البلاد، أسوة بقوات سيراليون، احتجاجًا على تأخر المستحقات المالية لعناصرها، ونقص الدعم التسليحى الذى تعهد به المجتمع الدولى، خاصة الاتحاد الأوربى، حيث هددت إثيوبيا وكينيا وأوغندا وبوروندى بالانسحاب من قوات أميصوم.
وفى ذات الاتجاه تبدو الحاجة إلى إصلاح النظام القضائى، وتحقيق سيادة القانون، وإعادة هيكلة الجيش والشرطة الوطنية، بعيدًا عن الاعتبارات القبلية والإقليمية، بما يؤهل الصوماليين لإدارة الملف الأمنى بأنفسهم بعد اكتمال انسحاب بعثة الاتحاد الإفريقى بحلول العام ٢٠٢٠. وهى مهمة جسيمة فى دولة تفتقر إلى جيش وطنى وقوة شرطة متماسكة منذ ربع قرن من الزمان. كما تفتقر إلى الخبرات البشرية والإمكانيات اللوجيستية، والقدرات التسليحية اللازمة، فى ظل الحظر المفروض من جانب مجلس الأمن الدولى على توريد الأسلحة إلى الصومال.
وهناك أيضًا قضية محاربة الفساد الذى تحول إلى واقع معاش فى البلاد، والذى ازداد تغولًا فى عهد الرئيس حسن شيخ محمود، وهو ما أدى لتردى مستوى معيشة معظم المواطنين، وبطء تنفيذ مشروعات إعادة الإعمار، واستمرار الاعتماد على المعونات الخارجية، التى أضحت تقل تدريجيًا، بعدما ضاق المانحون ذرعًا بأعباء الصراع فى الصومال.
يضاف إلى ما سبق مواجهة الأزمات الإنسانية الطاحنة، حيث تشير التقارير إلى وجود ما يقرب من نصف مليون لاجئ صومالى، و١.٥ مليون مشرد، و٣.٢ مليون نسمة بحاجة للمساعدات الإنسانية، وهو ما يُمثل ٤٣٪ من مجموع السكان.
ولعل ذلك هو ما دفع منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «فاو» من التحذير من احتمالات تعرض ٣.٧ مليون صومالى لخطر المجاعة (من بينهم ٢.٨مليون فى جنوب البلاد)، مؤكدة أن هؤلاء بحاجة إلى مساعدة إنسانية فورية لضمان بقائهم على قيد الحياة، فى الوقت الذى يستمر فيه تخاذل المجتمع الدولى عن تقديم الدعم المناسب لكارثة إنسانية بهذا الحجم الكبير.
إذ تؤكد تقارير الأمم المتحدة الحاجة الماسة إلى نحو ٢.٦ مليار دولار لمواجهة تداعيات المجاعة فى الصومال. لكن إسهامات الولايات المتحدة والمانحين الغربيين، تأتى دائمًا أقل من المتوقع. بل أن معظم الدول الغربية اتجهت إلى إحكام الخناق على الصوماليين، من خلال شروط التجارة غير المنصفة، والقيود المفروضة على تحويلات الصوماليين بالخارج. كما أن معظم مساعدات الدول العربية والإسلامية تتسم بالبطء، والاعتماد على الجهود المحدودة للمنظمات غير الحكومية، مثل جمعيات الهلال الأحمر.
لا تزال هناك أيضًا بعض القضايا الشائكة التى تنذر بانهيار جهود المصالحة، إذ لم تحقق الحكومة تقدمًا نوعيًا على صعيد المفاوضات مع إدارة أرض الصومال الانفصالية، حيث تعثرت المفاوضات المتعلقة بهذا الشأن. كما أخفقت الحكومة أيضًا فى تسوية الخلافات مع إدارات المناطق بشأن قضايا اقتسام الثروات والمنح الدولية المالية والتعليمة وغيرها، الأمر الذى ينذر بإنشاء تحالف سياسى موسع يشمل رؤساء الحكومات الإقليمية، ليعارض توجهات الرئيس حول المسار السياسى فى البلاد، وهو أمر فى غاية الخطورة. لذا تبدو أهمية العمل على إعادة توحيد الصومال، عبر طرح صيغة الكونفيرالية، تمهيدًا لإعادة توحيد البلاد، فى إطار دولة موحدة أو فيدرالية.
وختامًا، يمكن القول أن تكوين البرلمان، وانتخاب الرئيس الجديد رغم أنه يعتبر خطوة مهمة على طريق الاستقرار، لكنه لا يمثل ضمانة كافية لتحقيق المصالحة الوطنية وإحلال السلم المستدام فى البلاد. فالصوماليون يتمتعون بقدر من التجانس الإثنى يندر وجوده فى إفريقيا جنوب الصحراء، حيث يشتركون جميعًا فى الأصل السلالى، واللغة الصومالية، والدين الإسلامى، وحتى المذهب الشافعى, ولكنهم يتمسكون بالانتماءات التحتية القبلية والإقليمية على حساب الولاء الأسمى للوطن.
وهذا فى تقديرى هو العامل الأهم الذى يرجح استمرار حالة الانقسام فى البلاد، ويعوق القدرة على ضبط العلاقة بين المركز والأقاليم، واستعادة حلم الصومال الكبير، بأقاليمه الخمسة، التى يرمز لها بنجوم خمس تزين علم البلاد، ولا نجد لها أثرًا على أرض الواقع.
لذا تبدو الحاجة فإن ماسة إلى التضامن الفاعل مع الصومال، من جانب المجتمع الدولى والقوى الإقليمية، وفى مقدمتها مصر، بما لديها من خبراء، وكذا دول الخليج العربى، بما تملكه من رؤوس أموال، من أجل إقرار الأمن فى البلاد، واستعادة هيبة الدولة، والقضاء على خطر الجماعات الإسلامية الراديكالية، التى أساءت للصومال وطنًا ودينًا.