القاهرة تسعى للسلام فى سوريا.. ورئيس الاستخبارات السعودية يهدد مصر والأردن!
بقلم – د. حسن أبوطالب
الأزمة فى سوريا بعد تحرير حلب من براثن الجماعات الإرهابية ليست كما كانت قبلها، الكل أدرك أن إسقاط النظام عسكريا هو كابوس وليس حلما كان قد راود البعض متصورا أن الأمر مجرد نزهة لعدة أيام أو أسابيع. التحولات فى المواقف الإقليمية خاصة التركية تمثل أكثر الدلالات وضوحا على أن مطالب الأمس ليست هى مطالب اليوم، وأن من كان يدلى بالتصريحات القوية بأن لا مكان للأسد فى سوريا بات الآن قابعا ينظر حوله وغالبا لا يعرف ماذا يحدث اللهم إلا إفشال الجهود الساعية نحو حل سلمى توافقى. البعض ممن أيد الجماعات المسلحة وأطلق عليها منظمات معارضة معتدلة سَلّم بدور تركى عسكرى وسياسى نيابة عن آخرين، غير أن هؤلاء الآخرين فزعوا من أن أردوغان يلعب لحسابه فقط وليس نيابة عن آخرين، وأنه دخل سوريا بجيشه لكى يستقطع أرضا ويبنى نفوذا فى العملية السياسية وما بعدها.
الغريب فى الأمر أن هناك مسئولين عرب لم يدركوا بعد جوهر هذه التطورات، وبينما تعمل مصر بكل جهد للمساهمة فى تسوية سياسية وفقا للقرارات الدولية وبالتنسيق مع القوى الدولية والعربية الواعية بحجم التغيرات المتسارعة، إذا بتصريحات غريبة تحمل تهديدات مرفوضة جملة وتفصيلا قال بها رئيس الاستخبارات السعودية ضد مصر والأردن على خلفية التنسيق المصرى الأردنى بشأن القمة العربية المقبلة والأوضاع الجديدة فى سوريا. تصريحات فجة لم يكن لأحد أن يتوقعها، ولكنها تعكس حجم التغيير فى المسارات السعودية وحجم الشعور بالعزلة بعد تحرير حلب من براثن الجماعات الظلامية.
ترتيبات دولية متعددة
وبينما تجرى الترتيبات على مستويين لعقد جولتى مباحثات، الأولى فى الأستانة عاصمة كازاخستان بين ممثلين للحكومة ولفصائل المعارضة المسلحة برعاية ثلاثية تجمع بين موسكو وطهران وأنقرة بصفتهم الدول الراعية لاتفاق الهدنة. أما الاجتماع الثانى فهو الخاص بجنيف تحت رعاية الأمم المتحدة والمقرر له ٢٠ من فبراير الجارى. الصلة بين الاجتماعين وثيقة من جهة تثبيت الهدنة ووقف إطلاق النار وكافة الأعمال العدائية وتطوير آليات المراقبة بهدف بناء مناخ إيجابى ولو جزئيا يساعد المتفاوضين فى جنيف على بحث القضايا الكبرى التى حددها القرار ٢٢٥٤ وهى الحكم التمثيلى غير الطائفى، والدستور، والانتخابات، وهى القضايا المعقدة وتتطلب جولات متعددة وصولا إلى اتفاق شامل يُنهى الحرب وتبدأ معه سوريا حقبة جديدة من عمرها، ويبدأ معها أيضا العرب حقبة جديدة تنهى كل الأفكار الجهنمية حول تغيير النظم بالقوة وإسقاط الدول بالإرهاب.
وإذا كان من اليسير نسبيا أن يعقد اجتماع الأستانة بين ممثلى فصائل معارضة مسلحة والحكومة وبرعاية روسيا وإيران وتركيا، وهى الدول الموجودة على الأرض السورية عبر قواتها وميليشياتها وتدخلاتها العسكرية، فإن الأمر يبدو عسيرا بعض الشىء فيما يتعلق باجتماع جنيف المنتظر، فوفقا للمبعوث الدولى دى ميستورا من الضرورى أن يتشكل وفدان، أحدهما يجمع فصائل المعارضة السورية متسلحا برؤية واحدة، والثانى وفد الحكومة السورية. والواضح أنه لا توجد مشكلة بالنسبة للوفد الحكومى، فهو يعرف ماذا يريد وماذا سيقبل وماذا سيرفض، أما تشكيل الوفد المعارض فيواجه تحديات عديدة. فالهيئة التفاوضية العليا ومقرها الرياض لا تضم كل فصائل المعارضة خاصة الفصائل التى تشكلت بعيدا عن وصاية دول الجوار، وأهمها فصيلان، الأول ما يعرف بالمعارضة الوطنية التى أعلنت فى القاهرة يونيه الماضى وتعرف إعلاميا بمجموعة القاهرة، والثانية تشكلت بدعم روسى وتعرف إعلاميا بمجموعة موسكو، وكلاهما ينطلقان من التمسك بتطبيق قرارات مجلس الأمن وفى المقدمة القرار ٢٢٥٤. وتسعى الهيئة التفاوضية العليا ومقرها الرياض لكى تكون الممثل الوحيد للمعارضة وأعلنت أنها شكلت بالفعل وفدا من عشرين عضوا، وأنها فى حالة موافقة مجموعتى القاهرة وموسكو على الانضمام لها فيمثل كل مجموعة ممثل وحيد، على أن تقبل المجموعتان أولا ببيان مؤتمر الرياض المعلن فى ديسمبر ٢٠١٥، وأبرز ما فيه أن تكون الهيئة بمثابة المعبر عن كل قوى الثورة والمعارضة السورية ومقرها مدينة الرياض، لتتولى مهام اختيار الوفد التفاوضي، وتكون مرجعية المفاوضين مع ممثلى نظام الأسد نيابة عن المجتمعين. والمبدأ الأخير تحديدا رأته قوى معارضة أخرى بمثابة وصاية على المفاوضات وعلى من هم المعارضين ومن لا يستحقون المشاركة فى المفاوضات.
مساع مرفوضة للهيمنة على المعارضة السورية
وفى كل الأحوال ظهرت الهيئة التفاوضية العليا كطرف معارض وليست الطرف الوحيد، وهو ما تؤكد عليه مجموعتا القاهرة وموسكو، واللتان بادرتا بالتواصل مع المبعوث الدولى دى ميستورا لطرح بديل آخر لتشكيل وفد معارضة موحد، وطلبتا عقد اجتماع ثلاثى يضم المجموعات الثلاث لبحث معمق حول تشكيل الوفد الموحد والأسس التى سيطرحها ويتمسك بها فى المفاوضات مع الوفد الحكومى. وتشترك مجموعتا القاهرة وموسكو فى التأكيد على أن المرجعية السياسية هى القرار ٢٢٥٤وبيان جنيف، وأنه يمكن تشكيل وفد موحد من خلال تمثيل كل مجموعة بثلاثة مندوبين، وثلاثة مندوبين للفصائل التى شاركت فى اجتماع الأستانة(وهى الفصائل ذات الطابع العسكرى) ويترك للمبعوث الدولى اختيار مندوبى المجموعات الأخرى كالمرأة والأكراد وغيرهم، وبحيث يكون المجموع الكلى لوفد المعارضة الموحد ما بين ١٥ إلى ١٦ مندوبا.
الأمر على النحو السابق لا يتعلق فقط بالتوازن الداخلى لوفد المعارضة الموحدة ولكن أيضا بالأسس التى سيعتبرها أساسا للتفاوض، وتلك بدورها معضلة سيكون على دى ميستورا أن يجد لها حلا بالتنسيق مع كل من روسيا والولايات المتحدة. وليست هناك مقدمات حول هذا الأمر، ومع ذلك يمكن القول أن روسيا تميل إلى الطرح الذى طرحته مجموعتا القاهرة وموسكو باعتباره الأكثر تمثيلا وعدلا فى الآن نفسه، وذلك على عكس طرح الوصاية السياسية الذى طرحته هيئة التفاوض العليا وحاولت من خلاله الهيمنة على عملية التفاوض وإقصاء الآخرين من مجمل عملية التسوية السياسية وذلك رغم علمها بأن إبعاد أى طرف هو خطوة أولى لإفشال العملية برمتها.
ويمكن القول هنا أن هذا الجدل ليس سوريا فقط ولكنه جدل بنكهة عربية وإقليمية، إذ مازالت بعض أطراف تتصور أنه يمكنها الهيمنة على مستقبل سوريا من خلال تحديد وفد المعارضة وقصره على مؤيديهم وحسب. وهو ما يكشف عن قصر نظر تاريخى وعدم إدراك التحولات الكبرى التى حدثت فى غضون الأشهر الأربعة الماضية خاصة ما بعد تحرير حلب من الإرهابيين.
مساع مصرية مكثفة للسلام
يذكر هنا أن مصر وفى إطار رؤيتها الداعمة للحفاظ على سوريا موحدة وأن لا حل عسكرى وإنما عبر التفاوض السلمى دون إقصاء لأحد وترك مصير النظام لقرار الشعب السورى وضرورة إخلاء سوريا من الجماعات الإرهابية، تواصلت مع عدد كبير من ممثلى المعارضة السورية الوطنية ومنها من يعمل فى الداخل ومنهم من يعمل فى الخارج دون التورط فى تبعية لدولة أو أكثر، وهم الذين اجتمعوا مرتين فى القاهرة وشكلوا ما بات يعرف بمجموعة أو منصة القاهرة، وهو ما أزعج أطرافا عربية وإقليمية سعت إلى إقصاء القاهرة عن القيام بواجباتها القومية، فى الوقت ذاته تواصلت القاهرة مع دمشق بشكل محسوب. وقد تردد منسوبا إلى أحد أعضاء هذه المجموعة المعارضة أن القاهرة لديها عدة أفكار قد تشكل مبادرة شاملة يمكن طرحها إذا تلاقت حولها الأطراف المعنية. ففى ١٧ أكتوبر الماضى اجتمع عدد من شخصيات وممثلين للمعارضة السورية فى القاهرة منهم الائتلاف السورى وهيئة التنسيق المحلية المعارضة وهى من الداخل، للتباحث فى بنود طرحتها مصر لحل الأزمة السورية، بينها «تأليف مجلس عسكرى يعيد بناء الجيش، ومجلسًا يعين حكومة انتقالية تعمل وفق دستور ١٩٥٠ وتعيين نائبين من المعارضة السلمية لبشار الأسد ضمن مرحلة انتقالية تقتضى بالنهاية إلى الوصول لانتخابات برلمانية ورئاسية لا يتم استبعاد أى شخص فيها ومن ضمنهم بشار الأسد وترك الخيار للشعب السورى».
وليس سرا أن مصر ترى أن المعارضة الوطنية السلمية هى الأحق بالتفاوض والتعبير عن قطاعات من الشعب السورى، وأن تلك المعارضة المسلحة وبالقطع الجماعات الإرهابية المرتزقة التابعة لدولة هنا أو دولة هناك ليس من حقها أن تشارك فى صياغة مستقبل سوريا أو تحصل على أى امتيازات ويكفى ما سببته من خراب ودمار.
وفى أكثر من مرة صرح وزير الخارجية سامح شكرى أن مصر تتحرك مع ممثلى المعارضة السورية وأنها تسعى لكى يكون دورها يسهم فى الحل السلمى للأزمة السورية. وفى ٢٨ يناير الماضى وأثناء وجود وفد من الائتلاف السورى المعارض صرح أحد أعضاء الائتلاف بأن مصر لديها رؤية تتشكل من عدة بنود ولكنها لم تصل إلى مبادرة متكاملة، وهو ما أكدت عليه مصادر مصرية رسمية. ووفقا لتصريحات سامح شكرى وزير الخارجية فإن « كل التطورات التى حصلت لابد أن تؤدى إلى بلورة سوريا جديدة تتوافق مع إرادة الأطراف السورية»، وبالنسبة لرحيل الرئيس الأسد، فإن رؤية مصر تقوم على أساس مبدأ لا تفريط فيه، وهو أن «هذا شأن الشعب السورى ويجب ألا نحصر الأمر فى حدود شخص بعينه أو نضيع الوقت فى استبيان فترة ما بعد انتهاء مرحلة الصراع، ولكن يجب أن تركز كل الأطراف جهودها فى الاتفاق على ملامح الخارطة الخاصة بالحل السياسى وكيفية بلورتها». والأمر على هذا النحو يختلف حسب شكرى عن منهج السعودية التى ترى ضرورة تغيير النظام أو القيادة السورية. وترى مصر أن «المعارضة السورية الوطنية مازالت تمثل قطاعات عريضة من المجتمع السوري، ونحن نعمل على تعزيز مكانتها»، وأن الضرورى أن توحد صفوفها استعدادا لاستئناف المفاوضات السياسية التى يقودها المبعوث الأممى ستافان دى ميستورا.
تنسيق مصرى أردنى
رؤية مصر على النحو السابق تركز على توحيد المعارضة السورية والتركيز على حل سلمى يستند إلى القرارات الدولية ذات الصلة، إضافة إلى التنسيق مع الدول العربية المعنية، كالأردن والعراق وأيضا السعودية. وفى إطار التنسيق المصرى الأردنى، كانت زيارة شكرى إلى العاصمة الأردنية عمان ٨ فبراير الجارى، واللقاء مع العاهل عبد الله وكبار المسئولين، وهو تنسيق يستهدف ترتيب الأوضاع العربية من أجل عقد قمة عربية بالأردن تحقق الحد الأدنى من التضامن العربى وترتيب تفاهمات بشأن العديد من الأزمات العربية ومن بينها الأزمة السورية. وقد انتهى الأمر بالاتفاق على تأجيل دعوة سوريا للمشاركة فى القمة العربية إلى حين السير جديا فى العملية السياسية، والتركيز على حماية الأردن من اختراقات الجماعات الإرهابية العاملة فى الأراضى السورية القريبة من الحدود مع الأردن، والعمل على تنشيط عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية من خلال التفاهم مع إدارة ترامب الجديدة، وهى تفاهمات عكست التوافق المصرى الأردنى بشأن العديد من القضايا العربية المصيرية.
تهديدات سعودية مرفوضة
لم يمر سوى يومين على زيارة شكرى لعمان، وإذا بجريدة الشرق الأوسط السعودية الصادرة فى لندن تخرج بتصريحات للفريق خالد بن على بن عبدالله الحميدان رئيس الاستخبارات العامة وعضو فى مجلس الشئون السياسية والأمنية بالمملكة السعودية ١٠ فبراير الجارى تضمنت موقفا غير مسبوق، يحمل تهديدا صريحا لكل من مصر والأردن، وبما يكشف حجم القلق الذى يساور الرياض الآن بشأن التطورات الجارية فى سوريا وكيف أنها قد تؤدى إلى تغيرات إقليمية لا تناسب المصالح السعودية التى استثمر فيها الكثير من الأموال والدعاية والسلاح. فبالنسبة للأردن ذكر الفريق خالد «أن السعودية لديها معلومات تؤكد أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين طمأن الملك عبدالله الثانى بدعمه له فى مختلف الأصعدة إذا شارك فى حل الأزمة السورية وأن الرئيس الجديد للولايات المتحدة دونالد ترامب لم يعارض قرار الرئيس الروسي، بعد أن كان الأردن فى السنوات الثلاث الماضية يحاول السيطرة على العاصمة السورية دمشق مقابل تلقى مساعدات مالية أمريكية طيلة فترة الرئيس الأمريكى السابق أوباما». وفى كلمات خلت من كل معانى الدبلوماسية وعكست قدرا من التعالى غير المبرر والتهديدات التى لا تليق بدولة بحجم المملكة، ذكر رئيس الاستخبارات السعودية «أن تجاهل السعودية وتهميشها فى التعاون الجديد بين الولايات المتحدة، وروسيا، والأردن ومصر لفض النزاع السورى سيكون قرارا فاشلا وأن السعودية لن تتغاضى عن أفعال الأردن ومصر لتلبيتهما بقرار اتخذه الجانب الروسى من دون التنسيق مع السعودية والدول العربية الأخرى».
مثل هذه العبارات الفجة تعنى أن بعض المسئولين السعوديين لم يعودوا يقدرون تبعات كلماتهم وتصريحاتهم المتعالية، لكنها من جانب آخر تجسد شعورا بالعزلة، وبدلا من أن يتم معالجة الأخطاء التى وقعوا فيها بحق أنفسهم وبحق بلادهم وبحق شعوب عربية أخرى، فإذا بهم يلقون الاتهامات والتهديدات لدول تتحرك بكل مسئولية وطنية وعربية.
والغريب فى الأمر أن هذه التصريحات أو بالأحرى التهديدات تأتى على لسان رئيس الاستخبارات وليس وزير الخارجية، فى محاولة للإيحاء بأن الرياض تراقب ما تفعله مصر والأردن وأن لديها الرد الجاهز، فقد أشار الفريق خالد إلى أن مكالمة هاتفية جرت بين وزير الخارجية السعودى ونظيره الأردنى فى ٢٧ يناير الماضى تضمنت تحذيرا سعوديا بأن «يتجنب الأردن ومصر كل ما يستفز العلاقات بين الدول العربية»، وهو تحذير ينطوى على استعلاء على دولتين كبيرتين وكأنهما من دول الموز، ولا أدرى ما الذى يضير السعودية أو غيرها حين تنسق مصر والأردن من أجل السلام فى سوريا، وما الذى يضير الرياض أن تحركت مصر بوازع قومى ووطنى من أجل العرب. والأكثر غرابة أن رئيس المخابرات يضع حدودا للحركة المصرية والأردنية معتبرا أن أى «قرار عربى بشأن القضايا الإقليمية والعربية يجب أن لا يكون بعيدا عن التشاور والتنسيق مع جامعة الدول العربية»، وهى نصيحة طيبة ولكن من الأولى أن يفعل بها هو أولا قبل أن يوجهها لغيره.
مثل هذه اللهجة غير المعتادة تتصادم مع الحد الأدنى من التقاليد العربية، وتضع العقبات أمام قمة عمان قبل أن تبدأ. وعلى الجميع أن يفهم أن القاهرة لا تخشى أحدا إلا الله، ولا تقبل تهديدات أو كلمات وقحة من أى مخلوق كان. وعلى كل مخلوق أن يلزم حدوده، ويعرف قدر نفسه قبل أن يخاطب مصر وشعبها.