رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


قد العيون السود بحبك

16-9-2017 | 12:25


بقلم : سحر الجعارة

الأسطورة الفنية لا تعنى أن تكون متربعا على القمة، بل تعنى أن تكون مثل كوكب تدور فى فلكه النجوم، يمنحهم حضوره ووهجه ويضفى على كل نجم شخصية خاصة به وحده، ثم يتولى توزيع التنويعات على نفس النغمة.

هكذا كان الموسيقار "بليغ حمدى" ، صانعا للنجوم، مثل صائغ محترف يعرف متى وكيف وأين يضع فص الماس، وأى حجر كريم يليق بتلك الحنجرة .. وكيف يكون هو نفسه لحنا لا يتكرر ونوتة موسيقية متفردة مهما تفاوتت طبقات الأصوات التى تغنى ألحانه من كوكب الشرق "أم كلثوم" إلى النجمة المتجددة دائما "سميرة سعيد".

(وعملت إيه فينا السنين فرقتنا لا، غربتنا لا، ولا دوبت فينا الحنين السنين، وبحبك والله بحبك، أد العيون السود بحبك وإنت عارف أد إيه كتيرة وجميلة العيون السود فى بلدنا يا حبيبى) .. بهذه الكلمات استعاد "بليغ" روحه من منفاها ، حين ذهب إلى الجزائر لتقديم لحن "من بعيد ادعوك يا أملى" الذى تغنيه "وردة" فى عيد استقلال الجزائر، وبعدها طلب منها العودة إلى الغناء، ودعاها للرجوع مرة أخرى إلى مصر، وحين كتب أمامها هذه الكلمات أدمعت عيون وردة وقالت له : (حلوة أوى يا بليغ كمل)، فقال: (أنا كنت كاتب دول بس)، فردت: (لو كملتها هسمع كلامك وأرجع مصر أغنيها) فأدمعت عيونه من الفرحة، بحسب ما جاء فى أحد المواقع على لسان "محمد حمزة"، الذى قال:"استكملت كتابة الأغنية لتناسب "وردة"، وعادت "وردة" لتغنيها فى أول حفل لها فى مصر بعد العودة فى نهاية عام 1972 .

إنها قصة الحب الأشهر فى ذاكرة الأغنية العربية (وردة وبليغ)، والتى تتراوح فصولها بين الزواج والطلاق والحب، ورغم كل تفاصيل التوحد والانفصال نجح "الحب" فى أن يظل "سيد الموقف".

فرغم حدوث الطلاق بينهما إلا أن مشاعر الحب والمودة ظلت بينهما، فعندما اتُهم بليغ في قضية مقتل الفنانة المغربية "سميرة مليان"، ذهبت "وردة" إلى وزير الداخلية "زكي بدر" _آنذاك- لتتوسط لخروج بليغ من السجن وهددته بالاعتصام أمام السجن إذا تم سجن بليغ يوما واحدا.

وقد قال الإعلامي الراحل "وجدي الحكيم" صديق "وردة" إنها ندمت على الانفصال من "بليغ" حيث قالت له ،خلال تسجيله لسيرتها الذاتية، (تعاملى ورعايتى لبليغ بعد انفصالنا خلانى ندمت على الانفصال لأن أنا لو كنت عرفت بليغ زي ما عرفته بعد الانفصال كانت الحياة استمرت بينا) .

أيضا "بليغ" ظل يردد اسم وردة حتى آخر أيامه.. إنها جنونه الخاص الذى يلهمه الإبداع المتفرد.

كانت "وردة" تسكن قلب الموسيقار العاشق، وقيل إن مقدمة اغنيات (بعيد عنك ، والحب كله، وسيرة الحب ، وأنساك) لأم كلثوم كانت رسائل غير مباشرة من بليغ لوردة .. وعلمت "أم كلثوم" بالأمر وقالت له مازحة: (أنت بتشتغلني كوبري للبنت اللي بتحبها)!.

تتراوح ألحان "بليغ" ما بين الشعبية الرومانسية والوطنية الحماسية، لكن يمكننا أن نعتبر الإسهام الأساسي الذي قدمه "بليغ" في الموسيقى هو إيصال الموسيقى والإيقاعات الشعبية المصرية بطريقة تتناسب مع أصوات المغنين الكبار أمثال (أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وشادية)، وغيرهم .. كما اشتهر "بليغ" بسهولة وبساطة ألحانه الامر الذي يجعل أي متذوق للموسيقي قادرا علي التفرقة بين موسيقاه وأي موسيقي اخري يسمعها.

قام بليغ بتلحين جميع الألوان الغنائية من رومانسية أو شعبية أو وطنية أو القصائد أو حتي ابتهالات دينية مثل مجموعة ألحانه للشيخ "سيد النقشبندى" وأشهرها "مولاي"، بل وحتي أغاني الأطفال مثل أغنية "أنا عندي بغبغان" وأغان أخرى في مسلسل "أوراق الورد" للفنانة الكبيرة "وردة.

وتعتبر "أم كلثوم" محطة فنية خاصة فى حياة الموسيقار الراحل، فكما قال الشاعر الراحل "مأمون الشناوى" : (كل من لحّن لأم كلثوم بعد العمالقة القصبجى وزكريا والسنباطى لم يفعل أكثر من أنه أعاد فقط ترتيب قصر أم كلثوم، أما بليغ فقد قام ببناء قصر جديد لصوتها)!.

وكانت "أم كلثوم" تريد أن تتحرر قليلا من اللون السنباطي ،لذا فقد طلبت من "محمد فوزي" ان يلحن لها إلا أنه اعتذر بكل أدب ولباقة وقال لها: (عندي ليك حتة ملحن يجنن مصر حتغني ألحانه اكتر من 60 سنة قدام) .. فكان اللقاء الأول في حفلة في منزل الدكتور "زكي سويدان" ،أحد الأطباء المعالجين لأم كلثوم، وهناك بدأ بليغ في تلحين الكوبليه الأول وهو جالس علي الأرض وسط ذهول الحاضرين فما كان من أم كلثوم إلا أن فعلت مثله وجلست بجواره وتطلب منه بعد تلحين أول كوبليه ان يكمل اللحن .. ليشاء القدر وتغني ام كلثوم أغنية (حب إيه) في ديسمبر 1960 وتحقق نجاحا ساحقا .

توفي بليغ سنة1993، وترك فراغا كبيرا فى الموسيقى العربية، لكن نبوءة "محمد فوزى" تحققت، فمصر والعالم العربى ومعظم الأصوات الجديدة يغنون ألحانه حتى الآن .. بل وبعضنا يحب بمنهج "العيون السود" مهما اختلفت التفاصيل أو تعقدت الحياة.