رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


عن الشرقنة في شعر هوجو

4-5-2023 | 00:51


د. شيرين الملواني,

فُتن "فيكتور هوجو" بالشرق ، وأصابه الوله والشغف به ؛ وليس أدل على ذلك من ديوانه "الشرقيات"عام ١٨٢٩م،  والذي وصف  في مدخله  الشرق بصورة لا إرادية، وظهر من خلاله تأثره بصورة الشرق، وبات باحثاً عن فكره بخبرة وتمرس على الرغم من كتابته له وهو في عمر السابعة والعشرين عام.

 فتحول بسرعة، بفضل هذا الديوان ؛ المروج الأول للشرق والمُحرِض على التوجه إليه؛ فسبق "موسيه" و"غوتييه" و"بلزاك"، و وسار خطوات واسعة بالتوازي مع "لامارتين' و"فينييه" و"نودييه"؛ مما جعله مشاركًا بقوة -"هوجو"-  في الغليان الثقافي الذي طبع تلك الفترة ولامس جميع ميادين الثقافة، مثل معظم رومنطيقيين تلك الحقبة، لكن بطريقة أكثر منهجية من أي منهم،حيث لمع في جميع الأنواع الأدبية، وخصوصاً في الشعر.

فجاءت الطبعة الأولى من ديوان "الشرقيات" ،كاشفة لتلك الخصوبة المدهشة التي ستتشكل منها أسطورته. 

كان الشرق موضوعاً جاذباً آنذاك في أوروبا؛ فمنذ نهاية القرن الـثامن عشر، أعادت سلسلة من الأحداث السياسية اهتمام الغرب بالحضارة العربية الإسلامية التي اعتاد النظر إليها بعدوانية،جاء أول عامل في المقدمة في صورة حملة بونابرت على مصر،ثم تنافست النمسا وروسيا على الحدود الأوروبية للإمبراطورية العثمانية، وجاءت ثورة اليونانيين على سلطة العثمانيين التي أثارت حماسة الكثير من الأوروبيين. كل هذا الاهتمام غذته أيضاً أحداث ثقافية مهمة، أبرزها فك لغز اللغة الهيروغليفية، وتقارير البعثات الثقافية والعلمية التي رافقت الحملات العسكرية الفرنسية على حوض المتوسط؛ اهتمام وصفه "إدوارد سعيد" (بالإستشراق الغربي)، ووجه إليه نقداً راديكالياً من منطلق كونه تشييداً أيديولوجياً لعالمٍ لا يأخذ في الاعتبار واقعه الحي، مُهملاً التنوع، وأحياناً التناقض، في النظرة التي يلقيها مجتمع ما على مجتمع آخر".

أما الأدب الشرقي نفسه، وتحديداً الشعر العربي والفارسي الكلاسيكي، فشكل بفضل الترجمات التي حظي بها مصدر افتتان حقيقي وصريح في أوروبا، كما أقر بذلك "هوجو"  على مستواه الشخصي؛ مما وجهه لاستحضار روح الشرق في مطلع القرن التاسع عشر، كمصدر تجديد للشعر الغربي الذي كان يسعى آنذاك لإثبات حيويته الجديدة؛ ولذلك، لم تكن كتابة ديوان "الشرقيات" عملاً ريادياً في موضوعه، لكن الطريقة التي اعتمدها "هوجو" فيه لمعالجة هذا الموضوع هي التي تعكس كل حداثته. 

وفعلاً، بفضل هذا الديوان، استعاد الشعر الفرنسي نشوة الألوان التي استقاها الشاعر خصوصاً من لوحات الرسام "دولاكروا".

وإلى جانب عظمة الصياغة واللغة في ديوان "الشرقيات" حاملاً لكلمات غريبة ، جاءت عبقرية اللحن في الصورة الشعرية بأصوات مُرهفة أو حادة،مُعتمدة على مصطلحات استقاها هوجو من العربية
والفارسية والتركية واليونانية الحديثة. 

ولأن القراء الفرنسيين لم يكونوا معتادين على مواجهة هذا الكمْ من المفردات الأجنبية داخل ديوان شعري،وُجه نقداً لاذعاً لڤيكتور حيث وُصِف بالغزو اللغوي الهمجي!!!.

دافع "هوجو" عن نفسه قاطعاً بضرورة تخصيب اللغة الفرنسية بخصوصيات اللغات الأخرى، مُعتبراً أن اللغة المُجمدة في نقائها المزعوم مهددة بالموت والانقراض.

وفي هذا السياق، منحه الشعر الشرقي، سواء كان توراتياً -المزامير أو نشيد الأناشيد-، أو دنيوياً -أمثلة كثيرة لم يتردد في ذكرها داخل ديوانه- ،جاءت كلها كمراجع جعلته على سبيل المثال، يسمح لنفسه بتطوير شعره على مدى أثني عشر رباعية محملاً بتلك الصورة الشعرية لعاشق.

أثبت " هوجو" مهاراته النظمية في "أناشيد وقصائد قصصية كتلك الصادرة عام ١٨٢٩ م، لكن لا مجال لمقارنة نصوص هذا الإبداع بنصوص "الشرقيات" على مستوى اليُسر والسلاسة الإيقاعية، وحسي التناظر والمفاجأة. 

تلك مهارات رافقت وعززت التنوع الكبير في الأنواع والنبرات داخل "الشرقيات" الذي نجد فيه كل شيء، أناشيد بطولية، مرثيات حالمة، أغاني جنود، مزاح بذيء، سرد، تأمل رؤيوي.

هكذا منح الشرق "هوجو" فرصة لحرية شعرية حددها في مقدمته لـ "الشرقيات"، بقوله: (حين ننظر إلى الأشياء من علو، نجد أن لا مواضيع جيدة أو سيئة في الشعر، بل شعراء جيدون أو سيئون، كل شيء يصلح لأن يكون موضوعاً ؛كل شيء قابل للانخراط داخل الفن وله الحق في المثول داخل الشعر. لا علاقة للفن بالأصفاد والكمامات ؛ بل يقول لك، اذهب! ويفلتك في حديقة الشعر العظيمة، حيث لا فاكهة ممنوعة، وحيث المكان والزمان ملك الشاعر، فليذهب إذاً إلى حيث يشاء، وليفعل ما يعجبه).

ورغم حماسة وحرية "هوجو" لكل ما هو شرقي ، إلا أن شرقنا لم يلازمه في شعره؛ ففي الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، ثم في دواوين  "العقوبات" و"التأملات"، لمع نجمه في الشعر ذي النبرة السياسية و ذي المنحى البطولي أو الهجائي، وفي الشعر الفلسفي. 

ترك ديوان "الشرقيات" أثراً بليغاً على الاستشراق الأدبي والفني في أوروبا، كما يتجلى ذلك في أعمال بصرية وموسيقية كثيرة، ونمى رغبة كتاب وفنانين أوروبيين كثر في السفر إلى شرقنا، فتوجهوا إليه ممغنطين بالصور والأصوات الرائعة التي صقلها صاحبه فيه، من دون أن يزور هذا الشرق ولا حتى مرة واحدة!.

بعد الحرب العالمية الأولى غزت العالم العربي الثقافة الغربية، وقد انبهر بها أغلب شعراء العرب في تلك الحقبة، فظهر الشعر الحر وانتشر بين شعراء العرب، وكذلك ظهرت قصائد تتكلم عن الاختراعات و الابتكارات الغربية ( كالطائرة والقطار....) ،وظهر تقاربا بين مبدعي الشرق والغرب ؛ وليس أدل على ذلك من قصيدة نظمها الشاعر أحمد شوقي في الذكرى المائة لموت الشاعر الفرنسي "فيكتور هيجو".

وقال فيها: 
ما جلَّ فيهم عيدُك المأْثورُ
إلا وأَنت أَجلُّ يا فكتورُ
ذكروكَ بالمئة السنينَ وإنها
عُمرٌ لمثلكَ في النجوم قصير
ستدوم ما دامَ البيان وما ارتقتْ للعالمينَ مداركٌ وشعور.
ولا زال ڤيكتور هوجو باقياً شرقا وغرباً.