بقلم – حمدى رزق
أطال الله عمره ومتعه بالصحة، لم يمتلك الكاتب المصرى الكبير سنا ومقاما وديع فلسطين محمولا، اكتفى بالتليفون الأرضى، ممتعا استقبال «الوووو» ممطوطة من أستاذنا صباحا بلكنته الهادئة، وظلت الكاتبة الكبيرة صافى ناز كاظم مقاطعة المحمول طويلا، مكتفية بالتليفون الأرضى وسيلة للتواصل، وكانت عجبة فى أيامها، ويوم حازت موبايل احتفيت فى مقال بدخولها العالم الجديد، وأبحرت بعيدا حتى بلغت منتهى ثورة الاتصالات بحساب على فيس بوك تطالعه على الموبايل، وتغرد وتتوت وتتلقى الإضافات حتى صارت من رائدات الفيس بوك.
أعجب كيف كان حال التواصل قبل دخول الموبايل حياتنا، وكيف بدل الموبايل سياقاتنا المجتمعية على نحو ألغى المسافات وأبعد القلوب، ويوم قطعت الاتصالات إبان ثورة ٢٥ يناير كانت ورطة مجتمعية، كنا قد نسينا التليفون الأرضى لدرجة أن البعض لم يكن قادرا على تذكر أرقام تليفونه الأرضى فصارت مأساة حقيقية، تعلمنا منها أن التليفون الأرضى أبقى، والاحتفاظ بخط تليفون أرضى ضرورة قصوى فى البيوت حتى ولو لم يتم استخدامه إهمالا، التليفون الأرضى نعمة واللى يكرهها يعمى من العمى الحيثى.
وحشنى رنين التليفون الأرضى الأسود، صوت يأتى من الماضى القريب، وأسعد تماما إذا ما هاتفنى أحدهم أرضيا، يعيدنى إلى الأيام الخوالى، قصص الحب العفيفة كلها كانت أرضى، صوت بلا صورة، مساحة من الخيال، لماذا كانت الحبيبة أجمل فى التليفون الأرضى، أعجب ممن يقول تفاخرا، من صوتها أعرفها جميلة أم قبيحة، وكم من أصوات جميلة خدعت كثيرا من متذوقى الجمال، وكانت جرسة فى أول لقاء!
ندرة من يسجلون رقم هاتفهم الأرضى على بطاقاتهم التعريفية، ويجدون حرجا هائلا أمام موظف البنك وهو يطلب منهم رقم الهاتف الأرضى ليسجله تحسبا، الزهايمر أكل ذاكرة المصريين، وإدمان المحمول أتى على بقية خلايا الذاكرة، فى ريعان شبابهم ولا يتذكرون تليفونهم الأرضى، بل هناك جيل يعتبر التليفون الأرضى من مخلفات الماضى، وظل بعض المتخلفين حضاريا يعتبرون التليفون المحمول بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار، فلتلقوا تليفوناتكم المحمولة فى النار.
وكأنهم جنوا، علاقة المصريين بالمحمول دخلت العيادات النفسية، من المصريين من يمشى فى عرض الطريق يتحدث فى محمول يخفيه فى جيبه والسماعة فى أذنه، من بعيد ترى مجنونا مخبولا يهذى ويزعق ويشوح، لا أعرف لماذا يستخدم المصريون أيديهم بضراوة فى الحديث، ولا أعرف لماذا صوتهم عال لدرجة أن كل من على المقهى يتفاعلون مع الخناقة المحمولة نسبة إلى المحمول، بل ويسهمون فى المحادثة، وقول له يطلقها وعلى ضمانتى.
وتسمع عجبا، افتنا يا مولانا فى الطلاق عبر المحمول، هل يقع الطلاق بائنا فى المحمول دون مواجهة وطلاق بالثلاثة ويلا على بيت أمك وخدى الباب وراكى، هل الرسالة النصية SMS بالطلاق، أنت طالق.. تصح، هل هذا الطلاق ينطبق عليه البينونة الكبرى أم كفاية البينونة الصغرى؟ وبالمثل هل يصح الزواج بالمحمول عن طريق محادثة جماعية تضمن الإشهار والشهود، وكم من مشاكل زوجية بلغت محاكم الأسرة لأن الزوج أهمل واجباته الزوجية مكتفيا بالمحمول، وزوجة ضبطت زوجها ع الشات مع صديقتها، ومن المساخر أن زوجة عملت إضافة لزوجها تحت اسم «نور الصباح» وظل الزوج يغازل زوجته ويواليها بالأشعار والصور والورود حتى مطلع الفجر، وهى فى غرفة نومها والزوج فى غرفة المعيشة يفصل بينهما جدار، الجدار العازل بين الزوجين، ثم جمعهما سرير الزوجية وكلاهما مترع بالجنان، وأعطى ظهره للآخر ونااااام، نوم العوافى وتصبح على خير، على نور الصباح.
الموظف الجميل لم يعد يشترى بطيخة وجورنال كعادة الموظف المصرى الفرعونى القديم، تحول تماما، يشحن الموبايل ليتلقى الأوامر من زوجته بمتطلبات البيت قبل الوصول، هات عيش، ومخلل، وكاتشب، وأكل القطة، ولبن العصفور، وهو يتلقى الصفعات صاغرا، وبالمرة يعلم خليلته أنه فى طريقه للقضاء والقدر، وإذا دخل البيت أغلق المحمول تأدبا، أدب القرود داخل الجبلاية، خاصة إذا كان سوابق فى العشق والغرام، أو ضبط متلبسا بشات مؤدب مع حبيبة وهمية من عينة فرجينيا جميلة الجميلات.
للمصريين فى إدمانهم للموبايل مذاهب، هناك من يقتنى أكثر من خط وأعماله الوهمية لا تستاهل حتى خطا أرضيا، وهناك من يجتهد للحصول على رقم مميز يحمل على الأقل أربع ستات، بلغت لدى صديق ست ستات فأهداه لزوجته باعتبارها ست الستات قولا ومحمولا، واكتفى هو برقم أربع ستات، ع الشرع.
هناك من يدفع كثيرا فى عدد الأصفار فى رقمه، لا أعرف تفسيرا لغواية الأرقام الصفرية التى يهواها علية القوم، أما أعلى العليين مجتمعيا فيفضلون البريفت أو الرقم المخفى، ولهذا نصيبه من الأهمية المضاعفة، البريفت ضرورة لبعض المنتسبين للأجهزة والمناصب التنفيذية والسياسية، ويحوزه رجال الأعمال والوجهاء، من محمولك اعرف موقعك من الإعراب المجتمعى.
وقع البريفت على المتلقى مزيج من الأهمية والرهبة والتوقع، عبده مشتاق مشتاق دوما إلى رقم بريفت يطلبه حتى إنه يقف زنهار وريقه جاف وهو يتأهب للإمساك بالموبايل ورجفة «الباركنسون» أصابت يديه فصار مرعوشا، ومن البريفيتيين من المتطلعين والطامحين الذين تحصلوا عليه فى زمن مضى، كان البريفت بالواسطة أو بفلوس كثيرة.
أقول قولى هذا وأنا أطالع (نشرة أغسطس) عن مؤشرات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات فى مصر الصادرة عن وزارة الاتصالات، وتزف إلينا خبر وصول المحمولين المشتركين فى خدمة الهاتف المحمول بلغ ٩٩.٩١ مليون مشترك فى الربع الأول من ٢٠١٧، مقارنة بنحو ٩٥.٢٦ مليون مشترك بالربع الأول من ٢٠١٦، بزيادة ٤.٦٥ مليون مشترك، ما شاء الله، زد وبارك، تقريبا نوشك على بلوغ الرقم الذهبى ١٠٠ مليون خط محمول بمعدل محمول لكل مواطن، وعشرة ملايين منهم من يحمل أكثر من خط، من باب المظهرية أن تحمل خطين فى تليفون واحد لتترك مساحة فى راحة اليد لعلبة السجائر الأجنبية. البشرى السارة أن التليفون الأرضى يعود من بعيد لاحتلال مكانته التى خلت، وهذا لعمرى عجيب وغريب فى زمن سيادة المحمول، إجمالى المشتركين فى الهاتف الأرضى بلغ ٦.٢٢ مليون مشترك فى الربع الأول من ٢٠١٧، مقارنة بنحو ٥.٩٠ مليون مشترك بالربع الأول ٢٠١٦، بزيادة ٣٢٠ ألف مشترك.
فلنحتفل إذن بعودة الغائب، ولنسعد بالأرضى فى ظل اكتساح المحمول، الإجمالى الرقمى لمشتركى الهاتف الثابت والمحمول بلغ ١٠٦.١٣ مليون فى الربع الأول من العام الحالى، مقارنة بنحو ١٠١.١٦ مليون خلال الربع الأول من العام الماضى، بزيادة ٤.٩٧ مليون مشترك، وهو رقم يكلف الميزانية الأسرية أرقاما خرافية لا تتناسب أبدا مع شعب يترجى الله فى حق النشوق.