رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


التفاوض أفضل للأزمة الكورية والدبلوماسية المصرية يمكن أن تلعب دورًا الخيار العسكرى.. انتحار قومى

16-9-2017 | 18:07


يقلم – السفير. رضا الطايفى

لم تعرف شبه الجزيرة الكورية الهدوء منذ انتهاء الحرب الكورية المدمرة فى يوليو ١٩٥٣ بتوقيع اتفاق هدنة عسكرية لم يحل دون استمرار المناوشات والمناورات والحوادث العسكرية المحدودة الهدف والنطاق، وترك الباب مفتوحًا أمام كافة الاحتمالات، وظلت شبه الجزيرة مسرحًا ومظهرًا للحرب الباردة واستمرت بؤرة توتر قابلة للاشتعال فى أى وقت يمكن أن يخطئ فيه أحد أطراف النزاع تقدير حساباته تجاه الطرف الآخر.

فى تقديرى أن هذه الحالة من العداء والتوتر والتصعيد المتواصل سوف تستمر ما استمرت الظروف القائمة فى شبه الجزيرة الكورية من شكوك متبادلة بين الكوريين بفعل الإرث الدموى والمرير للحرب الكورية وما خلفته وراءها من ضحايا بشرية ودمار بنيوي، وفى ظل حالة الاستقطاب القائمة على المستويين الإقليمى والدولى وتواجد قوات أجنبية واستمرار المناورات العسكرية فى كوريا الجنوبية التى تحرص عليها الأخيرة بالتعاون مع الولايات المتحدة خشية تعرضها لغزو كورى مفاجئ على غرار ما فعلته كوريا الشمالية فى يونيو ١٩٥٠ التى يقابلها سباق محموم من قبل كوريا الشمالية على زيادة ترسانتها العسكرية وتزويدها بكافة أنواع الأسلحة التقليدية والمتطورة، فضلًا عن مخزون مخيف من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وتماديها فى إجراء تجاربها الصاروخية لتطوير منظومة الصواريخ الباليستية القصيرة والبعيدة المدى التى يتجاوز تهديدها كوريا الجنوبية واليابان والقواعد العسكرية الأمريكية فى المنطقة ليطول بعض الولايات الأمريكية نفسها حيث تجاوزت التجارب الصاروخية، التى أجريت منذ تولى الرئيس الكورى الشمالى الحالى كيم جونج أون أكثر من سبعين تجربة بما يعادل ضعف التجارب الصاروخية التى أجريت فى عهد والده الرئيس السابق كيم جونج ايل الذى حكم كوريا الشمالية منذ ١٩٩٤ خلفًا لوالده كيم ايل سونج حتى وفاته عام ٢٠١١، فضلًا عن ست تجارب نووية أجريت أعوام ٢٠٠٦-٢٠٠٩ وثلاثة منها أجريت فى عهد كيم الثالث أعوام ٢٠١٣-يناير ٢٠١٦ “قنبلة هيدروجينية” -٩سبتمبر ٢٠١٦ “أضخم تفجير نووى تجريه كوريا الشمالية منذ تجربتها الأولى المحدودة فى ٢٠٠٦”،وقد أجرت كوريا الشمالية تجربتها النووية السادسة يوم ٣ سبتمبر٢٠١٧ وهى لتجربة هيدروجينية مجهزة ليتم تحميلها على صاروخ باليستى عابر للقارات، ووفقًا لتقديرات يابانية وكورية جنوبية فإن قدراتها تفوق قوة التجربة السابقة عشرة أضعاف، وأشارت مصادر يابانية أن قدرتها التدميرية تفوق تأثير القنبلة الذرية الأمريكية التى ألقيت على هيروشيما وناجازاكى بمقدار يصل ثلاثة أضعاف.

ولا شك أن تمادى كوريا الشمالية فى تطوير ترسانتها الصاروخية والنووية وفى زيادة مخزونها من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية فضلًا عن ترسانتها من الغواصات والطائرات والأسلحة التقليدية لا يزيد فقط من حالة التوتر والتصعيد فى شبه الجزيرة الكورية بل إنه قد يؤدى أيضًا إلى سباق تسلح نووى وصاروخى فى المنطقة خاصة من قبل كل من اليابان وكوريا الجنوبية التى تشير التقديرات أنها تملك تقنيات انتاج السلاح النووى فى غضون أشهر معدودة، كما أن استمرار التجارب والتهديدات الصاروخية والنووية سوف يؤدى حتمًا إلى استدعاء المزيد من القوات الأجنبية بصورة تدفع الأمور إلى حافة الهاوية مثلما هو حادث فى فى الأزمة الأخيرة القائمة حيث اضطرت كوريا الجنوبية إلى الاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية على نشر منظومة الدرع الصاروخية «ثاد» فى الأراضى الكورية وهى الخطوة التى أثارت معارضة واستياء وترقب حذر من قبل كل من الصين وروسيا.

إن الحرب الإعلامية القائمة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة ظلت سمة مميزة للعلاقات الأمريكية الكورية الشمالية طوال أكثر من خمسة عقود من الزمان، حيث ظل التهديد والوعيد الكورى الشمالى للولايات المتحدة قاسمًا مشتركًا فى كافة تصريحات سلالة “كيم” التى تحكم كوريا الشمالية منذ نهاية الخمسينيات من القرن العشرين حيث دأب “كيم الأول” مؤسس كوريا الشمالية كيم ايل سونج على التصريح بأن أى اعتداء أمريكى متهور على بلاده لا يعنى فقط إيذانًا بدمار الولايات المتحدة فقط بل دمار العالم أجمع، ولقد عايشت مثل هذه التصريحات طوال فترة عملى فى الشطر الشمالى الكوري، بل وأكثر من ذلك كنت أتابع وأعايش مظاهر دق طبول الحرب من القيادات الكورية والإعلام الكورى الشمالى طوال فترة المناورات العسكرية الأمريكية- الكورية الجنوبية كل عام والتى تتم منذ ١٩٦٧ سنويًا وحالة الاستنفار القصوى لدى الكوريين الشماليين استعدادًا للحرب الوشيكة وتواصل صفارات الإنذار والغارات الوهمية واللجوء إلى التحصينات والمخابئ المنتشرة فى أنحاء البلاد والتى يتجاوز أعماقها أكثر من مائة متر تحت سطح البحر وحركة المركبات العسكرية التى تجوب الشوارع وأصوات مكبرات الصوت التى تصيب المرء بحالة من الهلع اعتقادًا بأن الحرب المدمرة والشاملة واقعة لا محالة، إلا أن شيئًا لم يحدث لان طبيعة المناورات المشتركة دفاعية حسب تأكيدات الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية المتكررة.

الجديد فى الأزمة الأخيرة بين الجانبين هو أن التصريحات الكورية الشمالية التى صاحبت تجاربها النووية والصاروخية والتى أعقبت قرار مجلس الأمن بفرض عقوبات اقتصادية ومالية على كوريا الشمالية وهى تصريحات ليست بغريبة أو جديدة على النظام الكورى الشمالى والتى كانت دائمًا تمثل بالونة اختبار لكل إدارة أمريكية جديدة قد قوبلت هذه المرة على غير العادة بتصريحات تصعيدية من قبل الإدارة الأمريكية ممثلة فى الرئيس الأمريكى نفسه دونالد ترامب ووزيرى الخارجية والدفاع والتى تفاوتت من “نفاذ الصبر الاستراتيجى للولايات المتحدة تجاه ممارسات وتهديدات كوريا الشمالية” و”أن كافة الخيازات والسيناريوهات بما فيها السيناريو العسكرى أصبحت مطروحة لوقف التهديدات الصاروخية والنووية الكورية الشمالية” وصولًا إلى “أن كوريا الشمالية سوف تواجه بالغضب والنار من قبل الولايات المتحدة” وآخرها تحذير نارى أمريكى لبيونج يانج ردًا على تجربتها الصاروخية السادسة بأن واشنطن لن تتوانى عن استخدام كل إمكانياتها بما فى ذلك السلاح النووى إذا ما واصل نظام كيم جونج أون تهديداته لواشنطن وحلفائها. مع إلتزام الرئاسة الأمريكية التأكيد على قيام الولايات المتحدة بالدفاع عن أراضيها وحلفائها بكل ما لديها من إمكانيات دبلوماسية وأسلحة تقليدية ونووية.وهى تصريحات تضمنت تحذيرات وتهديدات مباشرة لكوريا الشمالية التى فتحت شهيتها لإطلاق تصريحات مضادة تضمنت استهزاءً من الرئيس الأمريكى وتهديدات بضرب العمق الأمريكى والاستعداد لإطلاق عدد من الصواريخ الباليستية بعيدة المدى على قاعدة جويام الأمريكية فى المحيط الهادى والتى أصابت سكان الجزيرة بحالة من الهلع خاصة وأن تنفيذ كوريا الشمالية لتهديداتها سوف تجعلهم على بعد ١٧ دقيقة فقط من الموت المحقق، إضافة إلى إصرار الرئيس الكورى على أن بلاده لن تضع برنامجها النووى على مائدة التفاوض مع تأكيده أن عصر التهديد النووى بضرب كوريا قد انتهى وولى إلى غير رجعة.

دفع هذا التصعيد الإعلامى بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بالعديد من المحللين والمراقبين لوضع تصورات لسيناريوهات الحرب فى شبه الجزيرة الكورية ما بين سيناريو توجيه ضربات مركزة على مواقع البرنامج النووى والصاروخى فى كوريا الشمالية وكأنها مواقع معلومة كلها للولايات المتحدة وهو ما أشك وأشكك فيه فى ظل الطبيعة الطبوغرافية فى الشمال الكورى وما بين سيناريو آخر بتوجيه ضربات جوية وصاروخية عن بعد لكافة المنشآت العسكرية والحيوية فى كوريا الشمالية على غرار سيناريو ضرب العراق، وآخر يتحدث عن تركيز الضربة على القيادة الكورية الشمالية نفسها لقطع رأس الأفعى على غرار سيناريو اغتيال العقيد القذافى متناسيًا دور وثقل القيادات العسكرية والحزبية فى الدولة الشيوعية، وسيناريو أخير يتحدث عن غزو برى شامل وكاسح لاجتياح واحتلال كوريا الشمالية مع ما يحتاجه ذلك من وقت لإعادة انتشار القوات والمعدات.

حقيقة فإن أية مواجهة عسكرية ستكون فى النهاية محسومة لصالح الولايات المتحدة بحكم تفوقها العددى والتقنى وترساناتها العسكرية المدمرة واقتصادها القوى الذى يفوق الاقتصاد الكورى الشمالى ٦٥٠ ضعفًا والقدرة على الاستمرار فى القتال لمدة ليست فى مقدور كوريا الشمالية التى يمكن أن تنضب موارد امداد وتموين جيشها بعد عدة أسابيع من بدء أية حرب أو مواجهة محتملة، ويقينًا فإن كل ذلك بديهيات ليست بغائبة عن صانع القرار الأمريكى الذى يقينًا أيضًا يضع فى اعتباره حسابات أخرى جعلته يحجم لأكثر من ستة عقود من الزمان عن اللجوء إالى الخيار العسكرى لوقف تهديدات كوريا الشمالية وإسقاط نظامها الشيوعى المتمرد، ومن هذه الحسابات أن للفريسة أنياب نووية وصاروخية وكيماوية وجرثومية قادرة على إلحاق خسائر مدمرة وفى مقتل للقوات الأمريكية وحلفائها فى المنطقة وخاصة اليابان وكوريا الجنوبية، وضعًا فى الاعتبار أن النظام الكورى الشمالى لن يتورع أو يتردد للحظة فى استخدام ترسانته النووية إذا ما استشعر بتهديد حقيقى لبقائه، وهو ما قد يضع العالم أمام مواجهة نووية كارثية على إقليم شمال وجنوب شرق آسيا، مع ما تمثله هذه المنطقة للعالم من أهمية جيواستراتيجية واقتصادية وتجارية، كما أن الموقف الصينى ليس بغائب عن حسابات صانع القرار الأمريكي، حقيقة أن الصين شاركت مؤخرًا فى إصدار قرار تشديد العقوبات على كوريا الشمالية كما أنها شرعت أيضًا فى تنفيذه رغم ما يسببه لها ذلك من أضرار اقتصادية، إلا أنه ليس من المتصور أن تقف الصين على الحياد فى أية حرب محتملة فى شبه الجزيرة الكورية يكون من شأنها إسقاط النظام الشيوعى فى كوريا الشمالية وإقامة نظام موالٍ للغرب على أنقاضه وبالتالى وجود دولة غير موالية لها فى شبه الجزيرة الكورية قد تكون دولة نووية وقد ترابط فيها قوات أمريكية سوف يمثل وجودها بهذا القرب تهديدًا للأمن القومى الصينى، وهو سيناريو يثير هواجس ومخاوف الدب الروسى أيضًا كما التنين الصينى بدرجة أو بأخرى لنفس الملابسات وإن كانت بعض التقديرات والتحليلات تشير إلى أن الصين يمكن أن تتخلى عن كوريا الشمالية فى حالة واحدة فقط وهى نجاحها فى عقد صفقة مع الولايات المتحدة تسمح لها باستعادة تايوان وضمها إلى الوطن الأم تحقيقًا لحلم “الصين واحدة”، وهو أمر محل خلاف، فهل حان وقت عقد مثل هذه الصفقة التاريخية التى تمثل قمة البراجماتية السياسية؟!!

فى التقدير إذن أن السيناريو العسكرى يظل مستبعدًا لأنه يمثل انتحارًا قوميًا لبعض أطراف الصراع يصعب التنبؤ بنهاياته إذا ما بدأ، وقد يكون استمرار فرض العقوبات وتشديدها على النظام الكورى الشمالى ضروريًا ومرحليًا لقدرة كوريا الشمالية على التعايش معها رغم تأثيراتها السلبية على الشعب أكثر من تأثيرها على النظام نفسه، وتبقى العودة إلى مائدة المفاوضات هى الحل الأمثل لنزع فتيل الأزمة خاصة وأنه سبق للمفاوضات أن حققت قدرًا من التقدم وخاصة صيغة المفاوضات السداسية التى سبق أن شارك فيها كل من الصين- الولايات المتحدة- روسيا- اليابان- كوريا الجنوبية- كوريا الشمالية حيث لعبت دورًا على الأقل فى إدارة الصراع والسيطرة عليه وعدم تصعيده، كما أن تصريحات الرئيس الكورى الجنوبى “مون جاى إن” المستبعدة للحل العسكرى للأزمة الكورية وتلك التى سبق أن أبدى فيها استعداده لعقد قمة كورية مع نظيره الشمالى على غرار القمم التى عقدها الرئيسان كيم داى جونغ ٢٠٠٠ وروه موهيون٢٠٠٧، يمكن أن تساهم فى خلق الأجواء المهيئة لإجراء مفاوضات لإيجاد مخرج لتفكيك البرنامج النووى لكوريا الشمالية التى تتوق بدورها إلى إقامة حوار مباشر رفيع المستوى بينها وبين الولايات المتحدة وإلى توقيع إتفاق سلام دائم بدلًا من اتفاق الهدنة الحالى يعطيها ضمانات وتعهدات أمريكية بعدم السعى إلى إسقاط النظام الشيوعى أو التدخل لتحقيق الوحدة الكورية بقوة السلاح، ولا شك أن الصين سيكون لها الدور المحورى فى تقريب وجهات نظر أطراف النزاع بحكم علاقتها الخاصة بكوريا الشمالية وبحكم مصلحة الصين فى استقرار الأوضاع فى شبه الجزيرة الطورية ولو بالحفاظ على الوضع الراهن كحد أدنى لتحقيق الاستقرار والتوازن المنشود، كما أن الدبلوماسية المصرية- بدعم دوائرها المتعددة وشواغلها العديدة- مرشحة بحكم تنوع خبراتها التفاوضية ومهيأة بحكم علاقاتها المتوازنة مع الكوريتين للإسهام بجهودها فى تحقيق السلام والاستقرار المنشود فى شبه الجزيرة الكورية، حيث سبق لى أن سمعت الزعيم كيم ايل سونج يناشد الرئيس الأسبق مبارك ببذل جهوده لدى الأمريكان لفتح حوار مباشر مع كوريا الشمالية خلال القمة التى جمعت بينهما فى بيونج يانج فى ربيع ١٩٩٠، تمامًا مثلما طلب منه الرئيس الكورى الجنوبى الأسبق روه موهيون التحدث مع القيادة الكورية الشمالية لوقف التصعيد خلال قمة القاهرة ٢٠٠٦.