رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الإنسان ابن بيئته

13-5-2023 | 18:02


د حسين علي,

كتب ابن طفيل، الفيلسوف الأندلسي المعروف؛ قصة فلسفية بعنوان «حي بن يقظان». وكان يقصد من كتابة هذه القصة أن يشرح للقارئ طبيعة العقل البشري كما يفهمها هو. وقد تخيل ابن طفيل - في هذه القصة - إنسانًا وُلِدَ وترعرع في جزيرة منعزلة، حيث أرضعته ظبية، وظل ينمو في تلك الجزيرة وحيدًا حتى بلغ مبلغ الرجال.

يقول ابن طفيل: إن عقل هذا الإنسان ينمو بنمو بدنه؛ حتى تم نُضْجُه في تلك الجزيرة، واستطاع أن يفكر ويستنتج حتى توصل بتفكيره المجرد إلى كثير من الحقائق الكونية التي توصل إليها الفلاسفة الكبار من قبل.

يريد ابن طفيل بهذا أن يبيِّن للقارئ أن العقل البشري جهاز فطري، وإنه ينمو من تلقاء ذاته، فلا حاجة به إلى التعلم والتلقين. يبدو أن ابن طفيل قد اعتقد أن العقل البشري حين ينمو بعيدًا عن سخافات المجتمع وأباطيله يصبح أوضح رؤيةً وأصح فكرًا، ويصير قادرًا على معرفة الحقائق المجردة، ومن ثمَّ يحبذ ابن طفيل - على ما يبدو - ابتعاد المفكرين عن المجتمع والناس في تأملاتهم؛ إنه بعبارة أخرى، يدعو إلى اِنْزِوَاء المفكرين في أبراجهم العاجية.

ولا ريب أن هذا الرأي هو رأي الفلاسفة القدماء جميعًا، فابن طفيل إذن لم يأت بجديد. وليس له من الفضل في هذا إلا ابتداعه لقصة شيقة حيث عرض فيها الرأي القديم في قالب جديد. وقد لاقت قصة «حي ابن يقظان» هذه رواجًا عظيمًا بين المفكرين، وترجمت إلى كثير من اللغات، وحاول تقليدها والاقتباس منها فلاسفة وكُتَّاب من مذاهب شتى. (دكتور علي الوردي، مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، 1994، ص 132)

والغريب أن كثيرًا من كُتَّابنا ومفكرينا لا يزالون حتى يومنا هذا متأثرين بهذه القصة، وينظرون إليها بوصفها الكلمة الأخيرة في قضية العقل البشري. إنهم لا يزالون يؤمنون بأن العقل موهبة طبيعية تنمو من تلقاء ذاتها؛ سواءً أعاش الإنسان في مجتمع أم عاش منذ ولادته وحيدًا منعزلاً.

أما الأبحاث العلمية الحديثة فهى تكاد تجمع على خطأ هذا الرأي. حيث ثبت اليوم أن العقل البشري صنيعة من صنائع المجتمع، وهو لا ينمو أو ينضج إلا في ظل المجتمع والناس. فإذا وُلِدَ الإنسان وترعرع بين الحيوانات فإنه يصبح حيوانًا مثلها. وما قصة «حي بن يقظان» التي ابتدعها خيال ابن طفيل إلا مجرد وهم وخرافة؛ لا وجود لها إلا في عقل صاحبها ومن سار على دربه من السابقين واللاحقين، ولا وجود لها في عالمنا الذي نعيش فيه.

في عام 1920 وعلى مقربة من إحدى الغابات الهندية؛ عاش القرويون في خوف وفزع شديدين بسبب سماعهم بعض الأصوات الغريبة الصادرة عن الغابة، وحين أبلغوا السلطات المعنية، حضرت قوة من الأمن راقبت مصدر الصوت، وعُرِفَ أن تلك الأصوات صادرة عن وكر للذئاب كان موجودًا على أطراف الغابة، كما لاحظ أفراد الأمن وجود حيوان غريب بين الذئاب؛ هو ليس ذئبًا وإن كان يشبه الذئاب في حركاته وسكناته، يأكل الحيوانات الحية، ويسير على أربع، ويعدو كالذئاب، ويحرك فكيه على نحو مخيف. وبعد اصطياد هذا الكائن الغريب اتضح أنها فتاة في الرابعة عشر يبدو أن أحد والديها ألقى بها - وهى طفلة رضيعة - على أطراف الغابة، ولحسن الحظ لم تلتهمها الذئاب، وعاشت معهم وتطبعت بطباعهم. وقد أطلق الباحثون على هذه الحالات التي عاشت بين الحيوانات وسلكت مسلكهم اسم «الفتاة الذئبة» wolf girl. وقد توصل الباحثون إلى حقائق مدهشة في شأن هذه الطفلة، إذ وجدوا أنها تسلك سلوك الذئاب، فهى تعوي مثلهم وتأكل مما يأكلون وتمشي على أربع. وتنتابها أحيانًا نوبات من التوحش الشديد. فتهاجم البشر وقد تعضهم أو تعض نفسها. وحين نقلوها إلى إحدى المصحات النفسية. حاولت أكثر من مرة مهاجمة الشرطة الذين كانوا يحرسونها.

وقد رُويِت قصص كثيرة مشابهة لهذه القصة. وكلها تشير إلى خطأ ابن طفيل. إذ من الواضح أن قصة هذه الطفلة الهندية، التي رويناها في السطور السابقة تشابه قصة  صاحبنا «حي بن يقظان» التي ابتدعها خيال ابن طفيل. ولو كان ابن طفيل منصفًا وفكر بطريقة صحيحة لقال إن «حي بن يقظان» الذي عاش بين الذئاب؛ سيصبح – بالضرورة – ذئبًا، ومن المستحيل عليه أن يكون فيلسوفًا كما أراد له ابن طفيل. إن عقل الإنسان لا ينمو إلا في حدود الإطار الذي يصنعه له المجتمع. ومن الظلم أن نطالب إنسانًا عاش بين البدائيين مثلاً أن ينتج لنا فلسفة متعالية كفلسفة كانط أو رياضيات بحتة كرياضيات أينشتين. (مهزلة العقل البشري، ص 133)

إن المفكرين القدماء ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم حين اعتقدوا بأن العقل البشري مرآة الحقيقة. فهم قد تلقوا ما لديهم من أفكار ومعتقدات من خلال قراءتهم كتب توارثوها عن أسلافهم. وأخذوا يحفظون ما قاله السلف فيها ويجترونه ثم يحشون عقول تلاميذهم به. وهم بذلك يضعون عقولهم وعقول تلاميذهم في قوالب جامدة موروثة عن السابقين؛ وهكذا يتحجر الفكر. فإذا جاءهم أحد من بعد ذلك برأي جديد يخالف ما اعتادوا عليه، اندهشوا منه ونسبوا إليه السفه أو المكابرة.

إنهم يعتقدون بأن ما اعتادوا عليه من آراء وما ألفوه من فكر هو أمر لا يقبل الجدل، فهو خالد في نظرهم وثابت. وهو الحق المبين الذي لا يأتيه الباطل أبدًا، ذلك لأنه قد تم التوصل إليه عن طريق العقل المجرد، وآمن به الناس عبر الأجيال؛ فلا مجال للشك فيه.

إن العقل يفكر استنادًا إلى بعض المقاييس والمعلومات السابقة. ومن الصعب أن يفكر العقل على أساس غير مألوف. فأنت إذا أردت أن تشرح لغيرك أمرًا يجهله؛ كان لزامًا عليك قبل كل شئ أن تأتي له بأمثلة من الأمور التي عايشها من قبل واعتاد عليها. وليس هذا النهج في التفكير مقتصرًا على الرجل العادي وحده؛ بل إن كثيرًا من المفكرين مهما علت مكانتهم الفكرية، لا يستطيعون أن يفهموا شيئًا جديدًا إلا على أساس ما سبق فهمه. ولهذا السبب كان العقل البشري عاجزًا عن إدراك حقائق الكون الكبرى، فهو محدود في تفكيره بحدود الأشياء المألوفة لديه في عالمه الضيق هذا. ومن العسير إن لم يكن من المستحيل، أن يفهم العقل عالمًا آخر مؤلفًا من مفاهيم تختلف عن مفاهيمنا الراهنة اختلافًا أساسيًا. (مهزلة العقل البشري، ص 135)

من مزايا هذا العصر - الذي نعيش الآن - إن الحقيقة المطلقة فقدت قيمتها، وصارت النسبية هى التي لها السيادة. فما هو حق في نظرك قد يكون باطلاً في نظر غيرك. وما كان جميلاً أمس قد ينقلب قبيحًا اليوم. إن ما نصفه اليوم بأنه غير معقول، قد يصبح معقولاً غدًا. لقد علمتنا التجارب أن كل شئ مهما بد في نظرنا سخيفًا قد يكون صحيحًا في يوم من الأيام عندما تتبدل المقاييس الفكرية التي اعتاد الناس عليها في تفكيرهم.

ويؤسفنا أن نقول: إن ابن طفيل كان مغرورًا. فقد كان مؤمنًا بصحة تلك المقولات المنطقية التي اعتاد عليها في محيطه الفكري، وظن أنها ستبقى صحيحة إلى الأبد.

المقال للدكتور حسين علي أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس.