رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


من عالِم اللغة الوَقَّادُ فى تراثنا إلى عالِم اللغةِ البَنَّاء فى مصرنا

16-5-2023 | 10:25


أ.د. صبرى فوزى أبو حسين

أ.د. صبرى فوزى أبو حسين
  • لكى يزداد شبابنا قناعةً بالأعمال اليدوية لابد أن نُعرِّفَهم بتراجم العلماء الكبار وحِرَفِهم وأعمالهم وآثارهم؛ ليحصل التأدُّب بآدابهم والتخلُّق بأخلاقهم
  • عندما نطالع أي كتاب تراجم فى تراثنا العربى نجد فيه ألقابًا تشير إلى علماء وأدباء امتهنوا حرفًا وصناعاتٍ معينةً وعُرِفوا بها كالأنماطى والفرَاء والآجرى وغيرهم
  • يُعرَف الشيخ خالد الجِرْجاوى بـ (الوَقَّاد)، حيث عمل فى الجامع الأزهر وقَّادًا، أي خادم قناديل الجامع الأزهر، أو بتعبير عصرى العامل المسئول عن إنارة الجامع الأزهر
  • د. مأمون له أبحاث علمية عديدة بعد الدكتوراة، ويؤدى دوره العلمى والثقافى ليشرف مصر وينشر الوعى المصرى الوسطى المستنير

التواكل والتكاسل والسلبيةُ والجمودُ فى الحياة أمراض تنتشر في شخصية بعض الأجيال الشابة في زمننا هذا، وهى خطيرة الآثار، على المستوى الفردى والجماعى معًا! ومن الأفكار المغلوطة الناجمة عن هذه الأمراض النفورُ من المِهَن والحِرَف والصِّناعات والأعمال اليدوية من نِجارة وحِدادة وسِباكة وكهربة ونِقاشة وخِياطة وما إلى ذلك، والنظرُ إليها، وإلى المُتسلِّحين بها، نَظْرةَ استخفافٍ وانتقاصٍ وتعييبٍ وسخرية، و الإعراضُ عنها، وعدمُ التفكير في التعرُّف عليها، وعدمُ الأخذ بأسباب تعلُّمِها وإتقانِها للتكسُّبِ بها!

ومن ثَمّ لابد من التفكير في علاج هذه الحالة النفسية السيئة ووقاية هذه الأجيال منها! فما أحوج الشباب فى وطننا إلى الاقتناع بأهمية هذه الحِرَف والمِهَن والصِّناعات والأعمال!

ولا ريب دينيًّا وعقليًّا وواقعيًّا في أن الحِرَف والمِهَن والصناعات جزء من الأعمال الحياتية الضرورية، وأنها أساس كل إنتاج وتعمير وتحضُّر، وأنها سبب استقرار كل أمة، وميزان تقدمها ورُقيِّها وتنميتها الشاملة، وإن إتقان هذه الحرف والمِهَن وشيوعها لَمِقياس كلِّ حضارة ونظام. ولا أدل على ذلك من قول الله -تعالى- عن سيدنا داوود-عليه السلام-: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لكُمْ لِتِحْصِنَكُم من بَأْسِكُمْ﴾، وكان الرسول-صلى الله عليه وسلم- من أصحاب المهن والحرف؛ فقد شارك في بناء الخندق يدًا بيد مع سائر المسلمين، وثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان فى مِهْنة أهله، وكان يَخِيط ثيابه ويُرَقِّعها ويَغسِلُها بيديه الطاهرتين الكريمتين، وكان يطبخ ويكنس بيوت العَجَزَة وكبار السن ويطهو لهم الطعام، وكم من المواقف والأحاديث التي وردت عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- التي تبارك العمل اليدوى وتثنى على كل عامل يأكل من عرق جبينه، ويتسلح بحرفة أو صنعة! وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب-رضى الله عنه-من الحريصين على نشر ثقافة العمل اليدوى، وذلك في غير نص وموقف إيجابى رُوى عنه، من ذلك الأثر العُمَرِى الذى نصُّه: "إني لأرى الرجل فيعجبنى، فأقول: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عينى"، وكان إذا مُدِحَ بحَضْرته أحدٌ سأل عنه: هل له من عمل؟ فإن قيل: نعم .قال: إنه يستحق المدح. وإن قالوا: لا. قال: ليس بذاك"، وكان يُوصى الفقراء والأغنياء معًا بأن يتعلموا المِهْنة، ويقول تبريرًا لذلك: "فإنه يوشك أن يحتاج أحدكم إلى مهنة، وإن كان من الأغنياء"! وكان سيدنا عمر يحارب العَطالة والبَطالة بقوله: "إني لأكره أن أرى الرجل سَبَهْللاً (فارغًا)، لا فى عمل دنيا ولا فى عمل آخرة"، وقد عُرِف عدد من كبار الصحابة-رضوان الله عليهم أجمعين- بإتقانهم الحِرَف والمِهَن؛ فقد كان سيدنا الزبير بن العوام-رضي الله عنه- خياطًا؛ وكان سيدنا سعد بن أبى وقاص-رضي الله عنه- نبَّالاً أي يصنع النبال؛ وكان سيدنا عمرو بن العاص-رضي الله عنه- جَزَّارًا؛ وكان سيدنا خَبَّاب بن الأرت حدادًا، وكان سيدنا سلمان الفارسى حلاقًا، ومُؤَبِّرًا للنخل، وخبيرًا بفنون الحرب، وكان التابعى الجليل سعيد بن المسيب-رضي الله عنه- يتاجر بالزيت، ويقول: "والله ما للرغبة فى الدنيا! ولكن أصونُ نفسى وأصل رحمى"...وغيرهم...

ولكى يزداد شبابنا قناعةً بهذه الأعمال اليدوية لابد أن نُعرِّفَهم بتراجم العلماء الكبار و حِرَفِهم وأعمالهم وآثارهم؛ ليحصل التأدُّب بآدابهم والتخلُّق بأخلاقهم، فيتحرك فيهم الشوقُ إلى الاهتداء بهديهم، والاقتداء بسِيَرهم؛ فقد اشتغل بها كثير من العلماء والأدباء والوُجَهاء في كل عصر ومَصْر، ومن يقرأ مصادر التاريخ العربى والإسلامى والمصرى يرى هذه الحقيقة بادية بارزة جدًّا عند كل العلماء والأدباء العباقرة الأفذاذ، حيث نجد آلافًا ينسبون إلى مِهْنة يَتَكَسَّبون بها، ويَتَعَيَّشون منها، إضافة إلى إتقانهم علمًا من العلوم، أو أدبا من الآداب،  وبراعتهم فى فن من الفنون!

ويكفي أن نشير هنا إلى أننا عندما نطالع أى كتاب تراجم في تراثنا العربى نجد فيه ألقابًا تشير إلى علماء وأدباء امتهنوا حرفًا وصناعاتٍ معينةً وعُرِفوا بها: من هؤلاء من كان يعمل في صناعة المفارش وبيعها فلُقِّب بـ(الأنماطى)، نسبة إلى الأنماط، وهى الفرُش التي تُبسط، مثل عثمان بن سعيد بن بشار أبو القاسم الأنماطى البغدادى (ت288هـ)، أحد أئمة الشافعية في عصره، ومن العلماء من كان يلقب بـ(الفَرَّاء) نسبة إلى صناعة الفِراء أى الملابس المُتَّخَذَة من جلود الحيوانات، مثل الفَرَّاء (ت207هـ) أحد أئمة مدرسة الكوفة في النحو، والذى عُرِف بلقب "أمير المؤمنين في النحو"، والذى قيل عنه: "لولا الفَرَّاءُ ما كانت عَرَبيةٌ"، والذى كان شديد الطَّلَب للمَعاش، يعمل بيده، ولا يستريح في بيته، وكان يجمع طولَ السنة فإذا كان في آخرِها خرج إلى الكوفة فأقام بها أربعين يومًا فى أهله يُفرِّق عليهم ما جمعه ويَبَرُّهم! ومن العلماء من كان يعمل في صناعةالآجُرِّ (الطوب) وبيعه فلُقِبَ بـ(الآجُرِّى) مثل الفقيه والراوية الثقة الصدوق أبوبكر محمد بن الحسين الآجُرِّي(ت360هـ) صاحب المؤلفات الكثيرة، ومنهم من كان يعمل في صناعة الزجاج، فَلُقِّب بـ(الزجَّاج أو الزجَّاجِى) مثل العالم اللغوى النحوى أبو القاسم الزَّجَّاجى (ت340هـ) صاحب كتاب حروف المعانى، والنحوى الأديب أبو إسحاق الزَّجَّاج(ت311هـ) صاحب كتاب معانى القرآن، ومنهم من كان يعمل بالحِدادة مثل العالم البلاغى المُقَنِّن لعلوم العربية السَّكَّاكِى (ت626هـ)، المعروف بموسوعته "مفتاح العلوم"، والذي نُسب إلى مهنة السِّكاكة(الحدادة) التى كانت تحترفها أسرته؛ إذ ظل يعمل فى صناعة المعادن إلى أن بلغ الأربعين من عمره فأتقن العربية والمنطق وتعرف على اللغتين التركية والفارسية. وعندما ننظر-مثلاً- إلى مَن  لُقِّب بـ(الوَرَّاق) أى الذى يعمل بمِهْنة الوِراقة (أى الطباعة) نجد أسماء الوَرَّاق الدولابى(ت130ه)، والوَرَّاق المؤرخ (ت362هـ)، والوَرَّاق النحوى(ت381هـ)، والوَرَّاق الكرمانى(ت329ه) والوَرَّاق السراج (ت695هـ)،... وغيرهم من الأعلام العلمية المكافحة الكثيرة في تاريخنا العربى.

الجِرْجاويُّ اللُّغَوِيُّ الوَقَّاد فى تراثنا

ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ في تاريخنا المصرى الشيخ خالد الأزهرى (838-905هـ) ذلكم العلم الصعيدى السوهاجى الجِرْجاوى الذي تُعَدُّ حياته درسًا في العمل والإنتاج وإثبات الذات، ومن ثم حرص كتاب السِّيَر والتراجم فى عصره وبعد عصره على كتابة سيرته أمثال السخاوى(ت902هـ) فى كتابه (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع)، ونجم الدين الغَزِّى(ت1061هـ) فى كتابه (الكواكب السائرة فى أعيان المئة العاشرة)، والأستاذ علي مبارك(ت1893م) فى كتابه (الخطط التوفيقية)، وترجم له المستشرق الألمانى بروكلمان في دائرة المعارف الإسلامية، ومن كتاب السير والتراجم المحدثين الأساتذة: يوسف سيركس فى موسوعته معجم المطبوعات العربية، وخير الدين الزركلى في موسوعته (الأعلام)، وعمر رضا كحالة في موسوعته (معجم المؤلفين)، بل إن الباحث أحمد سعد كتب مقالاً بعنوان(خالد المصرى الأزهرى قصة خادم قناديل الجامع الذى أصبح سيبويه عصره)، كما أُلِّفتْ فى دراسة تراثه رسائل علمية جامعية! وإن مطالعة ترجمته فى كتب التراجم المختلفة لتطلعنا على ذلك. وهاك بيانًا بها:

نشأته:

إنه أبو الوليد زين الدين خالد بن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن أحمد الجرجاوى الأزهرى، الذي عاش سبعًا وستين سنة، خلال القرن التاسع الهجري، فى الفترة (838ه=1434م- 905هـ=1499م)، وقد وُلِد في بيئة صعيدية مكافحة، بمدينة جرجا، التابعة لمحافظة سوهاج، ومن ثم لُقِّب بـ(الجِرْجَاوى)، وذُكِر في كتاب الضوء اللامع أنه يُلَقَّب "الجِرْجِيِّ؛ نسبة إلى جِرْجةَ"! ثم انتقل الشيخ خالد بصحبة والده إلى القاهرة، وهو لا يزال طفلاً.

حرفته:

يُعرَف الشيخ خالد الجِرْجاوى بـ(الوَقَّاد)، حيث عمل في الجامع الأزهر وقَّادًا، أى خادم قناديل الجامع الأزهر- أو بتعبير عصرى- العامل المسئول عن إنارة الجامع الأزهر؛ ففى سيرة هذا العالم ما يدل على أنه ابتُلى بحادث حياتيى فارق، تمثَّل فى تعرُّضه لتَنَمُّر من طالب، غيَّر مجرى حياته، وجعله يتخذ قرارًا ذاتيًّا بتطوير نفسه وترقيتها عقليًّا واجتماعيًّا عن طريق العلم، حيث بدأ الشيخ خالد دراسته بعد أن أسقط فتيلةً من النار على كراسة أحد طلاب الأزهر، وقيل: أسقط بعض الزيت، وأظنه زيت القنديل! فقام الطالب بتعنيفه تعنيفًا شديدًا، حيث شتمه الطالب وعيَّره بالجهل، فتأثَّر الجرجاوى من ذلك تأثرًا نفسيًّا شديدًا، فقرَّر أن يترك الوِقَادة، وذهب إلى مدير الجامع الأزهر وقَيِّمِهِ آنذاك، وطلب منه أن ينتقل من قائمة (العُمَّال) بالجامع إلى قائمة (الطلاب)، فأخبره المدير أن هذا سينقص من راتبه، (من ثمانية دراهم إلى أربعة فقط)! فوافق (الجرجاوى)وأصرَّ على طلبه، فانتقل فعلاً إلى قائمة (طلاب الجامع الأزهر)، وأخذ يشتغلَ بطلب العلم بعد أن بلغ من العمر ستًّا وثلاثين سنة؛ حبًّا فى العلم، ورغبةً في إثبات ذاته وتطوير حياته:

وما استعصى على شخصٍ منالٌ إذا الإقدامُ كان له ركابا

تعلُّمُه:

وفي القاهرة حفظ العامل (خالد الجرجاوى) القرآن الكريم، ثم التحق بالأزهر الشريف، حيث تلقى العلوم العربية الأصيلة، وهو فى سن الكهولة، في عمر السادسة والثلاثين من عمره، فأخذ علوم البيان والبديع والنحو والعربية والمنطق عن  المؤرخ شمس الدين السخاوى (ت902هـ)، وأخذ النحو والصرف عن اللغوى النحوى أبى العباس الشُّمُنِّى(ت872هـ)، ومن شيوخه السيد على تلميذ ابن المجدى (ت850هـ)، الذى تلقى منه علم الفرائض والحساب والفلك، والشيخ علي بن عبد الله السنهورى(ت889هـ)، الذى تلقى عنه اللغة والقراءات والأصول،... وغيرهم من شيوخ عصره الذين أسهموا فى تعليمه وتأهيله ليكون أحدالمتخصصين الأفذاذ في علوم المنطق والبلاغة والنحو بالجامع الأزهر، غير أنَّه اهتمَّ بعلم النحو أكثر من غيره!

عمله:

وهكذا مَرت حياة المصرى(خالد الجِرجاوى) ففي بدء حياته تكسَّب من حِرفةَ (الوِقَادة)، ثم تركهاوأكبَّ على طلب العلم، وتسلَّح بعلوم العربية وتبحَّر فيها، حتى أُهِّل ليدرِّس، فعَمِلَ فى مجال التعليم والتدريس، حيث تولى منصب (شيخ الشيوخ) بخانقاه سعيد السعداء (وهى مكان صوفى يجمع بين المسجد والمدرسة خاص بالصوفية)، ثم تصدَّر للإقراء بالجامع الأزهر الشريف بالقاهرة، حتى انتفع به خَلْقٌ كثير! فبرع وأشغل الناس، وأخذ فى تدريس الطلاب اللغة العربية وفنونها الأساسية في هذا المكان المصرى المبارك.

مكانته:

ذاع صيت الشيخ خالد الجرجاوى بعد ذلك وأصبح من أهمِّ علماء عصره، وألَّف عددًا من الكتب في النحو، وتميَّزت مؤلفاته النحوية بالعناية الفائقة بالخلاف النحوى، وكان يكثر من ترديد آراء ابن هشام الأنصارى المصرى (708-761هـ)، وهذا لم يمنعه من تخطئته فى كثير من الأحيان! ويلاحظ على مؤلفاته أنَّها لم تتضمن آراء جديدة؛ فهو قلَّما يجتهد من عنده! وليس هذا عيبًا قادحًا فيه! فهذه كانت طبيعة عصره المملوكى، عصر التجميع والشروح، وكانت طبيعة الدراسات النحوية والصرفية القائمة على عرض قواعد العلم بطريقة منظمة وإحصائية في المقام الأول؛ فجهد (الشيخ خالد الأزهرى) الأعظم كان ينصبُّ فى تنظيم المسائل الخلافية في النحو وعرضها بصورة متقنة مع ذكر الحجج والعلل، وآراء المتخالفين، ونسبة إلى رأى إلى صاحبه وتوثيقه بمنهج قائم على الوضوح والدقة لم يسبقه أحد إلى مثله! فلُقِّبَ -أو صار كأنه- سيبويه عصره. ويَعُدُّه مؤرِّخو النحو العربى من نحاة المدرسة المصرية الشامية، وكانت مدرسة واحدة فى هذا الزمان!

آثاره العلمية:

كثرت تآليف الشيخ وتنوعت، ويمكننا أن نجملها فى تآليف دائرة فى تخصصه الدقيق (وهو علم النحو)، حيث نجد له كتاب"التصريح بمضمون التوضيح"، وكتاب "تمرين الطلاب في صناعة الإعراب"، وقد فرغ من تأليفه سنة 886، ويُسَمَّى "التركيب"، وكتاب (الألغاز النحوية)، الذى فرغ من تأليفه يوم عرفة سنة 896ه‍، وكتاب "القول السامي على كلام عبد الرحمن الجامى"، وهو رسالة نحوية وتعليق على كتاب "الفوائد الضيائية" لعبد الرحمن الجامى ت898هـ، الذي يشرح فيه كافية ابن الحاجب(570-646هـ)، والذى انتشر انتشارًا كثيرًا بين علماء عصره.وللشيخ الجرجاوى أيضًا كتاب "إعراب ألفية ابن مالك"، وكتاب "شرح الآجرومية"، وكتاب "إعراب الآجرومية"، و"المقدمة الأزهرية في علم العربية"، وهو متن في النحو، جمع فيه أبواب النحو بطريقة مبسطة، وهو متن للمبتدئين، سهل العبارة. وصنع لهذا المتن "شرح المقدمة الأزهرية في علم العربية"، وكتاب "موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب"، وهو يشرح كتاب" الإعراب عن قواعد الإعراب "لابن هشام الأنصارى (708-761هـ)، شرحًا وافيًا، معتمدًا فى استقصاء الشرح على كثير من آراء علماء النحو واللغة التى وردت في مؤلفاتهم وتصانيفهم. وفى آثار الشيخ خالد الجرجاوى ما يدل على (نزعة أدبية نقدية)، تمثلت فى كتابه"الزبدة فى شرح البردة"، وهو شرح لبردة البوصيرى(608-696هـ)، وله اختصار لهذا الكتاب بعنوان "مختصر الزبدة في شرح البردة"، وفى مجال (علوم القرآن الكريم) نجد له كتاب "تفسير آية: لا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ"، وكتاب "الحواشى الأزهرية فى حل ألفاظ المقدمة الجزرية" في التجويد، فرغ من تأليفها سنة 867هـ.

 

وفاته:

تُوفِّي الشيخ خالد الأزهرى أثناء عودته من رحلة الحج في اليوم الرابع عشر من شهر محرم سنة 905هـ، وعمره آنذاك سبعة وستون عامًا، عاشها إنسانًا مصريًّا أزهريًّا صعيديًّا، مصلحًا معمِّرًا منتجًا، أعوام طيبة بدأها بإنارة المكان(الجامع الأزهر) وهو شاب في مقتبل عمره، ثم انتقل-فى مرحلة الكهولة ثم الشيخوخة إلى تطوير ذاته معرفيًّا، ليؤدى مهمة سامية، هي إنارة الإنسان (طلاب العلم بالأزهر الشريف) فى علوم اللسان العربى من نحو وصرف وبلاغة وبيان!

الجِرْجاويُّ اللُّغَوِيُّ البناء فى مصرنا

ينبغي أن يعلم شباب اليوم بمصرنا أن الكفاح في الحياة والحرص على إتقان حرفة أو حرف ليس خاصًّا بالعلماء والأدباء القدامى كالشيخ خالد الجرجاوى وَقَّاد الأزهر الشريف، بل يوجد بيننا فى زماننا هذا شباب علماء مكافحون فى الحياة، بدأوا حياتهم يتقلبون في حِرف وأعمال يَدَوِيَّة وبَدَنية مختلفة، وشاقَّة! من هؤلاء شاب يُعدُّ من جِينِ الشيخ خالد الأزهرى، وأراه امتدادًا له، ومن نفس إقليمه جرجا، تلك البقعة المصرية الصعيدية التى كانت تطلق قديمًا –أيام الشيخ خالد-على ما يُوازى محافظة سوهاج كاملةً أو يزيد! إنه ذلكم الشاب المصرى الصعيدى -الإخميمي الجِرْجاوى، حسب التعبير الجغرافى القديم- السوهاجى، الباحث اللغوى الأكاديمى الآن-الدكتور (مأمون على خلف الله حسن) البالغ عمره خمسة وأربعين عامًا، كلُّها كفاح وجهاد، حيث وُلِد في نجع كمال الدين، من قرية الكُولَة،التابعة لمركز إِخْمِيم، بمحافظة سُوهاج، فبدأ في هذا النجع يمارس الفِلاحة مع والده كعادة أهل الريف، واستمرّ يمارسها بين الحين والآخر حتى قُبيل حصوله على الدكتوراة، ثم انتقل إلى العمل فى قرى كثيرة بمركز إخميم، حيث عمل مدة عامين عاملاً فى أحد مشاريع الدولة المصرية لتربية الدواجن، وبعد ذلك سافرإلى القاهرة فعمل في مدينة الشروق - فترةَ إنشائِها- ضمن عمّال شركة لإزالة مُخَلَّفات البناء من المبانى المُحدَّد بيعُها، ثم عمل عاملاً في مجال نِجارة التسليح ومعها العمل في حِدادة التسليح، ثم عمل بسوهاج في مشاريع الدولة لتوصيل المياه للقرى؛ فقد كان يقوم بالحفر في الشوارع لتوصيل مواسير المياه رفقة آخرين، ثم سافر إلى دولة ليبيا وتنقَّل هناك بين العمل في مجالات البناء المتعددة: عامل بِناء، عامل خَرَسانة، عامل نِجارة، عامل حِدادة، عامل حفر قواعد بِناء، عامل تحميل مواد البناء- الطوب، الرمل، والزلط... إلخ- كما عمل مساعد كهربائى، ثم عمل بائعًا في أحد محلات العاصمة الليبيّة- طرابلس-، ثم عمل في قرية سياحية بوصفه مساعدًا لكهربائى... وكان ذاك السفر يتكرر أثناء فترات العطلة الدراسية للجامعة...

ولم يستمر الشاب المصرى الصعيدى(مأمون) على حالته العُمَّالية هذه، بل إنه قد حدث له تَنَمُّر-كالذى حدث للشيخ خالد الجرجاوى من قِبَل أحد الطلاب، وعيَّره بالجهل وعجزه عن الالتحاق بالثانوية العامة، وأنه من أبناء الدباليم! حيث كان من طلاب دبلوم التجارة سنة1996م! فأخذ بأسباب التطوير الذاتى؛ فقد قرر تطوير نفسه في التعليم، والوصول إلى تعليم أعلى من هذا التعليم المتوسط! فعمل على الالتحاق بالثانوية العامة بنظام المنازل، وما زال يجاهد فيها سنواتٍ عديدة، حتى حصل عليها بمجموع عالٍ، يَزيد على سبعين في المائة؛ ليُؤَهِّله إلى الالتحاق بالتعليم الجامعى منتظمًا في كلية دار العلوم بجامعة المنيا، حتى حصل فيها على الليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية سنة 2009م، ثم واصل تطوير نفسه إلى الدرجات العلمية الأعلى؛ فحرص على الالتحاق بالدراسات العليا في كلية دار العلوم بجامعة المنيا، فحصل على دبلوم الدراسات العليا فى تخصص البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن، سنة 2010م، ثم أعد موضوعًا لنيل درجة الماجستير، بعنوان: (التأويل البلاغى للحياة الأولى والموتة الثانية في القرآن الكريم) ليحصل على درجة الماجستير سنة2016م، ثم أعد موضوعه (الأفعال الكلامية فى السرد القرآني لأنباء الأمم السابقة: دراسة تداولية)؛ ليحصل على درجة الدكتوراة من كلية دار العلوم بجامعة المنيا سنة2022م)...

ثم كان استقرار ذلكم الشاب بوطنه مصر والعمل فى مجال التعليم الخاص حتى اللحظة الآنية، ومن ثم استحق بجدارة أن يعمل مدرسًا ثم مشرفًا ثم مُوجِّهًا للُّغة العربية والتربية الإسلامية، مدة عشر سنوات(2011-2020م) بإحدى المدارس الدولية للُّغات، كما عمل أستاذًا جامعيًّا فى مركز علمى مرموق خاص بالقاهرة لتعليم العربية للناطقين بغيرها، وهو نائب تحرير لمجلة دولية علمية مُحَكَّمة بإحدى الدول الآسيوية، وهو عضو ومُحكَّم بمجلتين تابعتين لجامعة محمد خيضر بسكرة، وجامعة وهران بدولة الجزائر، وهو الآن يؤدى دوره العلمى والثقافى مُشَرِّفًا مصرنا: يُفيد ويُنير، يتطور ويُطوِّر، وينشر الوعى المصرى الوسطى المستنير، وله أبحاث علمية بعد شهادة الدكتوراة، منشورة فى مجلات علمية دولية مُحَكَّمة...

فما أجملها من كفاحات لهؤلاء الأفذاذ! وما أجمله من تطوير للنفس والحياة والأحياء!...وإن هذه السِّيَر الطيبة لعلمائنا لتذكرُنا بقول أمير الشعراء، رضي الله عنه:

سعيُ الفتَى في عيشِه عبادهْ   وقائدٌ يهديهِ للسعادةْ

لأنَّ بالسعي يقومُ الكونُ    واللهُ للساعينَ نعمَ العونُ