رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أيدى الحكيم الناعمة

16-5-2023 | 10:32


رضا سليمان

رضا سليمان
  • مسرحية الأيدى الناعمة صدرت بعد ثورة 23 يوليو 1952 بعدة سنوات لتقدم معالجة حية لطبقة الباشوات والبرنسات ومَن على شاكلتهم من الذين لا يعرفون ماذا تعنى كلمة العمل
  • من مميزات المسرحية جرأتها على نقل الواقع واستخراجه من الخيال المسرحى إلى الواقع المسرحى فتوفيق الحكيم لا يطرح المشكلة ويترك المتلقى في حيرته إنما دائما يقدم الحلول

قبل أن نبحر معًا فى عالم توفيق الحكيم، وكيف تناول كـ "أديب" قضية "الأيدى العاملة" فى أدبه، أقول إن لكل أديب، فيما يبدو، مراحل أو محطات إن أردنا الدقة، يجول ويصول في أرضها متعرضًا لقضايا الحياة على اختلافها، فالأديب تجذبه الرومانسية فيكتب، الجريمة والتشويق فيكتب، التاريخى والدينى فيكتب، علم النفس والفلسفة فيكتب، قضايا العمال والأيدى العاملة فيكتب. ومنذ عدة أعوام قررتُ الكتابة عن الأيدى العاملة احتفالًا بعيد العمال، فكان ذلك عن طريق كتابة وتسجيل حلقات إذاعية "ميني دراما" اخترتُ لها عنوان "دقت ساعة العمل"، تناولتُ فيها عدة موضوعات عن تطوير الذات وإقامة مشروعات صغيرة بدلًا من الجلوس على المقاهى والخروج من القمقم والانتقال إلى المناطق الصناعية الجديدة وتوجيه الشباب نحو التفانى فى عملهم داخل وطنهم كما يتفانون فيه خارجه، وقد أذيعت هذه الحلقات عدة سنوات فى هذه المناسبة، وغيرها من الموضوعات المحفزة فى هذا الاتجاه.

أما "الأيدى الناعمة" لتوفيق الحكيم فلها معنا وقفات، هى مسرحية صدرت مطبوعة عام 1959م أى بعد ثورة 23 يوليو 1952 بعدة سنوات لتقدم معالجة حية لطبقة الباشوات والبرنسات ومَن على شاكلتهم من الذين لا يعرفون ماذا تعني كلمة "العمل".

وتبدأ المسرحية بمنظر على كورنيش النيل حيث يلتقى "البرنس" الذي يحمل في يده سيجارًا غير مشتعل بالدكتور "على حمودة" وهو دكتور فى علم النحو، متخصص فى حروف الجر وبالتحديد فى "حتى" كحرف جر يسبب معضلة فى علم النحو، وقد اختار الحكيم هذا التخصص الدقيق كنوع من الكوميديا التى تبرر عدم عمل الدكتور فى تخصصه، لأنه ببساطة غير مطلوب، وبالتالي يبرر لنا بحثه عن فرصة عمل، فنحن الآن أمام اثنين من "العواطلية" أحدهم عاطل بالوراثة وهو "البرنس" والثاني الدكتور "على حمودة" ابن فلاح بذل كل ما يملك لتعليمه فإذا به عاطل هو الآخر لأن مؤهله العلمى غير مطلوب. يدور بينهما حوار خفيف للتعارف ثم يتحرك فى رشاقة نحو "العمل" والوظيفة ويسأل "البرنس" الدكتور قائلًا "إنك تتكلم كثيرًا عن الوظائف .. الوظائف .. ما هي الوظيفة؟ ماذا يمكن أن نصنع فيها لو وجدناها؟ هل عندك فكرة؟" وهنا يجيبه الدكتور قائلا "لا .. أبدا .. ولكن المسألة بسيطة كما سمعت .. إنها عبارة عن مكتب .. من الصبح إلى الظهر .. ثم مرتب"، ليأتى بعدها رأى "البرنس" فى الوظيفة أو فى العمل بوجه عام فيقول "مكتب ومرتب .. هذا لطيف .. أستطيع أن أفعله .. وإن كنتُ .. كلام فى سرك .. لا أستطيع أن أستيقظ فى الصباح قبل الحادية عشرة".

وبهذه الكلمات نعلم أن معلومات أصحابنا عن العمل "الوظيفة" ومعلوماتهم عنها أيضًا أنها "مكتب من الصبح إلى الظهر ثم مرتب" وبالرغم من هذا فإنه، أى البرنس، لا يستطيع الاستيقاظ إلى مع الظهر، وبالتالي لا أمل فى أن يعمل، إلى أن يأتى بائع الذرة المشوية ليعطيهم درسًا فى معنى "العمل" وأنه ليس بالتعليم أو بالشهادات أو الجلوس خلف المكاتب فى الوظائف وإنما العمل له مفهوم آخر يظهر فى الجمل التى وردت على لسانه حيث يقول بائع الذرة المشوية "كل ولد من أولادى لابد أن يكون له عمل .. فلاح .. فحَّام .. المهم الشغل وكسب اللقمة وعدم العطل".

وفى جملة تالية يقول "الناس عندنا إما عامل وإما عاطل .. إما نافع يشتغل ويعرق ويفيد نفسه وغيره، وإما صايع من غير مؤاخذة لا شغله ولا مشغلة تنفعه وتنفع الناس وهذا فى عرفنا يا أولاد البلد لا يعتبر أنه رجل".

وتتابع الأحداث فى هذا السياق فنجد أن الحكيم أراد في هذه المسرحية أن ينقل الماضى المظلم إلى مستقبل مصر المظلم إن لم يعمل الجميع، وأراد أن يبين الحقيقة المرة المريرة (الأيدى الناعمة التى لا تعمل) فى هذه المسرحية الرائعة التى تتزاحم بالشخصيات الرئيسة والمسطحة، ثم أنه تعمد أن يصور كافة الشخصيات الحديثة فى مختلف تنوعها الاجتماعى من مهندس وطبيب وغيرهما ليبين الأيادى الناعمة والأيادى المتعبة في المجتمع المتعب آنذاك والذى لم ير الرفاهية، ثم اتجه الكاتب في مستهل سرده المسرحى إلى الثقافة الموازية للمجتمع المصرى والتي تتطلب الإغارة على الطبقات الكادحة ولذا تتمركز سردية المسرحية بالاسترجاع حيث لا يكشف عن نور الطمأنينة في الطبقات الكادحة، ومن مميزات هذه المسرحية جرأتها على نقل الواقع واستخراجه من الخيال المسرحى إلى الواقع المسرحى وهذا هو فن توفيق الحكيم، والذي لا يطرح فيه المشكلة ويترك المتلقى فى حيرته، إنما يقدم الحلول، فنجد هنا "البرنس" بالرّغمِ من تجريده من لقبه وماله إلاّ أنّه ما زال يعيش الماضى، ولم يتجرّد من عنجهيّته وعجرفته، ويتعامل مع النّاس باستعلاء وفوقيّة وازدراء، (يقول لبائع الذرة: طبعًا كثير.. بكم تشترى الكوز من الغيط.. بشرفك...؟ إن كان عند مثلك شرف؟)، إلا أنه لابد أن يعمل مثله مثل الآخرين، ويعتمد على نفسه، وتتوالى الأحداث التى تأخذنا في هذا الاتجاه، ويحتدم النقاش داخل القصر بين "الدكتور على حمودة" والبرنس فريد، حيث يقول الدكتور "لماذا لا تتعلّم أنت؟ لماذا تستمر في اعتبار نفسك خيرًا منّى؟ أنت مفلس وأنا مفلس، وأنت صاحب سمو سابق وأنا دكتور حالى؛ أي إنّ لقبك مفقود ولقبي موجود، فأنا فى هذا خير منك. أنت تستطيع أن تقول لي دائمًا: يا دكتور، وأنا لا أستطيع أن أناديك بـ يا صاحب السمو السابق إلّا تبرّعًا." ومن ثمّ حدث تحوّل في سلوك البرنس، إذ سرعان ما تتبدّل تصرّفاته ويتغيّر سلوكه بشكلٍ جذرى، بعد وقوعه في حبّ كريمة ابنة الحجّ عبد السّلام.

وفي عام 1962 تم إنتاج مسرحية "الأيدى الناعمة" وكانت مدة عرضها على خشبة المسرح 120 دقيقة والبطولة كانت لـ "يوسف وهبي، صلاح البشاوى، محمد السبع، سعيد خليل، حمادة عبدالعليم" والإخراج يوسف وهبي بينما كان مساعد المخرج هو شاكر عبداللطيف. وفى عام 1963 وبالتحديد يوم 29 ديسمبر كان أول عرض سينمائى لفيلم "الأيدى الناعمة" ومدة عرض 137 دقيقة، للمخرج محمود ذو الفقار، سيناريو وحوار يوسف جوهر، والبطولة "أحمد مظهر، صلاح ذو الفقار، صباح، مريم فخر الدين، ليلى طاهر، أحمد خميس"، وبالطبع النص الأصلى للأديب توفيق الحكيم، (توفيق إسماعيل الحكيم) المولود بالإسكندرية عام 1897 لأب مصرى من أصل ريفى يعمل في سلك القضاء في مدينة الدلنجات بمحافظة البحيرة، وكان يعد من أثرياء الفلاحين، وأم تركية أرستقراطية كانت ابنة لأحد الضباط الأتراك المتقاعدين لكنَ هناك من يقدم تاريخاً آخر لولادته وذلك حسب ما أورده الدكتور إسماعيل أدهم والدكتور إبراهيم ناجي فى دراستهما عن توفيق الحكيم حيث أرَّخا تاريخ مولده عام 1903م بضاحية الرمل فى مدينة الإسكندرية. والتحق بالتعليم ليتخرج في كلية الحقوق حسب رغبة أبيه عام 1925م.

ومن أهم أعماله الروائية "الرباط المقدس، يوميات نائب في الأرياف، عصفور من الشرق"، أما عالمه المسرحى فهو كبير نذكر منه "أهل الكهف، شهرزاد، سليمان الحكيم، إيزيس، الصفقة، السلطان الحائر" وغيرها العشرات فى مختلف مناحي الفكر والأدب وكانت وفاته في 26 يوليو من عام 1987م.