د. سارة عبدالخالق محرم
● العمل إكراه حيوى مفروض على الإنسان، لأنه مضطر للعمل لتلبية احتياجاته البيولوجية المرتبطة بالتغذية والحماية من الأخطار
● من أسباب تقسيم العمل عند أفلاطون أن الطبيعة لم تمنح جميع الناس نفس المهارات والكفاءات، وهذا ما يجعل الناس مكملين لبعضهم البعض
● وفقا وانسجاما مع التصور الماركسي فإن للعمل آثارا إيجابية على ماهية الإنسان حيث إثبات حرية الذات والتخلص والتحرر من سيطرة الطبيعة
العمل هو المبدأ الذي يسود هذا العصر، بحيث يتّفق عليه معظم البشر في قدرته على نشر الفاعلية والنشاط، ومن غير الممكن عزل مشكلته عن سائر مشكلات الإنسان، بل إنّ مصير هذا الأخير مرتبط به حقيقة وفعلا. ولعلّ موقفَ التّفكّر في هذه المشكلة [مشكلة العمل] يعتبر من قبيل جواهر المشكلات الفلسفية والإنسانية، بما أنّ سقراط الفيلسوف نفسه ارتقى به من مستوى التقنية والحرفة إلى مستوى التفكير: النقش والتوليد، فاعليتان بشريتان رفعهما سقراط إلى موهبة الممارسة الفلسفية ذات القدرة التّفكّرية بطابع كونى وكلّى صار معظم الفلاسفة يعملون على تقليدها، وفي ذلك درسُ الفلسفة في تعاليها بالإنسان من الواقع إلى الفكرة وممكناتها الميتافيزيقية.
يعتبر العمل من الوظائف الأساسية التى تميز الإنسان عن الحيوان، إلا أن هذا الأمر لم ينظر إليه بنفس الطريقة من طرف الباحثين والمهتمين. فالبعض رأى في ذلك إكراها فرض على الإنسان فرضا، والبعض الآخر وجد فيه تفجيرا للإبداع الإنساني الذي يرقى به الإنسان على باقي الكائنات. ولا يخلو الأمر من البعدين معا.
فمما لا شك فيه أن العمل إكراه حيوي مفروض على الإنسان، لأنه مضطر للعمل لتلبية احتياجاته البيولوجية المرتبطة بالتغذية والحماية من الأخطار ذات المصدر الحيواني أو الطبيعي، وهذا الإكراه هو الذي يجعل من العمل أمرا إجباريا تحول بفعل التطورات الاجتماعية والاقتصادية التى شهدتها الإنسانية إلى نوع من الإكراه الاقتصادي فى مجتمعاتنا الحديثة.
ويملك الناس بصفة عامة، تصورا مثاليا عن الماضى، إذ يعتقدون أن الأمور كانت أحسن مما هى عليه الآن، وأن كل شخص كان يحصل على ما يحتاجه دون عناء ولا جهد.
وقد ازدادت هذه الفكرة رسوخا مع المذهب الطبيعى الذي دافع عنه بضراوة المفكر جان جاك روسو. وأصبح كثير من الناس يظنون أن الحياة كانت أفضل وأسلم في السابق. إلا أن الواقع يكذب ذلك بشكل جذرى.
فما تمنحه الطبيعة للإنسان من خيرات لا يمكن استهلاكه بالشكل الذي تقدمه، ولا بد من تدخل الإنسان من أجل تطهيره أو تنقيته من السموم والأخطار التي يحملها. فالحليب الطبيعى للأبقار الطبيعية، على سبيل المثال، يصيب بداء السل. إن كل ما نستهلكه اليوم هو نتاج العمل الإنسانى سواء تعلق الأمر بالقمح أو البطاطس إن احتياجات الإنسان ليست ذات طبيعة غذائية فقط، فله احتياجات أخرى ذات طبيعة ثقافية كما هو الأمر بالنسبة للملابس ومختلف الأجهزة والتجهيزات التي يستخدمها في حياته اليومية. وهذا يدفعنا إلى استنتاج حقيقة أساسية وهى أن الإنسان مخلوق غريب لا توجد احتياجاته في الكوكب الذى يعيش فيه، بل عليه أن ينتجها.
وهذه الحقيقة فى جوهرها مخالفة لما جاء في كثير من الكتابات التي تتحدث عن تلبية الطبيعة بسخاء لاحتياجات الإنسان. فالأمر الذى لا مراء فيه هو أن الكوكب الذى نعيش فوقه غير منسجم مع احتياجات الإنسان.
إنه فقط الأكسجين الذي يعطى للإنسان بدون تدخل. أما سائر الأمور الأخرى فهى تستدعى بذل مجهودات إنسانية كبرى، بما في ذلك أبسط احتياجات الإنسان كالماء الصالح للشرب، فالحصول عليه يقتضى حفر الآبار أو تجميع المياه وتصفيتها…إلخ. من هنا يمكن أن نستخلص أننا نعمل من أجل تحويل الطبيعة التي لا تستجيب مباشرة لاحتياجاتنا أو كلها على الأقل. فنحن نعمل من أجل تحويل الأعشاب المتوحشة إلى حبوب (قمح، ذرة، شعير) والثمار غير القابلة للاستهلاك إلى الفواكه، والحديد إلى سيارات وطائرات…إلخ. فالنشاط الاقتصادى هو كل نشاط يهدف إلى تحويل الطبيعة إلى مواد قابلة للاستهلاك من طرف الإنسان.
هكذا يظهر أن الإنسان مضطر للعمل من أجل ترويض الطبيعة واستغلال خيراتها بشكل يناسبه. ولكن إذا اكتفى الإنسان بقوة يديه لإنجاز هذا العمل، فإنه لن يحقق تقدما كبيرا، ومن هنا ضرورة استعانته بالتقنيات، وهو ما يقودنا إلى الحديث عن الجانب الإبداعى في عمل الإنسان، لكن هل العمل يحقق ماهية الإنسان؟ وما هي انعكاساته على الفرد والمجتمع؟ ثمة تصورات فلسفية مختلفة تؤطر هذا الإشكال وسنطرح منها اطروحتين:
أولًا: أطروحه أفلاطون
حقيقة لم يهتم الفلاسفة في الماضى أو الحاضر بموضوع العمل اهتماما خاصا، غير أن الإشارات التي نعثر عليها في الكتابات الفلسفية لا تخلو من أهمية بالغة. ففى الكتاب الثاني من الجمهورية يبحث أفلاطون (428-384ق.م) عن أصل المدينة أو ما يمكن أن نسميه بالمجتمع السياسى، ويرد ذلك إلى تعدد احتياجات الإنسان التى لا يمكن أن يحققها لوحده فيفرض عليه العيش داخل جماعة من البشر. "أفيعمل كل من هؤلاء ما يلزم للجميع من إنتاجه، فيعد الفلاح مثلا وهو أحدهم، ما يحتاج إليه أربعة أشخاص من الطعام، فيقضي فى إعداد طعامهم أربعة أضعاف الوقت اللازم له لإعداد طعامه، ثم يقاسم إخوانه الثلاثة إنتاجه، أم أنه يهملهم ويعمل ما يسد حاجته، فيقضى ربع وقته في إعداد ربع مقدار الطعام، ويقضى الثلاثة الأرباع الباقية من وقته في إعداد مسكنه وكسوته وحذائه، ولا يتعب نفسه في مبادلة إخوانه الحاجات بل يعمل ما يحتاج إليه بذاته لذاته؟".
وقبل أن يجيب المتحاورون في الجمهورية عن هذا التساؤل يقوم أفلاطون بالتعريف بالاحتياجات الأساسية للإنسان. ويحددها في ثلاثة احتياجات هي التغذية والسكن والملابس، ثم يضيف الأحذية. ومن أجل تلبية هذه الاحتياجات على الإنسان أن يقوم بثلاثة أنشطة مختلفة: تحضير الغذاء، وصناعة الملابس وبناء السكن. وكي يتم تحقيق ذلك يرى أفلاطون أن هنالك سبيلين:
ـ السبيل الأول: هو أن يقوم كل فرد بإنجاز هذه الأنشطة الثلاثة بالتتابع، فيقسم وقته بينها، وهذا ما يحصل فعلا في بعض المجتمعات "البدائية" حيث يقوم الإنسان بكل أنواع الأنشطة.
ـ السبيل الثانى: وهو المتبع في المجتمعات المتطورة ويقوم على تخصص كل فرد من أفراد المجتمع في نشاط من هذه الأنشطة، حيث يخصص لها كامل وقته وهذا هو ما يسمى بالتقسيم الاجتماعى للعمل وهو الرأى الذي يميل إليه.
وتقسيم العمل عند أفلاطون مسألة ضرورية لثلاثة أسباب على الأقل:
*السبب الأول هو أن الطبيعة لم تمنح جميع الناس نفس المهارات والكفاءات، وهذا ما يجعل الناس مكملين لبعضهم البعض.
*السبب الثانى هو أن الإنسان يصبح ماهرا في عمل ما إذا كان ينجزه لوحده فقط. فالتخصص يؤدى إلى المهارة وتحسين الإنتاج.
*السبب الثالث هو أن التخصص يجنب إضاعة الوقت عند الانتقال من عمل لآخر، وهكذا فإن كل مدينة حسب أفلاطون، يجب أن تتوفر على الأقل على ثلاثة أو أربعة أشخاص: مزارع، بناء، حائك، وإسكافى (صانع أحذية). والواقع أنه يجب إضافة تخصصات أخرى لأن المزارع لن يستطيع صنع محراثه بنفسه كما أن الحائك لن يتمكن من صنع أدوات عمله بنفسه أيضا، ومن هنا ضرورة إضافة الحداد والنجار.
إلا أن هنالك فرقا كبيرا بين ما جاء عند أفلاطون في الجمهورية من ضرورة تقسيم العمل وما يدافع عنه اليوم رجال الاقتصاد والاجتماع. فأفلاطون لا يعير أية أهمية لارتفاع الإنتاج باعتباره أحد النتائج المباشرة المترتبة عن تقسيم العمل. إن ارتفاع الإنتاج شىء ينتمى إلى طبيعة الأشياء، وليس اختراعا اجتماعيا أو تاريخيا. بالإضافة إلى ذلك فإن أفلاطون يرى أن الهدف النهائى للعمل هو تلبية حاجة طبيعة فقط، ومن هنا نظرته إلى العمل كخدمة يقدمها المنتج للمستعمل، بتعبير آخر –لم يرد عند أفلاطون ولكن نستعيره من الاقتصاد السياسى الحديث- فإن الأشياء عند أفلاطون تتوفر على قيمة استعمال فقط، أما قيمة تبادلها فمنعدمة تماما، إن هدف مجتمع المدينة الفاضلة ليس هو إنتاج أكبر قدر ممكن من المنتجات، كما هو الأمر في المجتمعات الصناعية، ولكن إنتاج قيم استعمال ذات جودة عليا.
أرسطو تلميذ أفلاطون لا يخرج عن إطار تصور أستاذه حين أعتقد أن العبد هو أداة لخدمة الأسياد، فالحياة في نظر أرسطو عمل وليس إنتاجا، لذا فالعبد بحسب تصنيفه ضمن الأدوات الصالحة للعمل، حيث من لا يستطيع التفكير يصبح متاعا للآخرين، فالإنسان أما أن يكون ملكا لذاته، أو يكون ملكا ومتاعا للآخرين كما هو الحال عند العبيد.
يجب الإقرار أن الفلسفة اليونانية أقامت تمايزا بين العمل الفكرى والعمل اليدوى حيث قدست ومجدت الأول ودنست واحتقرت الثانى. يؤكد أرسطو أن الإنسان الذى يفكر عليه أن يخضع ويتحكم فى الإنسان الذى لا يفكر، حيث يجب معاملة من لا يفكر معاملة الثور الذي يجر المحراث.
إذا كانت الفلسفة اليونانية احتقرت العمل من حيث هو فاعلية جسدية يمثل حضور الحيوانية فى الإنسان بحيث يصبح مركزا الاستلاد المطلق فإن هذا الخطاب سيتغير مع ظهور فلسفة الأنوار ومع الثورة الصناعية حيث النظر إلى الشغل كخاصية مميزة للإنسان، وانتعشت فلسفة الشغل التي عملت على تمجيده وإبراز أبعاده الإنسانية وانعكاساته الإيجابية لتطوير حياة الفرد والمجتمع وقد اعتبر الاقتصادى أدم سميث أن العمل هو ثروة الأمم الحقيقية بوجود العمل توجد السعادة والتقدم وغيابه معناه التخلف والفقر وقد دامع ماركس أن الشغل ظاهرة إنسانية تميز الإنسان وتمجده للشغل يستطيع أن يغير ذاته ويغير الطبيعة مما يعنى أن الشغل يحقق ماهية الإنسان لكن فى ظروف تحافظ على كرامة الإنسان وحريته.
ثانيًا: أطروحة كارل ماركس
يرى كارل ماركس أن الطبيعة لا تقدم للإنسان احتياجاته بشكل مباشر وجاهز ، لذا فالإنسان مطالب بالخروج من كسله من أجل العمل والإنتاج، على اعتبار الشغل كفعل يتم بين الإنسان والطبيعة لتحقيق وإنتاج أثر نافع فالشغل عند ماركس هو مصدر للثروة، كما أكد ذلك علماء الاقتصاد ( آدم سميث )، لأن بالشغل نحول المادة إلى ثروة وبالعمل يخلق الإنسان ذاته، فهو ولادة جديدة للإنسان لكن في عالم الثقافة، فالإنسان بمجهوده الفكرى والعضلى المنظم والمخطط يطوع الطبيعة ويحول موادها إلى منتجات قابلة للاستهلاك أو الاستعمال، وبذلك تتحدد قيمة العمل في كونه وساطة بين الإنسان والطبيعة وبه يحقق الإنسان انتصاراته على الطبيعة وبالتالي بسط سيطرته ونفوذه، فالعمل كفاعلية إنسانية يتجاوز ما هو غريزى، بل يتطلب الوعى ويقصد به ويفتح مجال الإبداع أمام الإنسان، وبذلك يمكن الإقرار حسب ماركس أن العمل فعل خلاق فبه تحول القرد إلى إنسان على حد تعبير فريدريك انجلز، فبالعمل يؤسس الإنسان أول علاقة مع الطبيعة كعلاقة واعية وفاعلة من اجل إشباع رغبات الإنسان، وداخل فعل العمل ينسلخ الإنسان عن طابعه الغريزى ويثبت ذاته كذات فاعلة ويحس ويستمتع بإشباع رغباته إضافة إلا اعتبار العمل وسيلة أساسية يعبر بها الإنسان عن طبيعته الحقيقية، كما يتخلص من عالم الضرورة عن طريق إشباع حاجاتـه.
وفقا وانسجاما مع التصور الماركسى فإن للعمل آثارا إيجابية على ماهية الإنسان حيث إثبات حرية الذات والتخلص والتحرر من سيطرة الطبيعة، وهو ما لا تعرفه الحيوانات ، فماركس يؤكد أن تاريخ العالم ليس شيئا غير إنتاج الإنسان بواسطة عمل الإنسان.
ماركس يتحدث عن إيجابية العمل على ماهية الإنسان فى ظل سيادة الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، أما فى النظام الرأسمالى حيث تسود الملكية الفردية وحيث نظام السوق يصبح كل شىء قابل للبيع، يصبح العامل مضطرا لبيع قوته من أجل قوته، فاضطرار الإنسان إلى عرض قوته للعمل وإخضاعها للنظام السوق معناه التنازل التدريجى عن بعض مقومات كرامته مما يعنى بداية أتعايش مع تجربة الإفقار والتهميش.