أبو كرتونة وليس الأيدى الناعمة.. فيلم العمال الحقيقي
● الأيدى الناعمة فيلم بديع لا نمل من مشاهدته، لكنه ليس عن عيد العمال، حتى وإن احترم البسطاء خصوصًا في مشهد "طوبة فضة وطوبة دهب"
● "أبو كرتونة" دارت أحداثه كلها فى مصنع، ويمكن اعتباره أول صرخة سينمائية ضد الخصخصة التى كانت تطل باستحياء فى ذلك الحين
منذ أن بدأ التلفزيون المصرى تم ربط أفلام بعينها بمناسبات وإجازات قومية محددة، أغلقت الذاكرة الجمعية للمصريين أى احتمالات، ليس فقط لإضافة أفلام جديدة، وإنما لنقد الأفلام التى اعتمدها القائمون على خريطة التلفزيون فى مرحلة زمنية معينة بنوايا حسنة فى أغلب الأحوال، تطبيقًا للدور الدعائى لوسيلة الإعلام الأكثر تأثيرًا فى مصر منذ ستينيات القرن العشرين وحتى عصر السوشيال ميديا.
ساعد على ما سبق عدد القنوات القليل، بالتالى الخيارات محدودة أمام الجمهور، والمشاهدة المتكررة كل عام لنفس الأفلام في نفس المواعيد لم تكن تصيب الناس بالملل، فأنت تشاهد فيلم "رد قلبى" فى يوليو من كل عام، وفيلم "وإسلاماه" فى رأس السنة الهجرية، و"الأيدى الناعمة" مطلع مايو حيث إجازة عيد العمال؛ أمر لا يدعو للتذمر، فالأفلام مليئة بالنجوم، والأجيال الأحدث تجلس مع الآباء لتشاهد مجددًا، ويستعيدوا المشاهد الأكثر جذبًا للانتباه سواء تراجيديا أو كوميديا.
أفلام العيد.. بعيدًا عن العمال!
أحمد مظهر على سبيل المثال باعتباره قاسمًا مشتركًا بين "رد قلبى" و"الأيدى الناعمة"، ستشاهده يعادى ضابط الجيش "على" متقمصًا شخصية "البرنس علاء" العنيف المتعالى، ثم "البرنس شوكت" فى "الأيدى الناعمة" حيث اللطيف المتعالى أيضًا، الذى يستجيب فى النهاية للأمر الواقع ويقرر الخروج للعمل.
هنا مفترق الطرق؛ فيلم "الأيدى الناعمة" إنتاج 1963، المأخوذ عن مسرحية تحمل الاسم نفسه لتوفيق الحكيم ليس عن العمّال، وإنما عن ثنائية العمل والكسل، عن قيمة الإنتاج في حد ذاتها، كون أن التلفزيون المصرى -أو العربى كما كان يطلق عليه فى الستينيات- اختاره لاحقًا ليكون فيلم عيد العمال، فهذا لأنه كان الأكثر تناسبًا للسياسات فى ذلك الحين، خاصة أنه يحمل نقدًا مباشرًا لأسرة محمد على باشا التى تركت الحكم رسميًا عام 1953 بإعلان الجمهورية، التى هى ذاتها من أطلقت التلفزيون فى مصر، والتى أعطت العمال حقوقًا غير مسبوقة، بالتالى كان هو الأنسب فى ذلك الحين عندما تقرر عرضه لأول مرة فى عيد العمال، ثم ظلَّ هو فيلم الأول من مايو لسنوات طويلة.
بالتأكيد هناك أفلام أقدم منه بطلها كان عاملا، مثل "الأسطى حسن" على سبيل المثال، لكنه فيلم اجتماعى شعبى عن شخص ناقم على حياته البسيطة، يتعرض لإغواء من سيدة ثرية تورطه في جريمة، قبل أن ينقذه القدر فى النهاية.
أيضًا أفلام أخرى عديدة جمعها محررو الصحف الرقمية تحت عنوان "أفلام عيد العمال" فقط، من أجل تقديم قسم الفن لإنتاج يناسب الذكرى السنوية. على سبيل المثال لا الحصر، اعتبر البعض أن فيلم "الأرض" يناسب عيد العمال، رغم أن الفيلم كله عن صراع الفلاحين مع الباشا، لا يوجد بالفيلم عامل واحد. كذلك أفلام "للرجال فقط"، و"إمبراطورية ميم"، و"مراتى مدير عام"، كلها عن احترام عمل المرأة وأهميته في المجتمع؛ الأول يقول إن المرأة يمكن أن تعمل كمهندسة بترول فى منطقة نائية، والثانى والثالث البطلة هي المديرة، سواء الأم الأرمل فى "إمبراطورية ميم" أو الزوجة التى تترأس زوجها فى "مراتى مدير عام"، لكن أين العمّال والمصانع والآلات فى كل ما سبق؟
لا يشغل من يصنفون الأفلام تبعًا لمناسبات معينة أنفسهم بتلك الأسئلة على ما يبدو، ربما لو فعلوا لتوقفوا عن التصنيف أصلا، فالعمل الدرامى بالأساس يجب أن يكون صالحًا للعرض والتلقى فى أى وقت، وإلا فقد شرطا أساسيا من أصول الصنعة وتحول إلى محتوى وثائقى.
فيلم "أريد حلا" على سبيل المثال الذى يُنسب إليه تغيير مؤثر في قانون الأحوال الشخصية في عقد السبعينيات، هل من المنطقى ألا نشاهده إلا إذا كانت هناك مناسبة قومية تخص محكمة الأسرة مثلا؟!
خدعة "الأيدى الناعمة"
"الأيدي الناعمة" فيلم عن أحد أفراد أسرة محمد على، هاجمته الديون بعد الثورة، تخلت عنه ابنتاه بعد زواج الكبرى من مهندس ميكانيكا من عامة الشعب؛ باختصار عن عاطل بالوراثة يلتقى بعاطل بالثقافة؛ الدكتور المتخصص فى حتى والذى يريد أن يعمل فقط فى هذا التخصص. كلاهما نموذج صاغه توفيق الحكيم بعناية وحوَّله يوسف جوهر باحترافية إلى سيناريو وحوار أخرجه محمود ذو الفقار فى شريط سينمائى بديع لا نمل من مشاهدته، لكنه ليس عن عيد العمال، حتى وإن احترم البسطاء خصوصًا في مشهد "طوبة فضة وطوبة دهب".
صناع الفيلم فى ذلك الحين استجابوا لفكر الدولة، ونجحوا في تحويل مسرحية الحكيم إلى شريط يعبّر عن هذا الفكر، ويطالب الكل بالعمل والإنتاج، لأن المساواة لن تتحقق إلا بذلك، دون أن يغفلوا الجانب الرومانسى والفكاهى والغنائى، الذى أعطى للفيلم مكانته فى قائمة أفضل الأفلام المصرية فى القرن العشرين.
اكتشاف الفيلم الحقيقى
هل يعني كل ما سبق أن العمال افتقدوا فيلمًا يعبر عنهم طوال أكثر من 120 عامًا هى عمر السينما المصرية، الإجابة قطعًا لا، فهناك فيلم يصنفه الجمهور بأنه كوميدى، يتداولون عبارات وإيفيهات عديدة منه رغم أن بطله نفسه ربما تعامل معه أنه فيلم تجارى بالمقارنة بأفلام أخرى بارزة فى مشواره، لكن بعد 30 عامًا على خروج هذا الفيلم للنور يمكننا الآن أن نقول للقائمين على وضع خريطة القنوات المصرية إن "أبو كرتونة" هو فيلم عيد العمال الحقيقى وليس "الأيدى الناعمة".
"أبو كرتونة" الذى لا يصنفه كثيرون ضمن الأفلام المهمة لمحمود عبد العزيز، كونه يخسر المنافسة بسهولة أمام أفلام مثل "الكيت كات"، و"زيارة السيد الرئيس"، و"إعدام ميت" و"سوق المتعة" وغيرها، ربما يكون الفيلم الوحيد الذي دارت كل أحداثه فى مصنع، كتابة أحمد عبد الرحمن وإخراج محمد حسيب، إنتاج 1991، يمكن اعتباره أول صرخة سينمائية ضد الخصخصة التى كانت تطل باستحياء في ذلك الحين، قبل أن تغمر المصانع الحكومية عاما تلو الآخر.
الفيلم الذى يدور حول العامل "أبو كرتونة"، وكيف استغل جهله رئيس مجلس الإدارة الفاسد من أجل تمرير صفقة بيع المصنع واعتباره خاسرًا، يعود ويؤكد أن فطرة العمال هى المنقذ لكل مصنع وكل مشروع وطنى، والهجمة المرتدة لأبو كرتونة ورفاقه أنقذت رأس المال الوطنى من الضياع، وقام المصنع من جديد صامدًا تجاه الفاسدين.
صحيح أن الفيلم ملىء بالمواقف الكوميدية، وأداء محمود عبد العزيز المميز للشخصية وتفاصيلها وقاموسها الخاص، لكنه بكل إنصاف عبَّر عما يجرى فى كواليس المصانع الحكومية فى ذلك الحين، وأكد أن الصراع يشتعل كلما انفصلت النخبة وانحازت لمصالحها الخاصة عن الطبقة العاملة المنحازة للقمة العيش القليلة لكنها الدائمة، فيما يسعى المديرون للربح السريع الوفير ببيع ما لا يملكون أصلا.
ربما ساهم التناول الكوميدى الخفيف وعدم نجومية المؤلف والمخرج فى عدم حصول الفيلم وموضوعه على المكانة التى يستحقها، وظل "الأيدى الناعمة" ممثلا عن غير حق لعيد العمال، ليأتى هذا الموضوع -بإذنك يارب- ويحاول إعادة الحق لأصحابه كما عاد المصنع لعمّاله في "أبو كرتونة".