تعتبر ثورة 19 من الأحداث الفارقة في تاريخ مصر الحديث و المعاصر ، كونها أحد أهم نقاط التحول الديمقراطي في التاريخ المصري و التي شهدات العديد من الظواهر الإيجابية ، لا سيما حالة الاختمار الوطني و انصهار كل قوى الشعب في بوتقة واحدة و ظهور العديد من القوى الاجتماعية الجديدة و التي كان لها دوراً إيجابياً في مجرى الأحداث .
تعتبر الطبقة العاملة المصرية من القوى الاجتماعية الجديدة في مصر ، و هذا ما أكده اللورد كرومر في تقريره عام 1905 ( أن الصنائع التي أشتغل الوطنيون أنفسهم بها قروناً طوالاً آخذه في الإنقراض ... أن الترامواي يحل محل الحمير لنقل الركاب و بإنقراض ركوب الحمير تنقضي صناعة السروج و توابعها ، ومنذ قل إستعمال البلاط البلدي لتبليط أراضي الغرف و أصبح يصنع من الخشب ، أخذت صناعة الحصر تنقرض .. أما صناعة النسيج ففي إنحطاط و المنسوجات الأوروبية تحل محل المنسوجات الوطنية ).
و في ظل هذه الظروف ، صدر قانون 9 يناير عام 1890 بتقرير حرية العمل و الصناعة ، فقضى بذلك على الطوائف الحرفية نهائياً و كانت سبباً في ظهور الطبقة العاملة المصرية الحديثة . و منذ اوائل القرن العشرين كانت المشروعات الحديثه قد أخذت تنتشر في مصر ، و كان من أهم تلك المشروعات ، شركات السجائر و السكر و حليج الأقطان و الترام و الغاز ، فضلاً عن بعض المحال التجارية الكبيرة و بعض مشروعات حكومية هامة مثل السكك الحديدية ، و قد ترتب على ذلك إزدياد عدد العمال المشتغلين في تلك المشروعات . ومن ناحيه اخرى خضعت هذه الطبقه الوليده لظروف معيشيه سيئه، فقد كانت اجورهم ضئيله وساعات العمل طويله ومرهقه، وليس هناك ما يؤمنهم ضد ما يتعرضون له من مخاطر إصابات العمل والمرض والشيخوخه.
و في الواقع، وحتى قيام الحرب العالميه الاولى لم يكن بمصر تشريع صناعي لتنظيم امور العمال من حيث الاجور وساعات العمل وظروفه، والعلاقه بين العمل ورأس المال، ولهذا شعر العمال بوجوب تضامنهم والمدافعه عن حقوقهم. و قد سجل عام 1899 بدايه الصدام بين البروليتاريا أو الطبقه العماليه المكونه من عناصر مصريه واجنبيه وبين الرأسماليه الاجنبيه المستغله، ففي هذا العام أضرب عمال مصانع السجائر بالقاهره وقاموا بمظاهرات أمام مباني الحكومه واصطدموا مع البوليس، واستطاعوا في النهايه أن يحملوا اصحاب العمال على رفع الاجور، وتحديد ساعات العمل، وقد حاولوا تأليف نقابه على أثر إضرابهم، ولكن التوفيق لم يلازمهم، فعادوا فأضربوا مره ثانيه في عام 1903. وفي عام 1908 عمدت الشركات الى استخدام الآلات مكان العمل اليدوي، فقاموا بإضراب آخر، ونجحوا هذه المره في تأليف نقابه لهم في اكتوبر في نفس العام، اقتدى عمال الترام بعمال السجائر وانشأوا نقابه لهم وتوالت النقابات.
وعندما أخذ الحزب الوطني تحت زعامه محمد فريد في بث الوعي بين العمال، وتكوين رأي عام بينهم عن طريق تأسيس نقابات العمال والصناع، انشأ ببولاق عام 1909 نقابه عمال الصنائع اليدويه، وتبعها انشاء نقابات اخرى في الاسكندريه والمنصوره، فكان الغرض من انشاء نقابه الصنائع اليدويه هو تحسين حاله أعضائها الماديه والادبيه، وترقيه الصناعه وإيجاد روابط بينهم، وانشئت خدمات طبيه واستشارات قضائيه وصندوق للتوفير والتقاعد ونادي وشركات تعاونيه، كما انشئت مدارس الشعب الليليه. ومع إندلاع الحرب العالميه الأولى، واعلان الحمايه البريطانيه على مصر في 18 ديسمبر 1914، صدرت عدد من القوانين مثل قانون منع التجمهر، وإعلان الأحكام العرفيه والتي كانت بمثابه ضربه قويه للطبقه العامله، حيث جردتها من اسلحه العمل الجماعي وشل حركتهم في العمل الاقتصادي والوطني. وعلى جانب اخر، ومع إعلان الحرب اشتدت وطأه الحياه على ابناء الطبقه العامله نتيجه الغلاء وارتفاع اسعار السلع الأساسيه والضروريه (إرتفع سعر الذره بنسبه 81%، الارز 72%، الفول 114%، القمح 131%، السكر 194%، وبلغ سعر الفحم تسعه أمثال ماكان عليه قبل الحرب) وبدأ اصحاب المهن يتجهون نحو خفض الأجور، وتوفير العمال، مما أدى إلى ظهور البطاله وإنتشارها، ومن اكثر الصناعات التي تأثرت كانت صناعه السجائر لوقف تصدير منتجاتها من ناحية، وصعوبة إستيراد الكميات الكافيه من الدخان لإنتاجها. ولم تكن هذه الامور وحدها، وإنما عانت تلك الطبقه من السخره في العمل في فيالق الجيش الانجليزي، وهو ما عرف بإسم "فرقه العمل المصرية" أو ما اطلق عليه العامه تعبير (الشغل في السلطه).
ولعل تلك الإجراءات التعسفيه ضد العمال المصريين، يفسر لماذا كانت تلك الطبقه في طليعه القوى الثوريه في عام 1919؟! ومع قرب إنتهاء الحرب العالميه الأولى بدأ عمال السجائر يعودون رويداً رويداً إلى ممارسه أساليب العمل الجماعي للدفاع عن مصالحهم. ففي فبراير عام 1918 أعلن عمال الدخان والسجائر في الاسكندريه الإضراب العام، وأصدروا منشوراً للجمهور يوضح وجهه نظرهم. وكان هذا الإضراب هو شرارة البدء والعوده إلى أسلوب العمل الجماعي المنظم، وإمتدت الحركه إلى عمال الترام، السكك الحديديه، عمال المياه، عمال المطابع، والمحلات التجاريه في القاهره والاسكندريه. أما الحدث العمالي الأبرز، والذي جاء مبشراً بميلاد الثورة، فتمثل فيما قام به قادة "نقابه الصنائع اليدويه بالاسكندرية"، حين أخذوا على عاتقهم مهمه صياغه المطالب الأساسيه الشامله للطبقة العامله المصرية، فيما عرف "بوثيقة مشروع قانون لحمايه العمال" والذي تم نشره في 2 مارس 1919 أي قبل اسبوع من إندلاع الثوره في 9 مارس 1919.
وقد تمثلت هذه المطالب في توفير الخدمات الطبية والعلاج، والتعويض عن إصابات العمل وتحسين الأجور مع ضرورة ربط الأجور بتكاليف المعيشه، المطالبه بمكافأه نهاية الخدمة وتحديد ساعات العمل وتنظيم الجزاءات والحد من سلطة الفصل والاعتراف بالوجود النقابي، وتنظيم حق الإضراب، إلى جانب المساواه فيما بين العمال المصريين وغيرهم من الأجانب في الأجور. وقد أخذت المشاركه العماليه في ثوره 19 شكلين، الأول تمثل في المشاركة الفردية في إطار المسيرات التي نظمها الطلبه والمثقفون، وكانت بيانات سلطه الإحتلال البريطاني تصفهم بـ"الرعاع أو الغوغاء" تمييزاً لهم عن الطلبه والمثقفين. أما الشكل الثاني، فقد تمثل في المشاركة الجماعية للعمال مستخدمين سلاح الإضراب والمسيرات الجماعية، حيث أعلن عمال الترام وسائقو سيارات الأجره الإضراب العام في القاهره يوم 11 مارس 1919، وقد تعاون الجمهور مع العمال في إنجاح هذا الإضراب العام، حيث حاولت شركة الترام بمساعدة السلطه البريطانيه تشغيل الترام، وإمتنع الجمهور بشكل تام عن استخدامه. وقد تلا إضراب عمال الترام، إضراب عمال السكك الحديديه، الذين كان يقدر عددهم بنحو أربعة آلاف عامل. واتسع نطاق الإضراب حين أعلن عمال مطبعة السكك الحديديه في 17 مارس 1919، التوقف عن العمل ضمن الإضراب العام الذي قرره عمال المطابع بذلك اليوم. وإنضم إليهم عمال سكك حديد حلوان.
وفي اليوم التالي 18 مارس 1919، نظم العمال مسيرة كبرى كانت بعدد من أحياء القاهرة، وقد اعترضتها القوات البريطانيه، وفتحت النيران على المتظاهرين، فسقط منهم الكثير من القتلى والجرحى. وفي الاسكندريه، خرج العمال في مظاهرة ضخمة في 16 مارس، معلنين التوقف عن العمل، وشارك بها عمال السكك الحديديه بالقباري، إلى جانب عمال الميناء والفنارات وورش البوسته الخديويه وورش الحكومه. وفي اليوم التالي شهدت المظاهرات صداماً عنيفاً من قبل القوات البريطانيه، مما أسفر عن مقتل عشرة من عمال الميناء وإعتقال الكثيرين.
ولعل الحدث الجلل للمشاركه العماليه في ثوره 19، هو إيقاف مرفق النقل العام في مصر بكافه وسائله، وهو ما يمثل التحدي الأكبر الذي واجهته سلطات الاحتلال البريطاني خلال ثوره 19، حيث تم القطع لسير القطارات بين القاهره واسوان، وبطء سيرها من القاهره والاسكندريه، إلى جانب التوقف التام لنقل البضائع والبريد. لقد شكلت المشاركة الجماعية للعمال في أحداث الثورة إضافة هامة للعمل الثوري واستطاعوا أن يسجلوا أسمائهم بحروف من نور في أهم وأخطر تحول إجتماعي - ديمقراطي شهدته مصر في تاريخها الحديث.