«السعدني» يرصد تاريخ قارئات القرآن.. البداية والتطور والاندثار
عاشت مصر في زمان لم تعرف فيه أن صوت المرأة عورة، بل رأته لحنا من ألحان السماء جـنبًا إلى جنب مع قراء الإذاعة من الرجال، وانتشرت فيه قارئات القرآن من النساء، بل وصل الأمر إلى تلمذة أشهر المشايخ مثل الشيخ أحمد نعينع والشيخ مفتاح السلطني، على يد سيدة وهي الشيخة أم السعد.
ففي كتاب له، يرجع محمود السعدني تلك الظاهرة إلى "النياحة والتعديد"، أي من النساء اللواتي كنَّ يُستأجرن للبكاء على الميت، وإثارة مشاعر الحضور، في بداية القرن العشرين، على أساس أنه كلما كثر البكاء والعويل كانت مكانة الفقيد أكبر، بحسب معتقد كان سائداً.
ومع الوقت، بطلت هذه العادات جزئياً، ولكن استمرت الحاجة إلى من تُحيى أيام الحزن الثلاثة على الميت في بيوت النساء، إذ لم يكن مسموحاً باختلاط الجنسين في ذاك الوقت، فاحترفت بعض "النائحات" تلاوة القرآن، ومع الوقت استقلَّت المهنة بنفسها، وظهرت قارئات محترفات، درسن وتتلمذن في المعاهد العلمية المرموقة.
في "ألحان السماء" يرصد الكاتب محمود السعدني أشهر قارئات القرآن من النساء، في 134 صفحة استطاع أن يرصد صفحة مشرقة من صفاحات التاريخ المصري، وإليكم أشهر أسماء القارئات:
الشيخة كريمة العدلية
في بداية القرن العشرين، ربطت قصة حب أفلاطونية بين الشيخة كريمة العدلية والشيخ علي محمود القارئ وأستاذ الموسيقى العربية المعروف، فكان كل منهما يُنصت للآخر وهو يقرأ أو ينشد، فيشعر أنه نصفه الآخر.
وكانت كريمة تُصلّي الفجر في الحسين لتسمع صوت محمود وهو يرفع الأذان، فيما كان علي يتابعها في كل مكان تذهب إليه لينصت إلى مدائحها وتلاوتها العذبة.
ومن اللافت تاريخياً أن الشيخ علي كان يفضِّل صوت كريمة على كثير من القراء الرجال والفنانين، ممن تتلمذوا على يديه، ومنهم: محمد رفعت، وطه الفشني، والبهتيمي، وزكريا أحمد، والموسيقار محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وأسمهان.
وانتهت قصة الحب بزواج علي وكريمة، وصدحهما معاً في الإذاعة المصرية.
ومن الطرائف التي رصدتها مجلة الراديو المصري في عددها الخامس والخمسين، الصادر في الأيام الأولى من أبريل عام 1936، أن الإذاعة قدَّمت الشيخة كريمة العدلية مرتين في يوم واحد، الأولى كقارئة للقرآن في السابعة صباحاً، والثانية كمطربة في العاشرة وأربعين دقيقة مساء.
الشيخة منيرة عبده
بدأت الشيخة منيرة عبده القراءة وعمرها 18 عاماً، وكان لها جمهور في العالم العربي، ومع إطلاق الإذاعة المصرية عام 1934، صدحت منيرة مع زميلاتها عبرها، وكانت تتقاضى 5 جنيهات، في الوقت الذي كان الشيخ محمد رفعت يتقاضى فيه 10 جنيهات، ويقال إن ثريًا تونسيًا عرض عليها أن تحيي رمضان في قصره بصفاقس، مقابل ألف جنيه، وهو رقم ضخم للغاية في عام 1925، لكنها رفضت، فاضطر إلى الحضور والإقامة في القاهرة لينعم بترتيلها طوال الشهر الفضيل.
وعن توقفها عن القراءة في نهاية الثلاثينيات، يقول محمود السعدني في كتابه "ألحان السماء": "قبل الحرب العالمية بقليل، أفتى بعض المشايخ الكبار بأن صوت المرأة عورة، وهكذا اختفت الشيخة منيرة من الإذاعة، وتوقفت إذاعة لندن وإذاعة باريس عن إذاعة أسطواناتها خوفا من غضب المشايخ الكبار".
الشيخة أم السعد
ولدت أم السعد محمد علي نجم، عام 1925 بالمنوفية، وفقدت بصرها وعمرها عام واحد بسبب الجهل والطب الشعبي اللذين أفقدا طه حسين بصره قبلها.
وكعادة الريفيين، وهبها أهلها للقرآن، فحفظته بمدرسة حسن صبحي بالإسكندرية وعمرها 15 عاماً، ثم ذهبت إلى الشيخة نفيسة بنت أبو العلا "شيخة أهل زمانها" كما توصف، فاشترطت عليها لتعليمها القراءات العشر ألا تتزوج أبداً، خوفاً من أن يؤثر الزواج على مسيرتها، فوافقت.
هي السيدة الوحيدة التي تخصصت في القراءات العشر، وعكفت طوال 60 عاماً على منح الإجازة للقُرَّاء من شتى أنحاء العالم، ومن أبرز من تتلمذوا عليها الشيخ أحمد نعينع والشيخ مفتاح السلطني.
ولم تستطع أم السعد الوفاء بعهدها لشيختها نفيسة للنهاية، فتزوجت الشيخ محمد فريد نعمان، أول من منحته إجازة في القراءات، وكان ضريراً هو الآخر، ومن أشهر القراء في الإذاعة في هذه الفترة.
سكينة حسن
ولدت الشيخة سكينة حسن ضريرة في صعيد مصر، وتضاربت الأقوال حول تاريخ ميلادها فقيل 1880 وقيل 1896، ألحقها والدها بالكُتَّاب لتعلم القرآن، ورتلت القرآن والتواشيح في المناسبات الدينية، وسجلت بعض آيات الذكر على أسطوانات، لكن الأزهر، حرّم هذه التسجيلات، ما دفعها لهجر القرآن إلى الغناء، ومجموعة من القصائد والأدوار والطقاطيق القديمة.
وغيَّرت اسمها إلى "المطربة سكينة حسن"، في بداية عشرينيات القرن العشرين، لها ترتيل مسجل منذ عام 1911، وتوفيت عام 1939 أو عام 1948.