تغريبة جمال حمدان .. (1-2)
الدخول إلى محراب عالم بحجم وقيمة جمال حمدان، أمر ليس بالهين على من يكتب عنه، خلال دراستي بالمرحلة الثانوية، كان لدينا بعض من كتاب «شخصية مصر» مقررا دراسيا، ولم أكن أطالعها بهدف استذكار الدروس وحفظها، إنما وجدت نفسي أقع في غرام ذلك الكتاب، وبحثت عنه في المكتبات، إلى أن وجدت ملخصا له صادر عن دار الهلال العريقة.
ومع مطالعة كل سطر في الكتاب كنت أجد متعة في أسلوب المؤلف تختلف تماما عن أي باحث يقدم مادة علمية للمكتبة العربية، ولم يكن في ذلك الوقت متاح لنا البحث بسهولة عن ذلك المؤلف-علي الانترنت مثل الوقت الحالي - إلا عبر قراءة مؤلفات آخري له أو أن تطالع في إحدى الصحف الرصينة مقال عنه أو عن مؤلفاته عبر المكتبات العامة أو انتظار معرض الكتاب حتي يمكنك اقتناء أحد مؤلفاته بسعر مناسب، هكذا حاولت اكتشاف ذلك الفيلسوف العاشق لعلم الجغرافيا، حينما تطالع مؤلفات ذلك الفيلسوف العاشق يمكنك اكتشاف العلاقة بين جغرافيا المكان و تأثيرها علي السمات الشخصية للمجتمع.
حفظ «حمدان» القرآن الكريم في المرحلة الابتدائية، مما انعكس بشكل كبير علي أسلوبه الأدبي في معالجة كتاباته العلمية، و كان ذلك أحد أسرار مطالعة القارئ لأعماله العلمية و كأنه يطالع أحد النصوص الأدبية، تخرج من كلية الآداب قسم الجغرافيا عام 1948 ، ثم عين معيدا في جامعة القاهرة التي أوفدته في بعثة إلي جامعة ريدنج ببريطانيا ليعود إلي مصر بعد حصوله علي الدكتوراة عام 1953 منضما إلي هيئة التدريس ،و رُقّي أستاذا مساعدا، وخلال تواجده بالجامعة، كان له بعض المؤلفات التي كتبها وهي ،«جغرافيا المدن»، و «دراسات عن العالم العربي» وقد حصل بهذه الكتب على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1959م، و بقدر ما لفتت الجائزة أنظار الشارع الثقافي، بقدر ما أكتسب غيرة بعض رفاقه داخل الجامعة، وخلال العام 1963 تقدم باستقالته من الجامعة محتجا علي تخطية في الترقية.
وهنا تبدأ مرحلة جديدة من حياة جمال حمدان، ألا وهي مرحلة العزلة، وبحسب ماورد في كتاب «صاحب شخصية مصر: ملامح من عبقرية الزمان» فإن «حمدان» قال «لا أريد التعامل مع المجتمع، ولن أخرج من عزلتي حتى ينصلح حاله وإن كنت اتصور أن ذلك لن يحدث».
وبالرغم من العزلة الناتجة عن واقع مأزوم لا يعرف قيمة العلماء وهو ما ألقي بظلاله على الرجل، إلا أن «حمدان» في تلك الفترة قدم إنتاجا علميا غزيرا وأضاف إلى كتاب شخصية مصر الذي تحول إلى عمل موسعي.
عاش «حمدان» تغريبة من نوع خاص، رافضا التواصل مع من حوله، وهناك قصة شهير لرسالة خطها الأستاذ هيكل له وهي من بين مقتنيات مكتبة الاسكندرية حاليا ويقول نص الرسالة:
«عزيزي الدكتور جمال حمدان.. لم أتجاسر هذه المرة أن أطرق بابك على غير موعد، وهكذا فإني أكتب إليك لأقول إننا عدنا إلى القاهرة بعد غياب عدة أسابيع، وكما اتفقنا قبل أن أسافر فإني أترك لك اختيار الوقت الذي تراه مناسباً لكي نلتقي مرة أخرى، ولست أعرف ما هي المواعيد المناسبة لك في الأسبوع القادم الذي يبدأ من السبت الأول من يونيو؟ لكنه سوف يسعدني إلى أبعد حد أن أسمع منك. ومع التحية أرجوك أن تقبل صادق الود والتقدير».
كان «حمدان» اشبه بجراح يقبض على أدوات التشريح، يمكنه استخدامها بمهارة شديدة من أجل مواجهة الأمراض العضال، كم نحن في حاجة لمطالعة أفكاره الآن.
يقول في عمله الموسوعي «شخصية مصر»:
«كفانا إذًا حديثا عن مزايانا ومناقبنا، فهي مؤكدة ومقررة وهي كفيلة بنفسها، ولنركز من الآن على عيوبنا، لننظر إلى عيوبنا في عيونها في مواجهة شجاعة، لا لننسحق بها ولكن لنسحقها! لا لنسيء إلى أنفسنا ولكن لنطهر أنفسنا»
للحديث بقية الأسبوع المقبل