علمتنا التجارب أن كل شيء مهما بدا في نظرنا سخيفًا قد يكون صحيحًا في يوم من الأيام، فعندما تتبدل المقاييس الفكرية التي اعتدنا عليها في تفكيرنا؛ قد يصبح معقولاً غدًا ما كنا نقول عنه اليوم إنه غير معقول،.
لقد اعتاد الإنسان على رؤية الأرض مسطحة وثابتة في مكانها، ثم رأى الشمس تخرج من الشرق وتختفي من الغرب، فاعتقد أن هذا أمر بديهي لا يجوز الشك فيه، ولما جاء كوبرنيقوس Nicolaus Copernicus وأصدر كتابه المسمى «عن دوران الأجرام السماوية» والذي نُشِرَ بعد وفاته، والذي قال فيه بأن الأرض هى التي تدور حول الشمس.
أحدث صدور هذا الكتاب نقطة تحول فارقة في تاريخ العالَم والعلم، لأن معرفتنا وتفكيرنا قد تأثر تأثرًا عميقًا بالكشف العلمي الذي حققه «كوبرنيقوس»، فالقول إن الأرض لا تحتل مركز العالَم ليس مجرد حقيقة فلكية، وإنما هو تأكيد بأن الإنسان لم يعد هو مركز الكون، وأن كل ما يبدو لنا عظيمًا وهائلاً هو في الواقع أقل أهمية عندما يقاس يمعايير الكون.
ولنأخذ مثالاً واحدًا من هذه «البدبهيات» التي حطمتها نظريات العلم الحديث؛ وهو مفهوم «الزمان». فالناس اعتادوا على التفكير في مفهوم الزمان على أساس الثواني والدقائق التي تمر بهم. وإذا سألتهم متى بدأ الزمان ومتى ينتهي؟ وهل بدأ الزمان من نقطة لم يكن قبلها زمان؟ وهل ينتهي الزمان في مساره إلى أن يصل إلى لحظة ليس بعدها زمان؟ فلن تحصل منهم على إجابة، وسوف يلوذون بالصمت وهم يمطون شفاههم خشية أن تذهب بهم مثل هذه الأسئلة إلى مستشفى المجانين. (د. علي الوردي، مهزلة العقل البشري، ص 136)
جاء أينشتين أخيرًا؛ وقال:
إن «الزمان» لا يمثل مشكلة، إنما المشكلة كامنة في عقول الناس الذين اعتادوا على اعتبار الزمان مجموعة اللحظات التي تمر بهم، وصار هذا التصور عندهم عن الزمان من البديهيات التي ينبعي التسليم بها.
ولو أمعنا النظر لوجدنا أن مشكلة «المكان» تشبه مشكلة «الزمان» إلى حد كبير. فالمكان؛ أو هذا الفضاء الذي تسبح فيه الأجرام السماوية، أين يبدأ؟ وأين ينتهي؟ وهل هناك في الكون نقطة معينة ينتهي عندها المكان بحيث لا يكون مكان بعده؟
يقول أينشتين إن هذه المشكلة من صنع عقولنا نحن، ونتيجة من نتائج عادتنا الفكرية؛ ففي رأيه أن الكون محدب، وهو يحتوي على أبعاد أربعة لا ثلاثة، فبجانب الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والارتفاع، هناك بعد رابع هو «الزمان». والفضاء الكوني ينحني نحو البعد الرابع الذي هو الزمان. لقد قام أينشتين بحل مشكلتي الزمان والمكان بضربة واحدة، وصار الزمان والمكان شيئًا واحدًا في نظره هو «الزمكان». ولقد تحقق العلماء من صحة ما ورد على لسان أينشتين.
وقد حدث عام 1922 كسوف الشمس كسوفًا كليًا، فذهب الفلكيون إلى أستراليا؛ حيث كان الكسوف هناك تامًا وواضحًا. وأخذوا يرصدون النجوم بآلتهم الدقيقة. وقد دهشوا حين وجدوا النجوم الواقعة وراء الشمس تظهر عندهم في أجهزة الرصد؛ ومعنى هذا أن الشعاع الصادر من تلك النجوم لابد قد انحنى حول الشمس ووصل إليهم. ولما قاموا بقياس درجة انحناء الشعاع وجدوها مطابقة لدرجة انحناء الفضاء كما تنبأ أينشتين تمامًا. (المرجع السابق، ص 138)
فتحت نظرية أينشتين في مفهوم الزمان والمكان؛ أو مفهوم «الزمكان» - كما يسميه أينشتين - بابًا للخروج من عتمة الفكر القديم الذي مازال سائدًا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية. فالزمان هو بعد رابع في الفضاء يشبه أبعاد الطول والعرض والارتفاع، ومعنى هذا أنه ليس مجموعة من الثواني والدقائق التي تمر بنا. إنه بالأحرى خط ممتد بين أيدينا كخط الطول مثلاً؛ ونحن الذين نمر عليه خطوة بعد خطوة. وهو إذن لا يمر بنا كما تمر الثواني والدقائق. ويمكننا تشبيه الإنسان بالنسبة للزمان كراكب الدراجة الذي ينظر إلى الأرض فيراها تتحرك تحته مسرعةً، كأنها تمر به والواقع هو الذي يمر عليها وهى واقفة. فالزمان بماضيه وحاضره ومستقبله، خط ممتد في الكون وهو واقف في مكانه لا يأتي ولا يذهب. (المرجع السابق، ص ص 139 - 140)
الأفكار والمعتقدات التى كانت تسكن العقول فى عصر «بطليموس»، والتي كانت تقول بأن الأرض هى مركز الكون، تلك الأفكار والمعتقدات مازالت هى ذاتها التى يروج لها اليوم بعض الدعاة وتجار الدين، أولئك الذين ما برحوا يروجون بين المسلمين لتلك التصورات العلمية التي عفا عليها الزمن، والتي كانت سائدة في عصر ما قبل النهضة العلمية منذ مئات السنين. أمثال هؤلاء الدعاة لن يقبلوا عن تخلف المسلمين بديلاً!! رغم أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، فإن بعض الدعاة قد نجح في تشكيل تصور بعض الناس عن العالم، بحيث أتى هذا التصور متطابقًا مع تصور عصور التخلف العلمي، التي نظرت إلى الأرض بوصفها مركز الكون.
د. حسين علي
أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس