ليس من قبيل الصدفة أن أشاهد عرضين مسرحيين متتاليين من عروض البيت الفني للمسرح الذي يرأسه الفنان المبدع والصديق العزيز دكتور خالد جلال تم اخذهما من التراث المصري و العالمي و كلاهما ترك في نفسي أبلغ الأثر فقد كنت و ما زلت من عشاق المسرح بل من اشد المناصرين له ، و دائما مت ابحث عن كل عرض جدبد لاستمتع بالفن الوحيد الذي يصنع نجومه بأسلوب شديد الإختلاف عن أشكال الفنون الأخري، فنجم المسرح ليس مثل أي نجم آخر لانه يمتلك مواصفات خاصة و موهبة متفجرة تجعله قادرا علي التواصل المباشر مع الجمهور الذي قد يقبله بقوة و يدفعه نحو القمة فورت أو يرفضه بقوة و رفضا ربما يبعده عن خشبة المسرح الي الأبد فحكمه يشبه حكم النقض الذي لا راد له و لا حكم بعده ، لهذا أتردد في الكتابة عن أي عمل مسرحي لأنتظر حكم الجمهور ، و لكن في العرضين لم أتردد لحظة واحدة بل قررت أن اكتب بالفرحة التي عشتها و ما زلت اعيشها حتي هذه اللحظة .
خير في سلامة و سلامة في خير :
علي خشبة المسرح الكوميدي "ميامي" شاهدت تناولا جديدا لقصة المبدع خالد الذكر بديع خيري و ذلك من خلال عرض "طيب و أمير " للمخرج محمد جبر و المؤلف احمد الملواني الذي استلهم عرضه من نص قسمتي لبديع خيرى والذي تحول الي فيلم سينمائي عام ١٩٣٧ يحمل اسم سلامة في خير و كان هذا الفيلم هو أول فيلم طويل للمخرج نيازي مصطفي ، و أيضا يحمل رقم ٧٦ في قائمة أفضل فيلم في السينما المصرية منذ عام ١٩٢٧ و حتي عام ١٩٩٦ و هو عام وضع القائمة من خلال استفتاء بين النقاد و هو يحمل أيضا رقم ٧٨ في تسلسل الأفلام الروائية الطويلة و هو الذي أعاد العبقري نجيب الريحاني الي السينما بعد أن قرر اعتزالها و التفرغ للمسرح ، و قد يظن البعض أن كوميديا الثلاثينات لا تصلح لعصرنا الحالي و لكن مدير المسرح الكوميدي الفنان ياسر الطوبجي ( و هو احد ابناء و تلاميذ المبدع خالد جلال ) كان له رأي آخر فاختيار هذا النص البسيط الذي يحمل بداخله عمق التجربة الاجتماعية مع الكثير من الكوميديا الراقية التي لا تحمل " افيهات " خادشة للحياء أو مواقف مفتعلة اثبت للجميع أن الفن الجيد ليس له عمر أو مدة صلاحية و الأعمال التراثية القديمة بشئ من التصرف و إستخدام لغة العصر الجديد قادرة علي التحدي و النجاح و جذب الجمهور ، ثم يأتي دور اختيار الابطال و هم هشام إسماعيل، عمرو رمزي، تامر فرج ، شريف حسني ، أحمد السلكاوي، نهي لطفي ، شيماء عبد القادر، محمود امين الهنيدي فكل منهم يستحق ان يكون نجما كوميديا مطلقا عن جدارة و استحقاق فهم يملكون خشبة المسرح و يملاونها بالفن و الضحك و الموهبة الحقيقية التي لا تتصنع و لا تكذب و لا تتجمل و برغم أن الأحداث تقودنا منذ بداية العرض إلي القصة الأصلية الا انها لم توقعنا أو توقع الابطال في فخ المقارنة بين العملين فهما و ان تشابها في الشكل اختلفا تماما في المضمون و هذه براعة المؤلف و المخرج فقد استطاعا نسج عمل مختلف تماما من قصة معروفة للجميع لهذا تفاعل الجمهور مع المسرحية تفاعلا ايجابيا جعلها بحق من أجمل العروض التي أعادت إلينا المسرح الكوميدي الجميل ، الراقي ، الخالي من اي إسفاف أو تصنع أو استخفاف بعقول المشاهدين و العرض ينتصر لقيمة اجتماعية كدنا أن نفتقدها و هى الطيبة التي كانت عنوان للانسان المصري في كل مراحل حياته لقد افتقدناهلد وسط خضم العصر الذي يعيش و يتنفس شرا و بلطجة و يرسخ لقيم دخيلة علينا و هى صراع القوة الذي بطأ فيه الاقوي علي رقبة الأضعف ليعلو و يرتفع .
الفنان الذي احب تمثاله :
العرض الثاني هو " سيدتي انا " و الماخوذ عن نص "بجماليون" للكاتب الكبير برنارد شو الذي تناول أسطورة يونانية قديمة عن شخصية فنان تشكيلي نحت تمثالا لامرأة بلرعة الجمال ووقع في حب هذا التمثال و عرض علي احد مسارح برودواي حيث حقق نجاحا باهرا و رقما قياسيا في ايراداته مما دفع الكثير من المبدعين الي إعادة تقديمه علي المسرح تارة و فى السينما تارة أخري، و تحمس له المنتج المسرحي الاشهر سمير خفاجي و الكاتب المبدع الراحل بهجت قمر فقررا تمصيرها و تقديمها تحت اسم " سيدتى الجميلة " من بطولة الثنائي الشهير فؤاد المهندس و شويكار و في العرض المصري صنع الأستاذ معلم ابناء الطبقة الراقية من الفتاة الفقيرة النشالة سيدة مجتمع يتهافت الجميع علي جمالها و ثقافتها حتي الخديوي و أمه و في النهاية وجد نفسه يحب هذه السيدة حبا ملك عليه كل حواسه ، و علي خشبة المسرح القومي برئاسة الفنان ايمن الشيوي بدأ عرض المسرحية المأخوذة من سيدتي الجميلة و لكن برؤية و إخراج الشاب المبدع محسن رزق و الذي استطاع أن يوظف كل طاقته الإبداعية و كذلك كل طاقات المسرح القومي لتقديم عرضا مسرحيا مبهرا و مملوء بروح الشباب و طاقات ممثليه الرائعة ، و للذين لا يعلمون من الأجيال الجديدة أهمية المسرح القومي يكفيهم أن ينظروا الي قائمة أعماله السابقة و اسماء النجوم الذين مروا علي خشبته و هم يرتعدون أجلالا و احتراما لقيمته و من من لا يزال يذكر النجمات الرائعات سناء جميل ، سمبحة أيوب، عابدة عبد العزيز ، محسنة توفيق ، سهير المرشدي ، و غيرهن كثيرات و كذاك نجوم الزمن الجميل عبد الله غيث ، كرم مطاوع ، رشوان توفيق ، حمدي غيث ، يوسف شعبان ، محمود ياسين ، عزت العلايلي ، حسين فهمي ، و غيرهم و أعمال الرواد توفيق الحكيم، نعمان عاشور ، عبد الرحمن الشرقاوي ، سعد الدين وهبة ، بوسف إدريس و العديد من الكتاب الآخرين و المخرجين المبدعين ، لهذا كانت مهمة أبطال سيدتى انا صعبة بل شديدة الصعوبة فداليا البحيري التي تقف علي خشبة القومى لأول مرة و في دور قدمته من قبل أيقونة المسرح الكوميدي في الستينات شويكار كان عليها أن تستدعي كل طاقاتها الإبداعية حتى تجتاز الاختبار الأصعب في مسيرتها الفنية و عندما دقت الخشبة دقاتها الثلاث المعروفة احتبست الأنفاس و تطلعت العيون الي البطلة التي فاجئتنا جميعا بأداء ملأ خشبة المسرح من أقصي اليمين الي أقصي اليسار بالتمثيل و الرقص و الغناء و الاستعراض و كأنها ولدت علي هذه الخشبة العريقة و تشربت كل ما مر عليها من إبداعات سابقة ، و بدون اي ذرة من ذرات الافنعال أو التكلف كانت " صدفة بعضشي " الجديدة التى تحمل شارة عصرها الجديد و عمرها الشاب و لكن ببصمة الزمن المسرحي الجميل ، اما " عفريت " التمثيل نضال الشافعي فيثبت لجمهوره يوما بعد يوم انه كتلة مشعة من الضوء تطغي علي مصابيح إضاءة المسرح القوية و هو أيضا يحمل بداخله طاقات كوميدية هائلة قادرة علي طرح البهجة و السعادة علي مساحة قد تفوق مساحة صالة العرض عشرات المرات ، اما الأستاذ فريد النقراشي فهو هذا الفنان المثقف الذي استغل ثقافته و ابداعه في دور " حسب الله بعضشى " بأقتدار لبس له مثيل و برغم انه يمثل الجانب الاجرامي في المسرحية فهو الحرامي السكير الا أن ملامح الحارة المصرية الأصيلة لم تغادره فهو لم يحولها الي ساحة قتال و بلطجة كما يحدث اليوم بل صورها كنكتة خفيفة بسيطة يمكن أن تعود الي طريقها القوبم اذا حانت لها الفرصة و تغيرت ظروفها ، باقي الابطال خاصة شباب القومي كانوا علي قدر المسئولية و قدموا ادوارهم ببراعة كل في مكانه ، المخرج محسن رزق استخدم اسلوب الاسكتشات السريعة في منطقة تعليم البطل لتمثاله الجميل فقد أدرك بحسه الفني انه لا يجب إستخدام الأسلوب التقليدي حتي لا يقع في محظور المقارنة خاصة و ان هذه المنطقة فى العمل القديم كانت من اعلي المناطق علي مستوي الأداء و الكوميديا و الحقيقة انه لا يوجد أي وجه للمقارنة فالعمل الأول يحمل بصمة عام ١٩٦٩ بينما يحمل عذا العمل بصمة ٢٠٢٣ .