رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


النهج الفلسفي اليوناني (2 – 4)

13-6-2023 | 11:07


محمد جادالله

أنهينا مقالنا السابق بعرض موجز تناولنا فيه تعريف مبسط لكلًا من "ديمقريطس" و"أفلاطون"، وكان هدفنا الأول أن نضع أمام أعين القارئ تصور واضع وصحيح ودقيق، يكون بمثابة تعريف مبسط لكلًا منهما. ونأتي الآن في هذا المقال وما يليه ببيان عرض موسع بعض الشيء لجوانب فلسفة كلًا منهما، حتى نستطيع أن نقف على فهم صحيح ودقيق للمنهج الذي اتبعاه هذان الفيلسوفان في تأسيس مناحي فلسفتهما المختلفة.

عزيزي القارئ سوف ما نحاول الوصول إليه خلال هذه المقالات هو بيان الصلة بين "ديمقريطس" و"أفلاطون"، حيث إن غرضنا في المقام الأول العثور على قرائن تاريخية تثبت تلك الصلة. وهو ما يدفعنا إلى استبدال كلمة (صلة) بكلمة (تأثر) Effect وإن نستطيع أن نستبدل بها كلمة (تشابه) .Comparison أي مجرد أتفاق أو تشابه أو حتى إلي محض الصدفة، وحتى لا يتم الخلط بين العلاقة (التشابه) وعلاقة (التأثر).

لذلك نجد أن كلمة (التأثير) هي فعل ظرف أو شيء أو شخص في آخر. وقد يكون هذا التأثير تدريجيًا ومتصلًا، ويتعاون مع علل أخري في أحداث المعلولات. يقول لالاند (أندريه لالاند ‏ فيلسوف فرنسي، 1867 – 1964) في هذا الصدد "قد ينشأ التأثير مما لدي بعض الناس من سلطان علي أفكار الغير وإرادتهم". أما التشبيه وهو دلالة على مشاركة أمر لأمر آخر في شيء ما، أو بمعني آخر هو إِلحاقُ أَمرٍ بأَمر لصفة مشتركة بينهما

نستنتج من هنا عزيزي القارئ أن، التشبيه: هو رصد اتفاق بين طرفين. أما التأثير أو التأثر: هو برهان علي أن هذا الاتفاق يرجع إلى تأثير من طرف على طرف آخر. وهو ما سنتبناه خلال هذا المقال والمقالات القادمة، حيث إننا سنقتصر في تناول لفلسفة "ديمقريطس" و"أفلاطون" على الجوانب التي تكون بمثابة مقدمات للنتيجة التي ننشدها. وعلى هذا سنبدأ أولى لبنات عرضنا بأقدم مشكلة ظهرت في تاريخ الفلسفي، وهو مشكلة المعرفة، والسؤال الآن، هل اقتفى "أفلاطون" أثر "ديمقريطس" خلال معالجته لهذه المشكلة أم كان له رأيًا مغاير ومخالف له؟

عزيزي القارئ، المعرفة عند ديمقريطس ترجع إلي الحواس وهي طريقة المعرفة، والإحساس مادي لأنه نتيجة حركة الذرات وتأثيرها في أعضاء الحس ويشترك البدن في إدراك هذه الإحساسات، فهي إحساسات صادقة لأنها واقعية وتختلف من شخص إلى آخر وتختلف عند الشخص نفسه، ولكن هذا الاختلاف لا يرجع إلى طبيعتها، بل إلى أعضاء الحس، ففي الإنسان والحيوان والآلهة حواس أكثر من الحواس الخمس، بل إنه هناك محسوسات كثيرة تنفذ إلينا، ولكننا لا نلاحظها أو ندركه لعدم وجود الإدراك الملائم لها.

أما أفلاطون كان أول فيلسوف يبحث مسألة المعرفة لذاتها، وأفاض فيها من جميع جهتها، ووجد لها رأيين متعارضين هما رأي بروتاجوراس وأقراطيس من جهة، وهم يردون المعرفة إلى الإحساس، ومن جهة أخري رأي سقراط الذي يضع المعرفة الحقة في العقل، فجاء أفلاطون وجمع بين هذان الرأيين، إذ أنه رأي أن للمعرفة أربعة أنواع، ولكن الحكم فيها يختلف باختلاف موضوعها. وهنا يظهر أمامنا اصطلاحنا جديدان هما "المعرفة المشروعة" و"المعرفة غير المشروعة"، والسؤال الآن، ماذا يقصد "ديمقريطس" بالمعرفة المشروعة والمعرفة غير المشروعة؟

يقول برينت إن ديمقريطس يرفض الإحساس كمصدر للمعرفة مثلما فعل الفيثاغوريون لكنه مثلهم ينقذ إمكان العلم بالتأكد على وجود مصدر آخر للمعرفة غير الحواس، فالمصر الذي يشير إليه بيرنت هو العقل أو كما يسميه ديمقريطس (المعرفة المشروعة) وذلك في مقابل معرفة الحواس وهي المعرفة (غير المشروعة)، ثم يستنتج برنت نتيجتين هما:

أولًا: إن المعرفة المشروعة من طبيعة المعرفة غير المشروعة.

ثانيًا: إن المعرفة المشروعة ليست تفكيرًا، بل هي نوع من الإحساس الداخلي وموضوعاتها تشبه المحسوسات المشتركة عند أرسطو. إلا أن برينت لاحظ في استنتاجه هذا:

أولًا: إن المعرفة المشروعة تختلف عن المعرفة غير المشروعة في حدودها، وإمكانيتها، أي تختلف عنها في موضوعاتها وهي الحقائق.

ثانيًا: أنه ليس تناقضًا أن يكون التفكير رغم اختلافه عن الإحساس، إحساسًا، بل التناقض الحقيقي ألا يكون كذلك مادام ديمقريطس قد فسر كل شيء بالذرات المادية بما في ذلك النفس أو العقل. والنفس والعقل عند ديمقريطس شيء واحد، فالنفس هي التي تقوم بالإدراك سواء كان عقليًا أو حسيًا. ويقول برينت: لقد رفض ديمقريطس مثل سقراط أن يفصل فصلًا مطلقًا بين الحس والفكر وهو يجعل الحواس تقول "أيها العقل المسكين لقد حصلت منا على البراهين التي ترمينا بها إن رميك خافق". والسؤال الآن، هل قدم لنا "ديمقريطس" و"أفلاطون" أنواعًا من المعرفة؟ إجابتنا عن هذا التساؤل ستكون موضوع مقالنا القادم.