في ذكرى ميلاد العقاد.. أبرز معاركه مع المنفلوطي وأحمد شوقي
شهد القرن العشرين حالة من اضطرابات كثيرة على كافة النواحي، وكان لظهور الصحافة بشكل بارز في مصر أوائل القرن العشرين؛ سبب مباشر في شيوع الجدل الثقافي والفكري والسياس، فضلًا عن كونها وسيلة التواصل المباشرة بين التكتل الثقافي أو السياسي وبين الناس، فقد تنوعت الصحف والمجلات ما بين ديني وسياسي وثقافي واجتماعي، مستهدفة مختلف فئات وطبقات الشعب، واشتهر القرن العشرين بالكثير من الشخصيات البارزة والتي أثرت الثقافة المصرية والعربية.
ومن تلك الشخصيات البارزة عباس محمود العقاد والذي تحل اليوم 28 من يونيو ذكرى ميلاده، فقد خاض عدّة معارك مع الكثير من الأدباء مذ كان صحفيـًا ناشئـًا وحتى أواخر أيامه في ستينيات القرن الماضي.
بدأت أولى مبارزات العقاد مع مصطفى لطفي المنفلوطي، والذي كان يقوم بتمصير روايات فرنسية مثل: "مجدولين أو تحت ظلال الزيزفون" وغيرها، وكانت كتابته تميل دائمـًا للرومنسية دائمـًا، مما جعل العقاد يقول إنه يكتب "أدب المنهزمين"، والذي لم يعد يليق بالحالة الثقافية التي ارتقت إليها مصر من بعد 1919؛ فتعرض المنفلوطي من العقاد وزميله عبدالقادر المازني من هجوم حادٍ اختفى مِن بعد نجم المنفلوطي.
ويعد صراع العقاد مع المنفلوطي وأحمد شوقي عمومـًا، صراع في ظهره أدبي وفكري إلا أنه في حقيقي الأمر صراع سياسي بحت، ويعد الأمر إلى كون العقاد رجل من طبقة كادحة فقيرة في أسوان، لم يعتمد على ميراث أو أطيان تساعده ماليـًا أو علميـًا، فهو -في حقيقة الأمر- رجل عصامي الثقافة، رفض في فترة من حياته العمل بالوظائف الحكومية وعمل فيما يشبه الحرف اليدوية، وكان ينفق ماله الذي يجنيه من عمله على شراء الكتب، لكي يشبع حبه بالقراءة؛ ونتيجة لكل هذا تتضح الصورة أمام العقاد حينما يرى أحزاب انتهازية -حسب ما يعتقد- مثل "حزب الأحرار الدستوريين" ويكتب في حقهم "ماذا تخسر مصر لو فقدت الأحرار الدستوريين".
وكان أمير الشعراء أحمد شوقي من المواليين للقصر الملكي وقتها، وكان العقاد وقتها أشبه بصوت سعد زغلول وذراعه اليمنى، فالهجوم على شوقي وقتها ليس هجومـًا من العقاد لشوقي بذاته، بل هو رد فعل وهجوم من الوفد على القصر الملكي، وهجوم العقاد مسطور في كتابه ذائع الصيت "الديوان في النقد والأدب" والذي أصدره بتعاون مع زميله في مدرسة الديوان إبراهيم عبدالقادر المازني، فيقول: كنا نسمع الضجة التي يقيمها شوقي حول اسمه في كل حين، فنمرُّ بها سكوتًا، كما نمرُّ بغيرها من الضجات في البلد لا استضخامًا لشهرته، ولا لمنعة في أدبه عن النقد، فإن أدب شوقي ورصفائه من أتباع المذهب العتيق، هدمُه في اعتقادنا أهون الهينات، ولكن تعفَّفنا عن شهرةٍ يزحف إليها زحف الكسيح، ويضنُّ عليها من قولة الحق ضن الشحيح، وتطوى دقائق أسرارها على الصريح".
أما مصطفى صادق الرافعي، فبالرغم أن كتاب "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" صدر عام 1912، فإنه مع ذلك قد تم مهاجمته من العقاد عام 1929، أي بعد صدوره بحوالي 17 سنة، ويرجع السبب في ذلك إلى صدور الطبعة الملكية من الكتاب بأمر من الملك فؤاد الأول عام 1928، بل وتزيل النسخة بمدح ينسب لسعد باشا زغلول، وهذا ما أثر حفيظة العقاد وهاجمه هجومـًا شديدة، وصل به إلى اتهام الرافعي بتزوير الكلمة التي زُيل بها الكتاب، ومما قال العقاد في الرافعي: "مصطفى أفندي الرافعي رجل ضيق الفكر مدرع الوجه يركب رأسه مراكب يتريث دونها الحصفاء... وكذلك فعل ضيق الفكر وركوب الرأس بمصطفى الرافعي، فحق علينا أن نفهمه خطر مركبه، وأن قدميه أسلس مقادا من رأسه لعله يبدل المطبة ويصلح الشكيمة".
وكانت أخره مبارزاته مع جيل الرواد من شعراء الحداثة العربية، أمثال: "أحمد عبدالمعطي حجازي، وصلاح عبدالصبور، ونزار قباني، وغيرهم"، وقد أحال أشعارهم إلى لجنة النثر، وفي لقاء تلفزيوني له، مع الإعلامية أماني راشد، قال ردًا على سؤالها عن الشعر الحر: "الشعر الحر ده مهزلة، لأنه حر من آه، يتحرر من آه، يتحرر من البحور والقوافي، معنى هذا أن الشعر يتحرر من الشعر"، وقد رد عليه صلاح عبدالصبور في مقالة له بعنوان "واللهِ موزون"، وقد تولى الهجوم على العقاد في عدَّة مقالات حتى وفاة العقاد نفسه 13 من مارس عام 1064، وقد هجاه الشاعر الرائد أحمد عبدالمعطي حجازي في قصيدة شهرية له مطلعها:
من أي بحر عصيّ الريح تطلبه..إن كنت تبكي عليه نحن نكتبه
يا من يحدث في كل الأمور ولا..يكاد يحسن أمراً أو يقاربه
أقول فيك هجائي وهو أوله..وأنت آخر مهجو وأنسبه
تعيش في عصرنا ضيفاً وتشتمنا..أنا بإيقاعنا نشدو ونطربه.
ولد العقاد في 28 من يونيو عام 1889 في أسوان لأسرة ميسورة الحال، حصل على الابتدائية، وعمل بعدها في عدة وظائف وحرف مختلفة، كون ثقافته الغربية من الإنجليزية التي تعلمها من السياح القادمين على أسون، كان شديد الحرص على قراءة واقتناء الكتب، كان كاتب وشاعرًا وصحفيـًا، ونائبـًا بالبرلمان، أسس مع المازني وعبدالرحمن شكري، مدرسة الديوان، والتي تعد أحد أبرز المدارس الأدبية في صدر القرن العشرين، قضى أيامه الأخيرة في أسوان بسبب بمرض "السُول" والذي ألزمه بيئة معينة من أجل البقاء، وتُوفي في 13 من مارس عام 1964، وقد نعاه صلاح عبدالصبور قائلًا: "انتهت الرحلة المجيدة إلى غايتها المرصودة، وعاشت نفحة من شمس أسوان ونورها لترقد حيث بدأت رحلتها بعد أن استوت فكرًا أنار البصائر وكشف الظلمات، وملأ الدنيا ومشى فى نوره الناس".