رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الحوار الوطني.. الثمرة هي العبرة

10-7-2023 | 10:34


إيهاب عطية

كما أن الحوار ضرورة بشرية فهو أيضاً حق من حقوق الإنسان باعتباره التجسيد الحقيقى لما جاء بالاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان عن حق الشعوب فى تقرير مصيرها
بالحوار يمكن تحديد إطار سياسى حاضن لقوى الدولة البشرية  وطوائفها ومكوناتها السياسية والاجتماعية، يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها
الديموقراطية بطبيعتها تقوم على صراع  الأفكار والآراء، الرأى والرأى الآخر، الحوار التفاعلى بكل إيجابياته وسلبياته
على التعدد وعدم احتكار الحكمة والحقيقة
جلسات الحوار الوطنى ليست مناظرة بين رؤى تنافسية بل إن مدارها يدور حول البحث عن مساحات مشتركة بين الجميع، وضمان حق الكل فى المشاركة والتنمية
الحوار بين أطياف مجتمعنا بدا لازما فى ظل السياقات الإقليمية والعالمية المضطربة والأوضاع السياسية القلقة وما تتسم به من عدم يقين أو قدرة على التنبؤ
نحن بحاجة لمصالحة هوية مجتمعنا الأصلية، فى ظل علو أصوات لا جذر لها، إلا على الشاشات أو فوق الصفحات الإلكترونية، تحاول تفكيكها وطمسها

 

من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يتعايش بنى الإنسان على ما بينهم من تناقضات عرقية وطبقية ودينية وثقافية، وتضارب  فى المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون أن يكون بينهم حوار إيجابى يدشن لنوعٍ من التفاهم فيما بينهم ، فالحوار  هو السبيل الأرشد لإقامة علاقات طبيعية بينهم سواء على المستوى الفردى أو الجماعى داخل الوحدات التى ينتظمون بداخلها.

والحوار شكل من أشكال التفاعل الإنسانى الذى يمثل حاجة بشرية مُلحة قبل أن يكون وسيلة لإذابة الفوارق والتمايزات، فالمشاركة سمة مميزة للإنسان ، فكما تقول عالمة الأنثروبولوجيا غلينا ايزاك لو كان بإمكان الشمبانزى أن يصف ما يميز الإنسان لأشار أولاً لأنه الكائن الذى يقتسم الطعام مع أفراد الجماعة الآخرين.

التدافع .. قاعدة

والحوار تجسيد لسنة كونية، هى التدافع بظلالها الممتدة من البشر لغيرة من المخلوقات، فأثارها موجودة فى مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية، ففى العلوم الطبيعية استعمل إسحاق نيوتن مصطلح القوة الدافعة ليعبر عن مقدار حركة الجسم حيال الجاذبية الأرضية، أما أرشميدس فاستعمل المفهوم نفسه فى صياغته لقانون الطفو باعتبار أنه من الأيسر رفع الجسم لأعلى وهو مغمور بالماء عن رفعه بعيداً عنه أو خارجه.

وفى علم الفلك هناك مفهوم يسمى القوة الطاردة، وبالطب تتجلى القوة الدافعة فى المضادات الحيوية، وفى علم الاقتصاد تحدث كلاودلاريش المتخصص فى علم التسويق عن تأثير مؤشر القوة الدافعة على أسواق الأوراق المالية فمن خلاله يمكن قياس التغير فى سعر السهم لفترة معينة صعوداً أوهبوطاً ، وبعلم النفس التربوى يستخدم مصطلح القوة الدافعة لبيان أثر الحوافز البشرية كالتشجيع وغيره فى تغلب الإنسان على ما به من ميل طبيعى إلى الراحة  والسلامة.

أما التراث الإسلامى فقد حفل بالاهتمام بمسألة القوة الدافعة باعتبارها تمثل ضرورة لانتظام الحياة فى مسار رشيد، وهناك العديد من المرويات فى هذا السياق كقول الصحابى أَبِي الدَّرْدَاءِ : لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَدْفَعُ بِمَنْ يَحْضُرُ الْمَسَاجِدَ عَمَّنْ لَا يَحْضُرُهَا وَبِالْغُزَاةِ عَمَّنْ لَا يَغْزُو لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا " وكحديث التابعى مجاهد بن جبير عن دفع الله الظلم بشهادة العدول فى تفسيره للآية 40 من سورة الحج  ...     و ... و ... .

الحوار .. حق ووسيلة

والحوار كما أنه ضرورة بشرية فهو أيضاً حق من حقوق الإنسان باعتباره التجسيد الحقيقى لما جاء بالاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان عن حق الشعوب فى تقرير مصيرها، فمن مخرجاته يمكنها تحديد كيانها السياسى وأن تواصل تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتتصرف فى ثرواتها ومواردها الطبيعية بحرية، لأنه لا يجوز بحال من الأحوال حرمان شعب ما من وسائله المعيشية الخاصة. 

والحوار وسيلة ناجزة لقيام الدولة بإدارة تناقضاتها، فلا توجد دولة  تتمتع بتجانس اجتماعى تام، فالدول تتكون من أشتات من البشر، فإن لم تكن من قبائل فمن طوائف أو أعراق أو طبقات أو شرائح  مختلفة ناهيك عما يكون بداخلها من هويات وثقافات ومذاهب ولغات ولهجات متعددة، لكن هناك دولاً تمتلك القدرة على تذويب أشتاتها وهناك أخرى تفشل فى هذا فيتحول ما بين مكوناتها من تمايز لخلاف وشقاق واحتقان .

فبالحوار يمكن تحديد إطار سياسى جامع لقوى الدولة البشرية  أى الإطار الحاضن لجماعاتها وطوائفها ومكوناتها السياسية والإجتماعية الذى يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها فى الوقت ذاته دون أن ينفى هذا بالطبع إمكانية الخلاف بين تلك المكونات بل واحتمالية الصراع بينها شريطة أن يكون هناك صيغة تضبط هذا كله على نحو يقيم توازن بين الكل، والتوازن هنا لايعنى الجمود وإنما الثبات الذى يتراضى حوله الجميع.

وبالحوار يمكن تحديد مشروع الدولة الوطنى الذى وصفه المفكر طارق البشرى بأنه الخطوط العامة لما يتراضى على إنجازه أهل جيل أومرحلة تاريخية معينه أو هو مجمل الأهداف التى يبدو فى مرحلة تاريخية  أنها تمثل أهم ما يتعين تحقيقه، وهذا المشروع لا يؤلفه فرد أو جماعة معينه بذوات أشخاصها وإنما يتشكل من مختلف الحركات السياسية والإجتماعية والثقافية التى تظهر وتستمر وتثبت جديتها فى المرحلة المعينة.

حوار الهوية

فالشعوب لا تستطيع تحقيق أهدافها  الكبرى برؤية جزئية لا تشمل تصوراتها الأساسية للكون والحياة والإنسان وحاجاته ومصالحه ومؤسساته التكوينية والتنظيمية، وهى إن حاولت هذا كانت النتيجة الغالبة عيشها فى ظل ركام من التناقضات التى من شأنها تعويقها عن طريقها، فمنهج التجربة والخطأ لا يكفى هنا فهو بالكاد يعد أسلوبا مقبولا لتسيير شئونها اليومية المتواترة بشكل لحظى .

فرؤية المجتمع لهويته الجامعة مسألة لا يصح تركها بدعوى العمل على توفير عناصر قوته المادية، فالفلوس ليست هى أهم شئ، فالقوة المادية لا يمكن أن تأتى إلا فى اعقاب القوة المعنوية، فكل مجتمع ناهض لم يحقق نهضته وتقدمه المادى إلا بعد أن استتبت لديه قيم ومؤسسات ونظم تسمح له بهذا، فالبلاد لا تتقدم فقط ببنيتها التحتية أوحتى بالصناعة والزراعة والاستثمار .

فالأهم هو الإنسان بمكوناته الذهنية والنفسية، فالتقدم المادى لابد معه بل لابد له من بشر لديهم قيم إنسانية عليا، يحافظون على عقائدهم وتقاليدهم الراسخة، يقاومون كل وافد مغلوط أو ثابت متحجر ، فالتطور ليس ببناء أبراج عالية أو شراء أحدث المعدات والأسلحة أو باقتناء ماديات فاخرة، وإنما بالأساس بامتلاك قلوب وعقول متنورة.

ولا يوجد إنسان مهما كان حظه من الحكمة ومهما حسنت نيته قادر على أن يصوغ بمفرده مخيلة شعبه وهويته ويحدد له مشروعه وأهدافه ويسوسه نحو تحقيق مراده، وإن حدث فمن المؤكد أنه سيجر أمته لمصائب محققة، كما أن الحاكم المخلص لا يشرفه أن يكون وحده صانع كل شئ وشعبه لا شئ ، ومن هنا تأتى أهمية المشاركة المجتمعية التى  تتجلى فى أبهى صورها بالحوار .

أساس الديموقرطية

والحوار الذى نعنيه أمر يفترض قيامه فى كل وقت ويمارسه الجميع ، أفراد وجماعات، بعضهم مع بعض فى الشئون الخاصة والعامة ، حالة من الجدل بين قوى المجتمع حول أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكل ما يخصه من قضايا أو يعترضه من مشكلات قائمة أو محتملة.

 وهذا الحوار يفترض فيه التواصل وعدم الانقطاع ، فكل أمة أو جماعة أو مجتمع وهم بطريقهم الذى توافقوا على رسم ملامحه الرئيسية بحاجة من وقت إلى آخر لوقفة يستوطنون فيها ذاتهم ويراجعوا فيها أحوالهم ليصلوا حاضرهم بماضيهم ولينطلقوا نحو مستقبل يتطلعوا إليه أملاً وعملاً .

وذاك فيما احسب الجانب الأهم فى الديموقراطية التى ليست هى فقط صندوق انتخابى يمكن التلاعب به أو خداع الشعب به، فالذى كان يفسد الديموقراطية فى الماضى هو استخدام القوة أما الآن فالذى يفسدها هو الخديعة كما يقول المؤرخ الأمريكى هوارد زن ، فجوهر الديموقراطية هو السيادة الشعبية فهى تعنى فى معناها الأصلى وممارساتها التاريخية الأولى حكم الشعب أى سيطرته على مصيره وقراره السياسى .

ولكى تسود الديموقراطية بهذا المعنى يجب أن ندرك أنها ليست فقط قيمة مطلوبة بمؤسسات الحكم العليا، وإنما هى فكرة ينبغى أن تسود المجتمع عند كل مستوياته، ثقافة مجتمعية  تحكم سلوك أفراده وجماعاته، فكارثتنا تكمن فى أنه حتى من يدعون التمسك بها ينفضون أنفسهم منها بمجرد أن يستشعرون أنها ستأتى بمن يخالفهم ولو فى القضايا الجزئية .

والديموقراطية ليست عباءة مزركشة يخلعها أحد على أحد وإنما يكتسبها من أرادها وسعى وكد من أجلها، أنها لا تشترى ولكنها جائزة ينالها من يستحقها، ومن ثم فلا ديموقراطية لشعب نائم عن ممارسة حقوقه، ولا يمكن أن تكون قوية فى مجتمع ضعيف، فالديموقراطية ممارسة قبل كل شئ فإن لم يمارسها أصحابها فإنها تتحول من أيديهم إلى أيدى المتسلطين من المغامرين.

والديموقراطية بطبيعتها تقوم على صراع  الأفكار والآراء، الرأى والرأى الآخر، الحوار التفاعلى بكل إيجابياته وسلبياته، على التعدد وعدم احتكار الحكمة والحقيقة، على خطاب يتجاوز لغة المجاملات الباهتة والأكليشيهات النمطية المستهلكة التى باتت تثير الضحك والغثيان .

والديموقراطية ليست نموذجاً موحد السمات بل انعكاس لخصائص كل مجتمع، فملامحها تختلف، وصيغها تتعدد بحسب وعى المواطن السياسى ورغبته وإدراكه وقدرته على المشاركة فى تحريك عجلة العمل الوطنى، فإذا كانت الديموقراطية توقظ الشعوب فإن الشعوب توقظ ايضاً الديموقراطية.

ووعى المواطن السياسى هذا يتشكل عبر عملية تراكمية شديدة التعقيد والبطء حيث  تتعلق بتطور بنية المجتمع الثقافيه والسياسية وطبيعة مشاركته فى شأنه العام، وقد عبر الفيلسوف الألمانى عمانويل كانط عن هذا المعنى بقوله " إذا لم يتعود الناس أن يفكروا بأنفسهم ولأنفسهم، سيبقون كالدمى فى أيدى الحكام، فالمطلوب "هو ترسيخ الحرية التى تعد أكثر الحريات بديهية وهى حرية أن يعقل الإنسان الأمور فى رأسه ".

فالديموقراطية بما تحتاجه من وعى لا يعاديها الطغاة فحسب كما قالت الروائية النمساوية مارى انبر إيشنباخ، وإنما كذلك العبيد السعداء بغفلتهم وتنازلهم الطوعى عن إنسانيتهم، هؤلاء البسطاء الذين يؤججون محرقة السلطة بقصر نظرهم وبقيامهم بإلقاء أغصان إيمانهم العمياء  فى تفاهات السلطة.

الشورى والحكم

ومشاركة الشعب فى إدارة شئون حكمه مبدأ إسلامى قبل أن يكون قيمة غربية بل إنه واجب إسلامى قبل أن يكون حقا، وقد جسد الخليفة الأول أبوبكر الصديق هذا المعنى فى خطبته التى بدأ بها حكمه حيث قال : بَعدَ أنْ بَايَعَه الناسُ بالخلافة فَحَمِدَ اللّه وأَثْنَى عليه بالذي هو أهْلُهُ ثم قال:

   أما بعدُ، أَيُّها الناسُ فَإِني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني. الصِدْقُ أمانةٌ والكَذِبُ خِيَانَةٌ . والضعيفُ فيكم قويٌّ عندي حتى أرجعَ إليه حقَّه إن شاء اللّه، والقويّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذَ الحقَّ منه إن شاء اللّه. لا يَدَعُ قومٌ الجِهادَ في سبيل اللّه إلا خَذَلَهم اللَّهُ بالذُلِّ ولا تَشِيعُ الفاحشةُ في قومٍ إِلا عَمَّهم اللَّهُ بِالبلاءِ. أَطِيعُوني ما أَطَعْتُ اللَّهَ ورسولَه فإِذا عَصَيْت اللَّهَ ورسولَه فلا طاعةَ لي عليكم. قُومُوا إلى صلاتكم يَرْحَمْكُمُ اللّه"

عبارات تنطق بوضوح  بمعانى سلطة الأمة وحقها فى المشاركة بشئون الحكم، وهو حق مؤسس على مبدأ الشورى الذى أوجبته نصوص القرآن والأحاديث النبوية كفريضة اسلامية واجبة على الحكام والمحكومين، وهو من أهم المبادئ الإسلامية التى يقوم عليها نظام الحكم فضلاً عن كونه منهج حياة تميزت به الأمة الإسلامية التى سمعنا من ينكر وجودها فى جهل بين وسوء قصد يصعب تجاهله .

فالشورى كمبدأ إسلامى فى الحكم لم تجد للأسف العناية الكافية على الرغم من أنها تعنى فى المصطلح السياسى حق الأمة فى المشاركة السياسية، فهى الحد الفاصل بين الحكم الاستبدادى والحكم الإسلامى، فالاستبداد والإسلام لا يلتقيان فتعاليم الإسلام تنتهى بالناس إلى عبادة ربهم وحده أما مراسيم الاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية عمياء على حد قول الشيخ محمد الغزالى .

فالخالق جل فى علاه وجه رسوله الكريم سيدنا محمد ﷺ وهو المعصوم المنزه عن الخطأ الى ضرورة الأخذ بمبدأ الشورى بقوله فى أمر صريح " فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ "( 159) آل عمران  - وهو ماقام به بالفعل، فكان يشاور أصحابه فيما يعرض له من شئون الدولة وقضايا السلم والحرب ، فمسيرته حافلة بالأمثلة الدالة على هذا.

فما بال من هم دونه من أصحاب السلطان ممن ينفضون أيديهم بعيداً عن كل قيمة ديموقراطية أو شورية وينزعون إلى التسلط والإستبداد  دون مراعاة لأحكام قرآنية أو قيم أرضية ثابتة ، الغريب أن فعلهم يقابل من البعض بالرضا باسم الإسلام فى خطأ منهجى واضح  يمثل فى رأيي كعب أخيل الذى منه نال الآخرون من المسلمين منذ زمن ليس بالقليل ، فكما يقول الإمام محمد عبده لقد أخطأ المسلم فى فهم معنى الطاعة لأولى الأمر والإنقياد لأوامرهم فألقى مقاليده إلى الحاكم ووكل إليه التصرف فى شئونه.

حريات قديمة

اللافت هنا أنه على عكس السائد، فإن مصر الفرعونية التى وقر بأذهاننا أن ملوكها حكموها بمقتضى نظرية الحق الآلهى والتى أعتدنا سمت الحكم الاستبدادى باسمها بقولنا إنه " حكم فرعونى "عرفت أشكال من التفاعل السياسى الحوارى, فالعديد من البرديات  كشفت عن أن خطابها السياسى كان متنوعا ما بين خطاب سلطة وحكماء وشعب صدر من أفراد عاديين تعرضوا لمظالم فرفعوا شكواهم مطالبين بتحقيق العدالة ورد المظالم ومعاقبة الظالمين والأمثلة على هذا كثيرة فهناك شكاوى الفلاح أو القروى الفصيح وشكاوى اليائس ونفرتى وخع خبر رع سيت وغيرها .

وبأيام العرب القديمة التى يأتى وسمها بالجاهلية لسوء موقفها الإيمانى بالخالق وكفرها لا أكثر كانوا يأبون العيش الوضيع ولو كان منعماً وينشدون الحياة الصعبة طالما كانت ظلالها موفورة بالحرية والكرامة ، ولعل في قول عنتره بن شداد "

لا تَسقِن ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ

       بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ

ماءُ الحَيـاةِ بِذِلَّـةٍ كَجَـهَنَّمٍ

        وَجَهَنَّـمٌ بِالعِـزِّ أَطيـَبُ مَنـزِلِ

" خير تجسيد لهذا المعنى .

تجارب ماثلة

إن الحوار وسيلة لاغنى عنها لإدارة اختلافاتنا وصراعاتنا الحتمية ، ذاك درس التاريخ وحديث الواقع، فالحروب تنتهى على مائدة المفاوضات، والعنف يتخلى عن ردائه الدموى بالحوار ، فعشرية الجزائر السوداء انتهت بالوئام والحوار ، والجيش الجمهورى الأيرلندى تصالح مع دولته وكذلك حركة ايتا الأسبانية  بالحوار ، وبمصر عدلت جماعة التكفير والهجرة عن ضلالاتها وتخلى تنظيم الجماعة الإسلامية الذى روع مجتمعها بالدماء فى التسعينيات بالحوار فى تجربة يظل حضورها ممكن كلما علا صوت العنف، فالحوار جائز مع الكل طالما ارتضوا بضوابطه وآلياته ومخرجاته.

حوار الضرورة

لكل هذا وأكثر كانت دعوة الحوار الوطنى التى انطلقت فى إفطار الأسرة المصرية برمضان قبل الماضى محل اهتمام خاصة أن القائمين عليه حددوا مبادئه فى أنه قائم على التفاهم لا الإقناع ، فجلساته ليست مناظرة بين رؤى تنافسية بل إن مدارها يدور حول البحث عن مساحات مشتركة بين الجميع وأنه يضمن حق الكل فى المشاركة والتنمية بعيداً عن الإنتماءات السابقة ، وأن أهدافه هى تحديد أولويات العمل الوطنى والوصول لحلول للقضايا الأكثر إلحاحاً والكشف عن الكوادر المؤهلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وضمان حياة كريمة تليق بالمواطن المصرى ودعم جهود التوافق عن طريق بناء جسور الثقة والاحترام المتبادل.

فالحوار بين أطياف مجتمعنا بدا لازما فى ظل السياقات الإقليمية والعالمية المضطربة وما تتسم به من عدم يقين أو قدرة على التنبؤ، والأوضاع السياسية القلقة بعد والقضايا المجتمعية غير المحسومة، والأدوار المنقوصة لبعض مؤسساتنا التقليدية وتنظيماتنا الوسيطة كالأحزاب والنقابات، ومشكلاتنا الاقتصادية المتصاعدة بما تطرحه من نقاشات حول أولوياتنا المجتمعية.

فالحوار فرصة لسماع صوت المجتمع العقلانى، لاستيعاب كل تياراته، نعم كل تياراته دون إقصاء يتخفى وراء شعارات متوهمة أو تحت ذرائع أيديولوجية تُغلب مصالحها الضيقة، ولبلورة رؤية تُحدث هزة مطلوبة لنفض الغبار عن مناخنا السياسى والإعلامى ولو بشكل جزئى وتساعد على ترتيب أولوياتنا وتعالج أزماتنا الإقتصادية بمعالجات توافقية تأخذ فى الاعتبار عدم زيادة الأعباء على المواطنين من الطبقات المتوسطة والفقيرة ، فما أفظع                  أن تضرب كسيحاً بعكازيه كما يقول فولتير .

والأهم أنه فرصة حقيقية لحسم أمور أبعد من أمورنا السيارة التى نصادفها فى يومنا دون أن نهون منها أو ندعوا لتجاوزها، فنحن بحاجة لمصالحة هوية مجتمعنا الأصلية فى ظل علو اصوات لا جذر لها إلا على الشاشات أو فوق الصفحات الألكترونية تحاول تفكيكها وطمسها ، كما أننا بحاجة لإعادة ترتيب علاقتنا مع الدين على نحو يغلب مصالحنا الآخروية والدنيوية معاً .

ضوابط مأمولة

وهذا لن يكون إلا إذا كان الحوار متكافئاً بين أطرافه، يسمح بأقصى مساحات النقد بمصارحة ومكاشفة واعية لا تراشق فيها بالتهم فهو ليس محاكمة أو جدال أجوف د، ويعلى من التفاهمات العقلانية بعيداً عن العصبيات أو التحيزات المسبقة، ويدرك أهمية التعايش المجتمعى المبنى على التوافق لا التوحد فى صفوف نظامية فهذا شأنٌ يجافى سنن الكون وطبائع البشر، دون أن يعنى هذا ابتعاده عن أشكال الصراع السلمى الذى هو عصب الديموقراطية. 

 حوارا واقعيا، فهناك حدود للآمال والتطلعات وسقف مقبول للمثاليات لأنها احياناً تضع رأسها عالياً بين السحب متغافلة عن ظروف الواقع وحدود ما هو ممكن ومتاح وما هو صعب أو مستحيل على الأقل الآن، فالحوار لا يعنى حل مشاكل مصر بين يوم وليلة لكنه يمنح الأمل فى أن نضع أقدامنا على بداية طريق تكررت مرات التماسنا لبداياته دون أثر حال وإن كانت آثاره تراكمية على نحو ستظهر نتائجه مستقبلاً بشكل حتمى تفرضه سنن الحياة.

وهنا تحسن الإشارة لعدم موضوعية ما يطالب به البعض من كل متحدث فى مشكلات المجتمع بأن يأتى بحلول جاهزة لها، فكل مواطن من حقه بل من واجبه أن يناقش المسائل العامة دون أن يُفرض عليه طرح حلول لها، فالمسئولون هم الأجدر على إيجادها بما لديهم من وعى وخبرات بتفصيلاتها وإلا فالمعنى لبقائهم فى مواقعهم ، فحلول المشكلات ليست مرهونة بالعلم وحده.

 حوارا للجادين وليس المتسلقين ممن يسيئون الى السلطة بالتصفيق الأجوف على نحو لا يسمح بتكرار ماجرى بالمؤتمر الوطنى للقوى الشعبية عام 1964 حينما ترك عبدالناصر للحاضرين طرح تصوراتهم لشكل الحياة السياسية، فراح الكاتب خالد محمد خالد يشرح قيمة الديموقراطية وتعدد الآراء وتنوعها مردداً عبارة استوحاها من قول صينى شائع هو "دع مائة زهرة تتفتح " فما كان من المنافقين إلا أن تباروا فى مهاجمته لصالح الحكم الفردى وبعده أنزوى خالد وعاش حياته غير مشارك أوغير مرغوب فى مشاركته .

حواراً خالياً من أولئك المتشدقين زيفاً بشعارات الوطنية ليتزلفوا ويداهنوا ويحافظوا على مكاسبهم الشخصية وليتخذوا منها سلاحاً يرفعوه بوجه كل من يحاول الكلام بصراحة وموضوعية عما يجول بخاطر المجتمع من أزمات ومشكلات مُلحه ومهووئا، فالوطنية لا تعنى أبداً دفن الرؤوس بالرمال إزاء الأخطار والفشل ، كم أنها ليست كافيه لنحيا برضا ووئام وتسامح ورفاهه فكما قالت الممرضة الإنجليزية أديث كافيل قبل أن يعدمها الألمان رمياً بالرصاص لدورها فى رعاية الفارين من وجه النازى بالحرب العالمية الأولى " لقد ادركت أن الوطنية ليست كافية، فالمطلوب هو ألا نكره وألا نشعر بروح العداوة لبعضنا البعض".

 

فصل الخطاب

من الطبيعى أن يكون هناك من يشكك فى جدوى الحوار الوطنى ويرى كل العيوب فى هيئة دعوته وبنيته وطريقته وتشكيله على نحو يتوقعون معه فشله أو وصوله لمخرجات غير مُرضيه أو كافيه وهؤلاء أما مؤدلجين بقناعات مُسبقه مُخالفه أو لديهم مخزون من الريبة تجاه كل ما يصدر من السلطة أى سلطة من كثرة ما تعرضوا له من قبلها من سلبيات .

 وهناك من يرون فيه فرصة لفك الجمود وطرح الحلول وسماع أصوات مغايرة وتحسين الصورة ولو بشكل نسبى ، وعلى الضفة الأخرى هناك من يرون فيه الحسن كله ويتوقعون له القفز بنا لفضاءات أمامية مأمولة ، وبين كل هؤلاء سيبقى الحوار على المحك ونتائجه المرتقبة هى الفيصل وإن غداً لناظره قريب .

عموماً علينا أن نضع أمام أعيننا حكمة صينية قديمة تقول " ان الأزهار ليست ثماراً " بمعنى أن تشابه المقدمات ليس شرطاً كافياً لتشابه النتائج، فالأزهار كل الأزهار تبدو متشابهة فى الشكل لكن بعضها ينتهى ليكون ثماراً مفيده وبعضها الآخر ينتهى الى لا شيء ، وما بين الإثنين ما علينا سوى الترقب والانتظار .