رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الحوار الوطني.. مصنع القادة ومدرسة الساسة

10-7-2023 | 10:37


د. بهى الدين مرسي

يمنح الحوار الوطنى فرصة للأحزاب والتكتلات للالتفاف حول الفكرة أو القضية، ومنحها المزيد من الذهنيات البحثية التي تضيف أبعادا جديدة لا يحصل عليها بنظرة أحادية
تقدم جلسات الحوار الوطنى عبر الممارسة الديموقراطية فرصة بناء صف ثان من القيادات السياسية، وتأسيس كوادر شعبية قادرة على رصد العوار المجتمعي
ليس مستبعدا أن تصبح ممارسة الحوار الوطنى فى المستقبل القريب جزءا متمما للنهج الديموقراطى كأحد ملامح الحقوقيات الأممية، وأن يصبح معيارا يكال به نزاهة الدول

 

بداية، دعونا نسترجع تاريخ الديموقراطية فى التاريخ الحديث والمعاصر فى العالم منذ صدور كتاب "العقد الاجتماعى" للمفكر والفيلسوف جان جاك روسو فى عصر النهضة، وتحديدا في العام 1762 وكان الكتاب بمثابة أول منتج بشرى يقنن علاقة الفرد بالمجموع، وهو أقرب ما يكون لدساتير الأديان التى جاءت فى صورة إملاءات عقائدية كان الهدف منها تهذيب الإنسان ووضع ضوابط لكبح الجماح البشرى.

تقبلت الجموع البشرية ٱنذاك ما خطه "جان جاك روسو" إلى جانب مجموعة أخرى من المفكرين التنويريين أمثال "توماس هوبز" و "جون لوك"، وكانت الفكرة تكمن فى إخضاع الفرد للنظام العام، وإلزام الفرد بقبول كل ما يترتب على التسليم بعضويته فى المجتمع،  فقد تضمن المكون الأساسى فى هذا العقد تنازل الفرد عن أكثر من ثلثى حريته نظير الاستمتاع بحصص معقولة من الحماية والأمان المجتمعى، والذي يعجز الفرد عن تحقيقه بمفرده، فكانت بمثابة صفقة يتم فيها مقايضة الفرد على جزء من حريته لقاء الحماية التى يتلقاها تحت المظلة المجتمعية.

لم تسر الأمور على هذا النحو المتزن فى الأنظمة الاجتماعية خلال القرنين التاليين،  فظهرت بعض الانحرافات في تقدير حصة الفرد من المزايا وجوانب الانتفاع من ناحية، وسطوة المجتمع والأنظمة الحاكمة من ناحية أخرى،  فظهر شكل جديد من الديموقراطية المتآكلة فى أحد جوانبها، وهو ما تم التعارف عليه لاحقا تحت اسم"الديكتاتورية". والديكتاتورية هى إحدى صور الحكم المطلق، حيث تتمركز السلطة الحاكمة فى شخص واحد كما هو الحال فى بعض الأنظمة الملكية، أو فى يد تكتل أو ائتلاف مثل الأحزاب السياسية.

تتعدد الأنماط الديكتاتورية وفق درجة القسوة، فالأنظمة المغلقة التى تخلو من أى أحزاب سياسية، أو التى تفتقر إلى قوى المعارضة وتسيطر على كل مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية، بل وقد تقترح محددات للأخلاق وفق توجهات الحزب أو الفرد الحاكم، تعرف بالأنظمة الشمولية، مثل ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتى وإيطاليا الفاشية.

معنى الدولة المدنية

ينظر بعض السياسيين إلى مصطلح "الدولة المدنية" كونه غير دقيق، ولا يصح أن يبقى في صفحات قاموس المصطلحات السياسية، على اعتبار أن مسمى "العلمانية" أوضح وأشمل، وهو عادة ما يستخدم فى المناظرات اللغوية في الشرق العربى والإسلامى لدى استدعاء مصطلح الدولة الدينية، وحتى بفرض اعتماد مصطلح "الدولة المدنية"، فهو موظف للإشارة للدولة التى تحافظ بالعدل على الأفراد وكل طوائف المجتمع، وحماية كل أفراده بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الفكرية، وأن تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر، وتنتهج المساواة في الحقوق والواجبات، ومن مبادئ الدولة المدنية ايضا تعزيز مفهوم المواطنة، وأعمال الحقوقيات.

ما معنى الحوار الوطنى؟

بداية، دعونا نتعرف إلى الفروق التعريفية بين المترادفات والاصطلاحات الأكثر شيوعا لدى الحديث عن الوطن، وما أكثرها، إلا أن عدم الدقة فى استخدام أى منها قد يحدث خللا فى تناول الفكرة، فليس الوطن كالدولة، ولا الشعب هو المجتمع، ودعونا نتحرى هذه الفروق كما يشرحها علم الاجتماع والعلوم السياسية،  وتعالوا إلى قراءة اكاديمية حول هذه الفروق لنتحدث بعدها عن الحوار الوطنى.

* الوطن هو المكون العاطفى الذى يربط الإنسان بكيان ما، فليس الوطن بالضرورة بلدا، بل قد يكون بيتا تربيت فيه، أو قرية ترعرعت فيها، أو مدرسة تعلمت بين جنباتها، أو أسرة كبرت بين أفرادها، أو شريكا أحببته وارتميت فى أحضانه.

* المجتمع هو القراءة الديموغرافية لكتلة سكانية معينة تعيش على جغرافيا محددة، ذات تاريخ مشترك، ولها موروث ثقافى من الماضى، وتعيش توافقا فكريا وثقافيا معاصرا وتأملا فى مصير متفق عليه.

* مسمى "الشعب" هو التعريف السياسى للجماهير، وهو جملة المحددات المدونة فى المواد الدستورية، والتى بموجبها توزع على الناس حقوقهم، وتقرأ عليهم الواجبات، ومن ثم ينال كل منهم استحقاقا سياسيا أو حقوقيا، ومن بعدها يتحدد كيف تكون سلطة القانون فى التطبيق وفق الأهلية، فليس الطفل كالراشد.

* الدولة هي المحدد لحصة جغرافية ذات حدود متفق عليها بين الأنظمة الأممية، والتي بموجبها يتم الاعتراف بسيادتها، والإقرار الأممى بنظام الحكم فيها وبعضويتها بين الدول على مستوى خريطة العالم، وفيها يتم توصيف وتحديد النظام السياسى، وإعلان المسمى السياسى للحكم، وإعلام المجتمع الدولى بمجموعة الحقوق والواحبات ومفاهيم المواطنة وهوية الدولة ونظام الحكم والتمثيل النيابى بها.

* في الحقيقة، يعتبر وصف "الأمة" أوسع وأكثر شمولية من وصف الدولة، فقد تضم الأمة العربية أكثر من دولة عربية، وعلى غرارها الأمم الأفريقية والآسيوية والأوربية، وقد يتضمن مسمى "الأمة" تحديدا لكتلة من الدول ذات توحد عقائدى مثل الأمة الإسلامية.

* الجمهورية، ومقابلها أنظمة حاكمة أخرى مثل الملكية، أو الإمارة، أو السلطنة، أو الإمبراطورية، وكلها مسميات تحدد النظام الدستورى والبناء الداخلي للدولة، وهو بذات الوقت قراءة للهوية التى يتعرف من خلالها النظام العالمى على تلك الدولة.

وبنظرة أكثر دقة للداخل المصرى، نجد أن الشعب المصرى متعدد الطوائف، بل ولكل طائفة محددات تختلف عن محددات بقية الطوائف،  ولكن يجب التأكيد على أن هذه المحددات لا تخرج عن كونها عادات وتقاليد، وما هى إلا مجموعة ثقافات وموروثات محلية، ولكن يظل الإطار القومى ومفهوم المواطنة ومتساويا بين الجميع.

ولتسهيل فهم هذه الفروق، دعنا نسترشد ببعض الأمثلة، فتجد أن صعيد مصر على سبيل المثال مختلفا عن إقليم الدلتا، والأقاليم الساحلية تختلف عن الأقاليم الصحراوية والبادية، وحتى على مستوى المحافظات، فلا بنو مطروح فى دقة التفاضيل التراثية والثقافية كبنى اسوان، ناهيكم عن الفروق الطائفية فى المعتقد بين  سنى وشيعى، وكاثوليك وأرثوزوكسى، ولا حتى فى الميول والأهواء، وتمتد التعددية لتشمل فروق الانتماء للأندية الرياضية، وكذلك الطوائف المهنية كما هو الفرق بين طوائف المشتغلين بالزارعة عن طوائف الحرفيين وما إلى ذلك.

فى الحقيقة، لا يوجد قاسم مشترك أو أرضية موحدة يقف عليها الجميع بحيث تتوحد منها قراءة المستقبل، فهناك الكتل السياسية والكتل الراسمالية، وتختلف كل منها فى فهم وقراءة المستقبل، ورسم الطموح المختلف عن الكتل الشعبوية، وهناك أيضا الطبقات المجتمعية التى تتدرج من سكان العشش والعشوائيات مرورا بسكان المقابر، ومنها إلى سكان الريف ثم الحضر، ثم قبائل الخيام، ومرورا بسكان المنتجعات العمرانية المعزولة بسياج أو المعروفة "بالكمباوند" وانتهاء بالمقيمين فى تجوال عبر أكثر من جنسية، وساكنى عدة عواصم فى دول العالم المختلفة.

إذن، تفرض كل هذه التعدديات أعباء سياسية واقتصادية على كاهل إدارة الدولة، لذا جاء الحوار الوطنى ليمنح كل بقعة من الوطن فرصة المشاركة التفصيلية الدقيقة في طرح المعاناة، ودراسة الإشكاليات، ومعها فهم السببية، بل واقتراح الحلول.

 

شرعية الحوار الوطنى من منظور ديموقراطى

الديموقراطية كما تعرفها الدساتير السياسية، هى حكم الشعب للشعب، بمعنى أنها ذاتية الحكم، ولفظ "الشعب" هنا ينطوى على فهم محدد جدا لا يتجاوز الاعتبارات الثلاثة الموثقة فى العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهى:

 أولا: يقصد بالذاتية أن تكون من نفس الفصيل وليس بأقوام لا ينتمون لنفس الأمة مثل السيادة الاستعمارية، إذ لا عبرة للغلبة أو للأغلبية القائمة على رأس الحكم.

 

ثانيا: أن يكون "الشعب"  المستدعى للحكم ممثلا عن جماهير الامة، وأن يكون هذا التمثيل اختياريا سواء أكان عبر صناديق الانتخاب، أو عبر التفويضات البرلمانية.

ثالثا: أن يملك الشعب حق مراجعة اختياراته واسترجاع أو تعديل المقرر سلفا بالحذف أو الإضافة بحرية تامة تتقيد باختيارات الأغلبية.

 

ماذا يضيف الحوار الوطنى للتعددية الحزبية؟

معلوم أن التعددية الحزبية هى الشق المتمم لديموقراطية الحياة السياسية، هذا بالطبع جنبا إلى جنب مع المعارضة الرشيدة. ولكن، يظل السؤال قائما حول ما يضيفه الحوار الوطنى فى ظل تعددية الأحزاب والمنابر السياسية.

فى الحقيقة، تتميز الأحزاب بتبنى أيديولوجيات متفق عليها سلفا من قبل اعضاء الحزب، وهو ما يعرف بالتوجه الحزبى، وهو أمر غاية في الروعة لأنه يجند أذهان وجهود المنتمين للحزب لخدمة القضية ذات الاهتمام الحزبى. ولنأخذ الإصلاح التعليمى كمثال لتوجه أحد الأحزاب وتناوله كأولوية ضمن توجهاته واهتماماته.  عندها سوف تحظى قضية الإصلاح التعليمى بجهود هذا الحزب، وباهتمام أقل من حزب آخر أخذ على عاتقه التفرغ لتطوير منظومة الإصلاح الصحى مثلا.

هنا، يمنح الحوار الوطنى كحقل بحثى فرصة للأحزاب والتكتلات والمعارضة للالتفاف حول الفكرة أو القضية، ومنحها المزيد من الذهنيات البحثية التي تضيف أبعادا جديدة لا يمكن الحصول عليها بموجب النظرة الأحادية.

 

إذن، يمنح الحوار الوطنى أبعادا إضافية لبحث قضايا المجتمع، ومن ناحية أخرى، تقدم جلسات الحوار الوطنى عبر هذه الممارسة الديموقراطية فرصة بناء صف ثان من القيادات السياسية، وتأسيس كوادر شعبية قادرة على رصد العوار المجتمعى، بل والتدرب على كيفية صياغة النتائج بحكم مجاورة المشاركين بالحوار، سواء المتخصصين أو الأكثر خبرة.

 

ولم ينته العائد من الحوار الوطنى عند هذا الحد، بل أثبتت التجربة خروج المدونات بمزايا نسبية لم تكن تتاح قبل ذلك فى الممارسات البرلمانية أو الحزبية، وأكثر شيوعا:

1- انتفاء الصراع على الظهور الفردى وتسويق المشارك لذاته، لأن الفكرة الواحدة تذوب هوية الفرد فيها، وعوضا عن ذلك تكتسب بعدا جماعيا.

2- لا مساحة للمزايدة على الآراء أو المتاجرة بالشعارات، لأن الأفكار تدرج فى المدونات على الملأ، وهي إجراءات تنتفى معها فرص المزايدة.

3- ولعل أروع ما فى الحوار الوطنى هو أنه أتاح موائد يجلس إليها أصحاب الرأيدى والرأى الآخر دون اعتلاء، فالكل هنا على أرض محايدة، فلا يمكن تصنيف طرف بكونه الضيف أو المضيف، وليس خفيا أن لغة تهميش المعارضة والأقليات باتت صفرية.

4- أما على المستوى الإقليمى، بات من اليسر تذوق القضايا الإقليمية بنفس النكهة، فلم يحدث قبل شيوع الحوارات الوطنية خاصة قبل سنوات الربيع العربي أن توحدت الرؤى حول القضية الفلسطينية ككل، أو حتى أن تم التوافق على أجزاء الحلول.

 

مستقبل الحوار الوطنى فى العالم العربى

مع بداية العام 2022 تزايدت القناعة بمنهجية الحوار الوطنى، فقد أقبلت تونس والجزائر والسودان ومصر والسعودية، وتتابع بقية دول المنطقة تبنى هذا النهح الديموقراطى، وهو بلا شك توجه إيجابى ثماره عديدة، أقل ما فيها أنها دلالة سمو ديموقراطى يزيح عن أى دولة شبهات الديكتاتورية، او حتى التلويح بالاتهامات التى تسئ لحقوق الانسان.

 

وليس بالمستبعد فى المستقبل القريب أن تصبح ممارسة الحوار الوطنى جزءا متمما للنهج الديموقراطى كأحد ملامح الحقوقيات الأممية، وأن يصبح معيارا يكال به نزاهة الدول، بل كشرط متمم لاستمرار عضوية أى دولة ضمن الأمم المتحدة، وما قد يتبع ذلك من صلاحيات مشروطة يستند إليها البنك الدولى كتصنيف ائتمانى يترتب عليه منح القروض.