«الهوية الوطنية».. معركة مصيرية
الهوية الوطنية معركة رئيسية وحاسمة لمصر في عصر من التحديات التى نجمت عن متغيرات سادت العالم كله، إضافة إلى سعى القوى الاستعمارية إلى السيطرة على العقول
قضية التعليم، كانت وستظل، إحدى أبرز القضايا الرئيسية المتعلقة بهوية مصر، وتقدم ملف التعليم يعنى الحفاظ على الهوية الوطنية بكل ما فيها
تظل معركة الهوية الوطنية وتحدياتها، واحدة من أهم المعارك، التى تخوضها الشعوب والأمم فى سبيل الحفاظ على سماتها الرئيسية التي ميزتها عن كثير من الأمم الأخرى. فالهوية - فى اعتقادى - هى السمات والمكتسبات التى تكتسبها الأمة على مدى عقود من الزمان، وتصبح سمة رئيسيه لها، تمكنها من مواجهة التحديات والمخاطر.
وللحفاظ على الهوية، لابد وأن تتوافر لدى أى أمة القدرة على مقاومة الأخطار الخارجية والحفاظ على ثوابت هذه الأمة وقدرتها على التماسك والبقاء.
ولقد ظلت مصر على مدى تاريخها القديم والحديث محوراً للصراع، وهدفاً للقوى الكبرى، التي تسعى إلى السيطرة عليها، نظراً لموقعها الجغرافى ودورها المحورى المؤثر عبر التاريخ.
ولذلك فإننى كنت أتمنى أن تكون تحديات الهوية والحفاظ عليها محوراً مستقلا، إلى جانب المحاور الثلاثة للحوار الوطنى وهى السياسى والاقتصادى والمجتمعى.
الهوية الوطنية لا يمكن أن تكون مجرد لجنة. فالهوية هى المكون والدافع لأى عمل سياسى أو اقتصادى أو مجتمعى. فلا سياسة أو اقتصاد أو مجتمع بلاهوية.
الهوية الوطنية المصرية، كانت وليدة تراكم من العادات والتقاليد، التى ميزت حضارة وادي النيل وأصبحت موروثاً ثقافياً وحضارياً بقي حتى اليوم من المميزات الرئيسية لها. ولذلك فإن الهوية الوطنية، تمثل معركة رئيسية وحاسمة لمصر فى عصر من التحديات، التى نجمت عن متغيرات سادت العالم كله إضافة إلى سعى القوى الاستعمارية، إلى السيطرة على العقول، بعد ان تراجع الغزو العسكرى وانتهى تقريباً من العالم.
إذن المعركة الرئيسية هى معركة الهوية الوطنية، أو كيف تحافظ مصر على هويتها الوطنية، التى اكتسبتها عبر قرون طويلة.
الفكرة الاستعمارية لازالت قائمة، حتى وإن اختلفت الأدوات. فبعد تراجع الجيوش، جاءت الجيوش الإلكترونية واللجان العاملة على الواقع الافتراضى، لتقاتل بشراسة المأجور وحدة المحرض، لتمهد الأرض وتسيطر على العقول.
هذا الأسلوب، هو الذى تستهدفه "النيوميديا" بكل ما قدمته من تطور تكنولوجى، لكنها للاسف استخدمت في أن تكون أداة لضرب هوية مصر على وجه التحديد.
والحديث هنا ليس عن الجهل في تناقل هذه المنتجات على الواقع الافتراضى، ولكن العمد من الجهات التي تنتجها، بهدف تنفيذ مخططات تم وضعها بكل عناية وتخطيط محكم لضرب هوية مصر.
معركة الهوية، هي معركة قديمة وأزلية، لكنها في العصر الحديث اتخذت أشكالاً مختلفة فقبل 100 عام من الآن، عقب وصول الوفد المصرى إلى الحكم عام 1924، تولى سعد رئاسة الحكومة، واحتفظ لنفسه بحقيبة الداخلية بجانب الرئاسة، واختار أخلص رجاله– النقراشى- ليكون وكيلًا للنظارة، رغم كونه من رجال التعليم.
كان سعد مؤمنًا بضرورة أن يتقدم "الأفندية" الصفوف، الأفندية في المقدمة حلمه الكبير منذ أن كان ناظرًا للمعارف العمومية!
حلم سعد دفعه إلى معركة كبرى مع السلطان فؤاد نفسه، حينما تقدم الزعيم بتشكيلة الحكومة الجديدة، وبها أسماء عدد من "الأفندية". أحس السلطان "فؤاد" أن سعد يريد الاستهانة به وبالعرش، كيف يوقع عاهل مصر على أمر ملكى بتعيين "أفندية" نظارًا ؟! حاول سعد إقناع الملك بأن صدور هذا الأمر بهذا الشكل هو انتصار له كأول رئيس للجامعة الأهلية، وانتصارًا لأبيه الخديوى إسماعيل، وانتصارًا للأسرة العلوية حتى مؤسسها محمد على باشا الكبير!
ولكن سعدًا كان على قناعة في قرارة نفسه أن وصول "الأفندية" إلى الحكم، يعنى انتصاراً له هو ولهوية مصر، منذ أن كان ناظرًا للمعارف فى معركته ضد المستشار الإنجليزى" دنلوب" الخاصة بتعريب المناهج. انتصارًا له في معركة تأسيس الجامعة المصرية، ودعوة وجهاء مصر لأول اكتتاب لصالحها عام 1906، حرب طويلة انتصر سعد فيها فى النهاية.. وبقيت هوية مصر..
ولذلك فإن قضية التعليم، كانت وستظل، هي إحدى أبرز القضايا الرئيسية المتعلقة بهوية مصر، وأن تقدم ملف التعليم يعنى الحفاظ على تلك الهوية الوطنية بكل ما فيها.
في عام 1938 قدم عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، إلى المكتبة العربية واحداً من أهم مؤلفاته وهو "مستقبل الثقافة في مصر"، وهو الكتاب المهم الذى يمثل محوراً للجدل الدائر منذ صدوره وحتى اليوم. فقد ألفه عميد الأدب العربى بعد شهور قليلة من توقيع معاهده 1936 مع بريطانيا، وهذا التحول الكبير في قضيه الاستقلال، والتفاعلات التي كانت نتاجاً لثورة 1919.
في هذا الكتاب يقول عميد الأدب العربى: «مصر ثقافياً وحضارياً، هي دولة غربية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة. فالعالم ينقسم إلى حضارتين لا ثالث لهما. الأولى، تأخذ جذورها من الحضارة المصرية القديمة وفلسفة اليونان والقانون الرومانى. والثانية، تأتى من الهند.»
وفي زاوية أخرى يتحدث قائلاً: " «مصر كانت عبر التاريخ على اتصال بدول البحر المتوسط وبحر إيجه. وكانت هى نفسها مهد حضارة غمرت الآفاق آلاف من السنين. هذه الحضارة هى جذور وأصل الحضارة الغربية الحديثة. وخلال التاريخ، كان تأثير حضارة مصر على اليونان، وتأثير حضارة اليونان على مصر واضحا ومستمرا. وحتى عندما كانت مصر جزءا من الدولة الإسلامية»
قضية اللغة وتماسكها، من القضايا المهمة في التحديات التي تواجه الهوية الوطنية، وخاصة تلك المحاولات التي تستهدف تدمير اللغة. عن تلك القضية يؤكد عميد الأدب العربى قائلاً :"إنى من أشد الناس إزورارا عن الذين يفكرون "في اللغة العامية على انها تصلح أداة للفهم والتفاهم، ووسيلة إلى تحقيق الأغراض المختلفة لحياتنا العقلية. قاومت ذلك منذ الصبا ما وسعتني المقاومة، ولعلي أن أكون قد وفقت في هذه المقاومة إلى حد بعيد، وسأقاوم ذلك فيما بقى لى من الحياة ما وسعتني المقاومة، لأني لا أستطيع أن أتصور التفريط - ولو كان يسيراً- في هذا التراث العظيم الذى حفظته لنا اللغة العربية الفصحى، ولأني لم أومن قط، ولن استطيع أن أومن بأن للغة العامية من الخصائص والمميزات ما يجعلها خليقة بأن تسمى لغة، وإنما رأيتها وسأراها دائما لهجة من اللهجات قد أدركها الفساد في كثير من أوضاعها وأشكالها، وهى خليقة أن تفنى في اللغة العربية إذا نحن منحناها ما يجب لها من العناية فارتفعنا بالشعب من طريق التعليم والتثقيف، وهبطنا بها هي من طريق التيسير والإصلاح إلى حيث يلتقيان من غير مشقة ولا جهد ولا فساد"
أهم ما تملكه مصر هو تاريخها، وقوتها الناعمة التي تمثل " الحارس الأمين" على الهوية المصرية، وربما ذلك ما تجلى فى المقاومة الشعبية الكبيرة لمحاولات تغيير الهوية مع تصاعد جماعات الاسلام السياسى قبل ثورة 30 يونيو المجيدة.
المعارك الحقيقية الآن على الواقع الافتراضر، المعركة المصيرية للهوية الوطنية تدور هناك. فعلى مدى السنوات العشر الماضية الأخيرة، ظهرت منصات تخصصت في تقديم إنتاج وثائقى، حظى باهتمام بالغ من جانب الجمهور المتابع والمتشوق لزوايا جديدة فى التناول.
عبر هذه السنوات استأثرت هذه المنصات بفكرة إعادة كتابة التاريخ، وفق منهج مدروس، يعتمد بالدرجة الأولى على إعادة كتابة التاريخ العرب وخاصة المصرى.
هذا المنهج كان جزءً من استراتيجية تلك المنصات التي حددت منهجها في إنتاج وثائقيات تثير لغطاً غير مسبوق، وتركز على الزاوية السلبية في القضايا، وخاصة الحديث عن الرموز التاريخية، وإلقاء الضوء على أحداث تاريخية بصورة تزعزع ماهو متعارف عنها، باستضافة معارضين يشككون في جوهر الحقيقة التاريخية، وتعتمد بعضها منهج التحريض والتغييب.
تخصصت هذه المنصات في إنتاج أفلام دعائية موجهة عن حكام مصر، تعمدت فيها وصفهم بصفات نمطية تكرس لصورة ذهنية مقصودة ومتعمدة، فعبد الناصر هو «الخائن لجماعة الإخوان »، والسادات هو «المدعى الخبيث»، و»مبارك هو الفاسد» وغيرها من الإدعاءات التي تستهدف الرموز الوطنية المصرية. وبعضها تعمد إنتاج مواد مضادة للدولة المصرية، متمثلة فى الجيش والشرطة المصرية.
الهوية الوطنية هى" المعركة المصيرية" لمصر .. ساحتها الحقيقية على أرض الواقع الافتراضى ..لمن أراد أن يستمع ويستوعب الدرس..