«الأنسنة والتجديد في فكر العلامة الشيخ عبدالله بن بيه».. أحدث إصدارات الكاتب محمد وردي
صدر حديثا عن دار «هماليل» للنشر في أبوظبي كتاب محمد وردي «الأنسنة والتجديد في فكر العلامة الشيخ عبدالله بن بيه»، وهو مقاربة فكرية تقوم على تفكيك محمولات خطاب الشيخ ابن بيه التي تجمع ما بين العقلانية والإيمانية؛ بأسلوبية فارهة، تبدو وكأنها وجدانية محضة على تقليد اللاهوتيين عمومًا، إلا أن الكاتب يكشف أن البنية الدلالية للخطاب تتجاوز البعد الوجداني إلى فضاء فكري فلسفي شفيف، يتأسس على ثلاث منطلقات، يشكل كل منها غواية عقلانية آسرة؛ من حيث مغايرته للسائد في الخطابات الإنسانية المعاصرة عموماً، حسبما يقول مؤلف الكتاب محمد وردي.
المنطلق الأول: يكشف الكاتب أن خطاب الشيخ ابن بيه لا يندرج في إطار الخطابات الشائعة في الفلسفات الوضعية المعاصرة، التي دأبت على مخاطبة العقل فقط. ولا يندرج أيضاً في إطار الخطابات الدينية التقليدية، القائمة بمعظمها على النقل والترداد أو الوعظ والإرشاد وإنما هو خطاب فكري مفتوح على فضاءات دلالية وتأويلية فارهة الثراء، تجعله يبدو وكأنه خطاب وجداني، غير أن بنية الخطاب الدلالية لا تقتصر على مخاطبة المشاعر أو استثارة الانفعالات الإنسانية فقط، وإنما تجمع ما يسميه الكاتب "عقلانية إيمانية" مفارقة للوعي الإنساني، من حيث أن الخطاب يتوجه إلى العقل؛ بقدر ما يتوجه إلى القلب والروح، وهو في ذلك يقتفي الأثر القرآني في استثارة الاستجابة الإنسانية الفاعلة على أحسن ما تكون عليه.
المنطلق الثاني: يعتقد محمد وردي أن خطاب الشيخ ابن بيه لا ينطلق من مفهوم التنوير؛ كما قدمته الحداثة الغربية، التي انتهت إلى تنميط الذات الإنسانية وكأنها صورة واحدة في القطيع البشري، حيث جرى أسر الإنسان في قالب فيزيولوجي بيولولوجي/نفسي، يتقدم فيه العقل (على النحو الذي مضى إليه فلاسفة العقل)، والغريزة (على نحو ما ذهب إليه فرويد ولاكان ويونغ وآخرون). أما التنوير الذي يرومه خطاب الشيخ ابن بيه، فهو يتقصد الإنسان من خلال إعادة النظر في الطبيعة البشرية؛ باعتبار أن الذات هي كينونة فردية، فريدة ومتفردة بالدرجة الأولى. وهذا لا يعني أن الشيخ يجافي الحداثة أو يقاطعها، وإنما هو يعيد صياغتها على نحو أكمل وأنبل، كما هو شأن التفلسف أو التفكير الحداثوي، أي إعادة أشكلة الموضوع الإنساني؛ انطلاقاً من السؤال الفلسفي الأزلي، كيف يمكن أن يكون الإنسانُ كما يجب أن يكون؟
المنطلق الثالث: يؤكد الكاتب أن خطاب الشيخ ابن بيه يقوم على فلسفة «الخير العام»، أي خير الإنسان للإنسان؛ سواء على مستوى التنظير في ديباجة السلم وتأصيله في الثقافة الإسلامية، وبيان ضرورته الحاقة، حيث يقطع الخطاب بأهمية السلم الذي يمثل جوهر الحقوق في إطار الخير العام، لا بل يقطع بتقديم السلم على مفهوم الحق؛ لأنه لا مكان للحقوق؛ بل لا مكان لقيمة الإنسان في ظل الحروب. ولذلك يركز خطاب الشيخ ابن بيه على تشييد مفهوم «عمارة الأخوة الإنسانية» على أسس ثابتة، تتمثل بترسيخ وتعزيز قيم «الإنصاف» و«التضامن» و«بذل السلام للعالم»
و«المواطنة الشاملة»؛ باعتبار أن الخير العام، ينتظم في إطار الواجب أو «الضمير الأخلاقي»، المغروس في أعماق الذات الإنسانية؛ بمقتضى الخيرية الوجودية الأولى في أساس الخلق، ويجب أن يترقّى باستمرار على أسس الفضيلة وقيم الرحمة، حسب دواعي الدين والأخلاق؛ لأن العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل ما انتهت إليه الحداثة المعاصرة؛ لم تسد الثُغرات التي تحول دون عمارة «مفهوم الأخوة الإنسانية» في النفوس قبل النصوص. وهو ما نلاحظ نتائجه من الاحتراب والعنف العدمي، المنفلت من كل زمام على مستوى العالم. وعلى العموم؛ إذا كانت العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من مهمات الدولة، فالخير العام - بطبيعة الحال - لم يكن من مهمات الدولة الحديثة، كما يلاحظ جون راولز في كتاب «نظرية العدالة». ما يقتضي تأسيس ثقافة «الخير العام» في النفوس في إطار «الضمير الأخلاقي» أو «الواجب الأخلاقي»، الذي لا يمكن أن تلاحظه النصوص، وإنْ لاحظته لن يأتي بالنتائج المرجوة له؛ لأن الفرق كبير بين الإلزام القانوني القسري، وبين الإلزام الأخلاقي الطوعي؛ فمن جهة أولى: أن الإلزام القانوني إذا صار قهراً فقد صفته الأخلاقية، التي لا يمكن أن تكون كما يجب أن تكون؛ من دون الحرية التلقائية. هذا فضلاً عن التردّد أو الشك؛ بمدى الاستعداد الذاتي الفردي؛ للعمل بالإلزام القانوني طوعًا؛ بجدٍ وكدٍ يليقان بموجباته، ومن جهة ثانية: لا أحد يأتي خيرًا إذا فعل ما فعل مجبراً، وإنْ كان ما فعله خيراً؛ باعتبار أن الخير هو فضيلة، ولا يمكن للفضيلة أن تنطوي على عسف أو تضييق. ولذلك يتقصد خطاب الشيخ ابن بيه تأسيس ثقافة الخير العام في النفوس قبل النصوص، من خلال تشييد «عمارة الأخوة الإنسانية» على قيم الخير العام.
وينتهي الكاتب إلى الخلاصة التالية: إن خطاب الشيخ ابن بيه بما يمثله من عقلانية إيمانية، ورافعة قيمية، وأنسنة أخلاقية رشيدة، إنما هو يؤسس ما يسميه في الكتاب «إمكانية اجتماعية عقلانية إيمانية»، وهي إمكانية واقعية وعملية، تتيح الفرصة لأن يكون الفرد فاضلا بالضرورة، وهي من أفضل سرديات الحداثة في الفكر الإنساني المعاصر، الفلسفي أو الديني».