رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أحمد النجمى يكتب : حسابيه

28-9-2017 | 19:11


اندهش الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات من اقتراح عمرو موسى، فى تلك الجلسة التى مر عليها قرابة الخمسة والعشرين عاماً.. انعقد حاجبا عرفات وارتسمت خطوط متقوسة على جبينه من هول الاقتراح.. لم يكن عمرو موسى يمزح، كان يحكى بجدية.. فى حضور عرفات ومبارك والراحل عمر سليمان ومحمد دحلان.. اعتقد أن دهشة ياسر عرفات لم يكن السبب فيها ضحكة مبارك ثم دعابته اللفظية.. كان عرفات فى الحقيقة مندهشا من أن وزير خارجية مصر - بحالها - يقترح اقتراحاً من هذا الطراز.. بحجة تضليل الاسرائيليين! لكن الأيام والسنوات التالية ستجعل هذا الاقتراح الذى طرحه موسى شيئاً عادياً، لا يتعدى بضعة سطور فى سجل حافل بالمواقف الصادمة لموسى.. لم يسجلها فى “كتابيه” أو مذكراته التى صدر جزؤها الأول قبل نحو أسبوعين، ففتح عليه أبواب جهنم..!

قبل أن نسرف فى الكلام عن “كتابيه” لعمرو موسى وزير خارجية مصر الأسبق وإمين عام ورئيس الجامعة العربية الأسبق، والمرشح الرئاسى الأسبق، ورئيس لجنة الخمسين لوضع الدستور “٢٠١٤” الأسبق - والذى يمكن أن تمنحه عشرة “أسبق” من نفس هذا الطراز، فالرجل تبوأ مناصب رفيعة كثيرة! - نكمل قصة عرفات ودهشته بل صدمته من اقتراح عمرو موسى!.

كان هناك اجتماع فى القاهرة على مستوى رفيع، ضم حسنى مبارك وعمر سليمان - رحمة الله عليه - وعمرو موسى والزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات ودحلان.. كان هذا قبيل التوقيع على اتفاق “غزة - أريحا” أى قبل نحو ٢٤ عاماً.. كان عمرو موسى يعرض فكرته عن الخطوط التى من الممكن أن نطالب الإسرائيليين بالانسحاب إليها، وجاء ذكر “أرض موسى” وهى أرض فلسطينية احتلها الإسرائيليون فى العام ١٩٦٧، وكان يتعين عليهم إخلاؤها لصالح الفلسطينيين، الإسرائيليون كانوا يزعمون أن هذه البلدة لابد أن تكون فى حوزتهم لأن النبى موسى “عليه السلام” مر بها وسميت باسمه، ووقع حضور الاجتماع فى حيرة.. كيف يثبتون أنها أرض فلسطينية لكى ينتزعوها من الاحتلال الإسرائيلى.. وإذا بعمرو موسى يقترح على ياسر عرفات: مش انتو عندكم موسى أبو مرزوق؟ رد عليه عرفات: نعم.. القيادى بـ “حماس” .. فقال عمرو موسى: خلاص، قولوا أن ده يبقى جده اضح الجميع بالضحك، وقال حسنى مبارك وقد “شعشع” الإفيه فى رأسه: طب ما نقول انها أرض جدك انت!.

وظلت الدهشة تكسو وجه ياسر عرفات.. كان يظن أن لدى وزير خارجية مصر مقترحاً حقيقياً، لكنه فوجىء بأن هذا الوزير - صاحب الشعبية الواسعة آنذاك - لا يملك سوى “فناكيش” - جمع “فنكوش” - على طريقة عادل إمام فى فيلم “واحدة بواحدة”!.

ونزيدك أيها القارئ الكريم من قمح الحكايات صاعاً.. فنقول أن ثمة قصة أخرى تصلح للمسامرة فى السياق ذاته.. ما دام عمرو موسى قد فتح باب الحكايات والمسامرات والفناكيش!.

سفير مصر الأسبق فى موسكو رءوف سعد - كما حكى لنا عمنا الكاتب الكبير وأهم المتخصصين فى الشأن الإخوانى “ثروت الخرباوى” - كان فى رحلة لدعم الدولة المصرية بعد ثورة ٣٠ يوليو المجيدة فى العاصمة الروسية فى أكتوبر ٢٠١٣، وعلى متن الطائرة العائدة فى موسكو إلى القاهرة بعد انتهاء الرحلة.. حكى السفير رءوف سعد لكل من الخرباوى وسامح عاشور “نقيب المحامين” ومحمد سلماوى - الكاتب الكبير - وعزت العلايلى - الفنان المشهور - قصة لا تخلو من طرافة، تدل على سلوك عمرو موسى حين كان وزيراً لخارجية مصر فى التسعينيات!.

حدث رءوف سعد فقال: كان الوزير عمرو موسى فى التسعينيات قد اتصل بى شاكياً من أنه مشغول جداً وأن كبار السفراء فى الخارجية مشغولون، بينما هناك اجتماع شديد الأهمية تعقده “منظمة المؤتمر الإسلامى” ولابد لمصر أن تشارك فيه وبقوة.

هنا لابد من ملاحظة صغيرة وبسيطة وشديدة الأهمية، وهى أن السفير رءوف سعد مسيحي! تفتقت قريحة الوزير عمرو موسى عن أن يسافر السفير رءوف وأن يكون اسمه الذى تناديه به البعثة السعيد محمد عبد الرؤوف سعد وطلب منه عمرو موسي، السفر، وأوصاه أن يصلى معهم إذا تطلب الأمر! وبالفعل سافر رءوف سعد إلى المؤتمر وألقى كلمة مصر وأسهم فى كل الفاعليات مع ممثلى الدول الإسلامية منفذاً تعليمات الوزير، ومر الأمر كأن لم يكن..! ثروت الخرباوى نشر فى الزميلة “المصرى اليوم” مقالاً بعنوان (مصريون فى الكرملين) فى ٣ نوفمبر ٢٠١٣، لم يذكر فيه القصة ولكننى حين سألته أجاب.. واندهشت دهشة تنافس دهشة الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات من حكاية (أرض موسي)، ليس من أن سفيراً مسيحياً مثل مصر فى مؤتمر إسلامي، الدين لله والوطن للجميع.. ولكن من أن هذا تم باستسهال من عمرو موسى وزير خارجية مصر آنذاك، وبتعليماته التى كان من بينها (ضرب) جواز سفر لرءوف سعد..!

إذن.. فنحن بإزاء رجل يظن أنه الأذكي، وأنه حال قرر أن يضحك على هذا أو ذاك من الناس، أو أن يضحك على الناس جميعاً.. فإنه يظن أن أحداً لن يكتشف أمره.. يظن أنه (داهية) لا يشق له غبار..!

وحين أصدر عمرو موسى كتابه الأخير (كتابيه) - المأخوذ اسمه من الآية رقم ١٩ من سورة الحاقة فى القرآن الكريم - دعا إلى حفل توقيع كتابه أو على وجه الدقة الجزء الأول من مذكراته، حمدين صباحى وعبدالله السناوى وعدداً من الرموز المحسوبة على الكتاب الناصريين.. ولم يدع الكثير من الرموز الحقيقية للتيار الناصري، هذا أنه لو دعاهم لانقلب السحر على الساحر، وتحول الاحتفال إلى فضيحة!

الكتاب الذى يبلغ سعره ٣٠٠ جنيه والصادر عن دار الشروق يمثل حدثاً.. بسبب سعيه الرهيب، إذ أن الكتاب الذى يباع بهذا المبلغ لابد أن يكون موجهاً لطبقة بعينها من المجتمع، تلك الطبقة التى تستطيع استقطاع ٣٠٠ جنيه من دخلها الشراء كتاب - مهما يكن شأنه - والحق أن هذه الطبقة التى تملك المال لا تقرأ أصلاً.. إلا من رحم ربك طبعاً.. وهى إن قرأت كتاب عمرو موسى الذى اختار له - أو اختير له بتعبير أدق! - عنوان “كتابيه”، فسوف تسعد كثيراً وتجد مساحة واسعة للثرثرة سواء فى المجالس الخاصة أو على حساباتها فى الفيسبوك وتويتر.. ألم يسيء عمرو موسى فى كتابه هذا إلى الرجل الذى تكرهه هذه الطبقة وتتوارث كراهيته وترضعها مع لبن أمهاتها: جمال عبدالناصر؟

القصتان اللتان ذكرناهما فى مفتتح المقال - قصة (أرض موسي) وقصة السفير رءوف سعد - مفتاح لفهم الدجل واسع النطاق الذى مارسه عمرو موسى فى شأن الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر.

زعم موسى أن ناصر كان يشترى طعامه من سويسرا بالطائرة! عبدالناصر الذى كان رمزاً للتقشف فى طعامه وشرابه - بالذات - وخصص “الأربعاء” من كل أسبوع ليكون الغداء فى بيته (بصارة) بعد حرب ١٩٦٧ - وكما ذكر د. صفوت حاتم فى مقال نشر بـ “المصور” قبل فترة - وكان أغلب طعامه من الجبن الأبيض والعيش البلدي.. عبدالناصر هذا كان يشترى طعامه من سويسرا..؟!.. كان ناصر مصاباً بالسكر، ويبدو أنه احتاج إلى بعض العلاجات وأنواع من الغذاء لم تكن مصر تنتجها آنذاك، فإن اضطر إلى استيرادها فهل هذا جريمة؟.. أتساءل هذا التساؤل وليس تحت يدى - أصلاً - ما يثبت أن ناصر استورد شيئاً لنفسه أو بيته من الخارج ليشوه صورته.. الحق أن موسى لم يتاجر بناصر فى أفريقيا وحدها، بل فى البلاد العربية الشقيقة أيضاً.. من لبنان إلى البحرين إلى الشارقة، موحياً لمن يلتقيهم بأن هواه ناصرى ليحصد المجد السياسى وأشياء أخري..! أحد أشهر رجالات الخارجية المصرية فى الماضي، وكان من الضباط الأحرار أصلاً ثم التحق بالسلك الدبلوماسي، قال - رحمة الله عليه - فى أحد مجالسه الخاصة إن عمرو موسى شديد الكراهية لجمال عبدالناصر وأنه - عمرو - دائماً ما يردد أن ناصر أدخل (الرعاع) إلى الخارجية المصرية، قاصداً بذلك أبناء الفقراء من النابهين الذين التحقوا بالسلك الدبلوماسى المصرى فى الخمسينيات والستينيات!

.. ما علينا؛ فلو كان موسى اكتفى بفرية مشتريات ناصر من سويسرا لما كلفنا أنفسنا عناء الرد عليه، أو كنا على الأكثر اكتفينا بالرد عليه بقصته (السيجار الهافانا) الذى كان يأتيه فى الحقيبة الدبلوماسية.. لكنه ذهب إلى مساحة أسوأ من التحمرد على عبد الناصر والأفتراء عليه.. فاتهم ناصر فى نفس مذكراته (الفاخرة.. كالسيجار الكوبى تماماً!) اتهاماً سياسياً عجيباً ويجب الرد عليه، حين أراد أن يفسر نكسة ١٩٦٧ فذهب إلى أن القرار السياسى الذى أدى إلى الحرب كان (مغامرة) ولم يكن يصح أن يعرض - ناصر - البلاد لهذا التحدى المدمر..!

الكلام السابق مردود عليه عشرات المرات فى كتابات المؤرخين العدول وشهود التجربة الناصرية، ومع ذلك.. نتوقف فقط أمام لفظ (المقامرة)؛ فإذا كان عمرو موسى حراً فى أن يكره جمال عبدالناصر - على الأقل بحكم انحداره من أسرة (وفدية) ثرية ! - فهل من الصواب أن نتهم ناصر بأنه كان (مقامراً) سياسياً؟.. نقول لوزير خارجية مصر الأسبق: اقرأ (المقاربة) التاريخية الآتية ثم أجب على السؤال السابق: فى العدوان الثلاثى (١٩٥٦) على مصر.. ألم يكن هناك شىء من المقامرة فى قرار تأميم قناة السويس وعلى الجانب الآخر ألم تكن هناك مقامرة فى قرار الدول الثلاثة - بريطانيا وفرنسا وإسرائيل - بالعدوان على مصر؟ ونجحت نسبة المقامرة المصرية وفشلت نظيرتها المعتدية؟.. دعك من مصر وتاريخ مصر، فى فرنسا .. حين سقطت فى يد (النازى) وأقيمت حكومة (فيشى) المواللية لبرلين .. ألم يكن فى إعلان الجنرال «ديجول» رفضه الاعتراف بحكومة (فيشى) هذه مقامرة وهو لايملك على الأرض أى شىء يقيد به لتحرير بلاده؟ ألم ينتصر (ديجول) فى النهاية؟ وفى عدوان إسرائيبل على لبنان فى ٢٠٠٦، ألم تكن إسرائيل تقامر وهى تعلم أن الدنيا كلها ستقف ضدها.. إذن فهناك (هامش سياسى) للمناورة يتحمل شيئاً من (المغامرة) يضطر إليه القادة فى بعض الأوقات .. وتحت تأثير ظروف بعينها، ينجح فى كثير من الأحيان ولاينجح فى بعضها.. تلك هى المسألة.. لكن عين الكراهية ترى كل شىء قبيحاً!

عين الكراهية التى رأى بها عمرو موسى الزعيم جمال عبدالناصر، هى ذاتها التى رأى بها السياسى الراحل الكبير «أسامة الباز»، أسقط عمرو موسى تاريخ الباز كله - وهو واحد من أهم أعمدة الدبلوماسية المصرية فى القرن العشرين - وتذكر فقط أنه مشكوك فى حصوله على درجة الدكتوراه .. مع أن هذا لاينتقص من قدر أسامة الباز «قيد أنملة» كما كان العرب يقولون قديماً .. أيضا كال عمرو موسى لوزير خارجية مصر الراحل «أحمد ماهر» الاتهامات التى تكفى لكى يتصور من يقرأها أن أحمد ماهر لم يكن سوى واحد من شياطين الإنس.. مع أن شهادات من عملوا فى الخارجية وعاصروا الرجل تقطع بالعكس تماماً !

لقد كره عمرو موسى الزعيم جمال عبدالناصر واتهمه بالباطل، وكره أسامة الباز واتهمه بالباطل، وكره أحمد ماهر واتهمه بالباطل.. وكان يجب أن يضع لمذكراته عنوان (كراهية) لا (كتابيه) ، صحيح أن الأولى تنتهى بالتاء المربوطة والثانية تنتهى بالهاء، وأن كلمة (كراهية) لايمكن أن تكون عنواناً لمذكرات رجل سياسى شهير، لكن هذا هو واقع الحال .. هناك أطنان من الكراهية المستندة إلى انطباعات خاصة وأفكار شخصية وانتماءات طبقية، تعبئ مذكرات عمرو موسى هذه ، والتى يتوقف جزؤها الأول عند تركه حقيبة (الخارجية)، وهنا أتذكر تلك الأيام حين كان عمرو موسى يغادر الخارجية وكنت بعد صحفياً شاباً فى مقتبل الطريق - قبل حوالى ١٧ عاما - وكان الناس فى مصر حزانى عليه .. سمعت ذات مرة من سائق تاكسى كنت أستقله: (مبارك شاله عشان الناس بقت بتحبه.. كفاية أن شعبان (يقصد المغنى شعبان عبدالرحيم) غنى له بكره إسرائيل وبحب عمرو موسى .. بذمتك ياأستاذ حد غنى لمبارك؟) . اندهشت ساعتها من حجم المحبة التى فى قلوب البسطاء لعمرو موسى ، ولعدم ادراكهم أن موسى ومبارك كلاهما لايجب التغنى باسمه .. كلاهما ساهم فى مأساة هذا الشعب التى استوجبت الثورة فى ٢٥ يناير ٢٠١١، والمضحك المبكى أن عمرو موسى كان من رموز هذه الثورة، وأن حمدين صباحى الذى دعاه إلى حفل توقيع كتابه كان من رموز هذه الثورة.. وبعد ذلك يتساءل بعض السذج: لماذا فشلت ثورة ٢٥ يناير؟

ماعلينا - للمرة الثانية - ولكننا نقول فى النهاية أن عمرو موسى افترض أنه (أوتى كتابه بيمينه) وفق الآية الكريمة فى سورة «الحاقة» .. فاختار لكتابه عنواناً من الآية ذاتها يقول (كتابيه).. ولولا أننا نعرف أن كتابة هذا - وماسيعقبه من أجزاء ! - سوف تذروه الرياح ، لوضعنا له كتاباً يحمل عنوان (حسابيه)، اسمه مشتق من الآية الكريمة التالية مباشرة من نفس السورة .. نحاسبه فيه على مافعله وزيراً للخارجية، ومافعله أميناً للجامعة العربية - وأغلبنا يعرف أنه هو الذى باع مصير ليبيا إلى قطر والإخوان فى ٢٠١١ وأنه هو الذى تلاعب مع قطر حتى اضاع منصب الامين العام د.مصطفى الفقى، لكن إصدار مثل هذا الكتاب قبل أسبوعين من ذكرى رحيل الزعيم جمال عبدالناصر التى تحمل رقم ٤٧ ، والتى تحل غداً الخميس.. أثار زوبعة زادت من احتفائنا بالزعيم حركة وزادت من قدرتنا على الدفاع عنه فى مواجهة هجمة يشنها البعض ضد ناصر وضد الدولة المصرية وتجربتها الراهنة أيضا ، والمعنى فى «بطن الكاتب» ، ولهذا الأمر موضع آخر من الكتابة.. نم ياجمال هادئاً فى مرقدك، عشرات الملايين من المصريين والعرب يحيون ذكراك بمحبة تغمر القلوب، ودعك من أعدائك .. فهم أقزام .. تافهون .. وسوف يلاقون حسابهم..!