رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


لواء د. نصر سالم يكتب : أطول يوم فى دندرة مناورة الوداع

28-9-2017 | 19:39


«كانت ليلة دندرة فى دندرة»، ودندرة الأولى معناها انقلب عليها واطيها أما دندرة الثانية فهى قرية فى محافظة قنا تبعد عن القاهرة مسافة ٦٦٥كم وتقع شمال مدينة الأقصر بحوالى ٥٥ كم على شاطئ النيل الغربى مقابلة لمدينة قنا تقريبا على الضفة الشرقية.

ويوجد بها أى بقرية دندرة معبد من أهم معابد قدماء المصريين وهو معبد «وهاتور» وهاتور أو حاتور هى إلهة الحب والجمال والأمومة عند قدماء المصريين «ويعرف المعبد أيضاً باسم معبد دندرة».

فى هذه القرية حطت رحالنا يوم ٢٨ سبتمبر عام ١٩٧٠، نحن ضباط الاستطلاع ضمن كتيبة استطلاع الفرقة المشاة التى انتقلت إلى منطقة دندرة بالقرب من المعبد المذكور؛ استعداداً لتنفيذ مشروع تكتيكى بجنود، عبارة عن اقتحام مانع مائى - مثل قناة السويس- وهو نهر النيل والاستيلاء على الضفة الشرقية وتدمير العدو الموجود عليها والتقدم شرقاً لاستكمال تدمير باقى العدو والاستيلاء على الأرض وتطوير الهجوم شرقاً، حتى شاطئ البحر الأحمر .

سبق هذه الليلة عدة أيام فى منطقة تمركز الفرقة، عندما استقبلنا ضباط كتيبة الاستطلاع- أنا وزميلاى النقيب عبدالهادى والضابط الأمين- نحن ضباط استطلاع الرئاسة العامة، أو الاستطلاع الاستراتيجي، الذين انضممنا عليهم للعمل كمحكمين أثناء تنفيذهم للمشروع التكتيكى بجنود ضمن فرقتهم، كان الاستقبال حاراً وكريما، خاصة من قائد الكتيبة وقادة السرايا، أما نظراؤنا من قادة المجموعات الذين جئنا للتحكيم عليهم، فهم يروننا مثلهم لا فرق بيننا وبينهم، فعلاما هذه السمعة التى تسبقنا بأننا نمثل صفوة الضباط وأننا نجوب سيناء ذهابا وإيابا للعمل خلف خطوط العدو، وأن الزعيم جمال عبدالناصر يلتقينا فى كل مرة نعود فيها من سيناء وكثيراً ما كانوا يتحينون أى فرصة لإظهار مهاراتهم أمامنا ومحاولة جس نبضنا فى بعض المهارات والمعلومات، كتلك المرة التى قام فيها أحدهم بتوجيه بعض الأسئلة إلينا ونحن فى معسكر كتيبتهم، عن مسافات الجبال التى حولنا، وكنا نحن الثلاثة نقوم بالإجابة بتقدير المسافة بمجرد النظر دون استخدام أى وسائل فنية مساعدة ولم يزد الفرق بين تقديراتنا عن نصف كيلومتر، ولم نكن نقدر مسافة أى جبل منهم من مكاننا بأكثر من عشرة كيلومترات فانفجر هذا الضابط ضاحكاً وهو يسخر من إجاباتنا أمام زملائه، بأنه سبق له قياس مسافات هذه الجبال، وأخذ يحدد كل جبل ولم يكن تقديره لأى جبل يقل عن ثلاثين كيلومتراً..

لم نذق طعم النوم ليلتها، خاصة بعد أن رأينا نظراتهم إلينا، وما أن خلونا فى مكان المبيت المخصص لنا. وكان عبارة عن ملجأ تحت الأرض - حتى أخذنا نراجع أنفسنا ومعلوماتنا وخلصنا إلى أن تقديراتنا لا يمكن أن تكون بهذا الخطأ وقررت أنا والنقيب عبدالهادى أن نقوم بالتحرك إلى أبعد جبل وقياس مسافته سيراً على الأقدام مع شروق شمس اليوم التالى كى نقطع الشك باليقين، وعهدنا إلى الضابط الأمين أن يبقى فى الكتيبة لكى يغطى أمرنا ولا يكشفه على أحد حتى نعود وكانت أمامنا مشكلة أنه لا يوجد معنا أى معدات ملاحة «بوصلة» ولا خرائط ولا سلاح يحمينا، ولو أننا طلبناه من قيادة الكتيبة سوف ينكشف أمرنا - إضافة إلى نقطة هامة هى أن كل منشآت الكتيبة مخفية تحت الأرض لا يظهر منها شىء، الأمر الذى يزيد من صعوبة العودة مرة أخرى إلى نفس المكان، ورغم هذا قررنا استحضار كل ما لدينا من مهارة ومن خبرة سابقة للنقيب عبدالهادى الذى سبق له العمل فى سيناء خلف خطوط العدو، أما أنا فلم يكن مضى على تخرجى عام واحد.

ونجحنا فى الوصول إلى الجبل والصعود إلى قمته وكتابة أسمائنا وتوقيت تواجدنا على برميل موجود فوقه يمثل علامة جغرافية، وعدنا بعد خمس ساعات إلى معسكر الكتيبة ودخلنا إلى ميس الضباط فوجدناهم جميعا يتناولون طعام الغذاء، ورحنا نداعبهم ونكرر عليهم ما فعلوه معنا بالأمس وهم فى حيرة من أمرنا، حتى كشفنا لهم ما فعلناه وأن تقديراتنا هى الصحيحة، وهنا ضحك أحد قادة السرايا الذى حضر موقف اليوم السابق وأخبرنا أنهم يعلمون المسافات الحقيقية ولكنهم كانوا يحاولون اختبار قدراتنا، وقرر أن يعد لنا عشاء فاخراً على نفقته تقديرا لما فعلناه. وأخذ أحدهم يردد «له حق عبدالناصر يلقاكم كل يوم» ويرد آخر «احكو لنا ماذا يقول لكم».

أخبرناهم أن النقيب/عبدالهادى هو الذى التقاه لأنه هو الذى سبق له دخول سيناء والعمل خلف خطوط العدو، أما الأمين وأنا ففى انتظار دورنا، وراح عبدالهادى بعد إلحاح شديد منهم يروى فى اقتضاب، كيف دخل هو وزملاؤه ومعهم المدير إلى بيت عبدالناصر وجلسوا فى غرفة الاستقبال التى كان الأثاث الموجود بها قديما ولا يبدو عليه أى مظهر من مظاهر الثراء، بل أقل كثيرا من أثاثات أخرى رآها من قبل وأن عبدالناصر حين دخل عليهم وصافحهم، أحس كل واحد منهم أنه التقاه من قبل وبمرور الوقت كانوا يشعرون بدفء حديثه، وبمناقشته لهم ولأحوالهم وكيفية تصرف العدو فى سيناء، قرب إليهم الإحساس أنه كان معهم فى سيناء من كثرة استفساراته عن الأماكن ودقتها، ووصفه للعدو كأنه كان بينهم وهم يراقبونه .

ويسأل أحد الضباط، النقيب عبدالهادى، ماذا كان يرتدى عبدالناصر حين التقاكم ويرد عبدالهادى، كانت بدلته منحول وبرها كأنه يلبسها منذ تولى الرئاسة .

عودة إلى قرية دندرة على البر الغربى للنيل، حيث كان تجمع القوات انتظاراً لبدء تنفيذ المشروع التدريبى ..وكان الجميع مشغولين بعملية الإعداد والتجهيز للمشروع ولا وقت عندنا نحن الضباط للتجمع قبل الانتهاء، مما بين أيدينا من أعمال وأذكر أنى بعد فراغى من عملى وتوجهى لمكان المبيت وجدت عدداً من الزملاء، يجهشون فى البكاء بصورة لم أشهدها من قبل، وبعد جهد جهيد فى محاولة الاستفسار من أى منهم عما حدث وما هو سبب البكاء، رد على أحدهم بصوت غير مفهوم من شدة البكاء والنحيب: «عبدالناصر مات» فتركته وتوجهت بالسؤال إلى آخر فرد بنفس العبارة «عبدالناصر مات» .. فى البداية كنت أحسبهم دبروا هذا المشهد كنوع من المقالب التى يقومون بها معنا على سبيل المزاح، ولكنى ما إن تأكدت من الخبر إلا وانتابتنى نفس الحالة التى هم عليها بعد أن حاولت إظهار رباطة جأش وتماسكى لمدة دقائق معدودة لم أستطع تجاوزها. وأصبحت حالتنا كلها دندرة فى دندرة، وانقلب كل شىء حولنا ..فلا تقع عينك على إنسان إلا وتجده يبكى أو تسمع نحيبه.

وصدرت الأوامر بإيقاف المشروع التدريبى مؤقتا.. وبقيت القوات فى أماكنها ..حتى جاء اليوم المشهود يوم الأول من أكتوبر ١٩٧٠ - يوم وداع الزعيم ومواراته القبر - وحاولنا جهدنا البحث عن أى مكان به جهاز تليفزيون، لمشاهدة الجنازة، حتى نجحنا فى الوصول إلى ملجأ أحد القادة وهو عبارة عن مكان مجهز تحت الأرض على عمق عشرة أمتار ومبطن بشبكة من الحديد أشبه «بقفص القرود»، وهذا أيضا نفس الاسم الذى يطلق عليه، وهو لا يسع فى داخله أكثر من عشرة أفراد جلوس على الأرض أو على الكراسى، ولكنه فى ذلك التوقيت كان به أكثر من خمسين فردا، جاءوا لمشاهدة الجنازة فى جهاز التليفزيون الموجود، وهو مقاس اثنتى عشرة بوصة أبيض وأسود، ويتم إمداده بالكهرباء من إحدى البطاريات السائلة.

كان المشهد مهيباً وتعرض بعضنا للاختناق أكثر من مرة، نظراً لضيق المكان، وانتاب معظمنا حالة هيسترية من البكاء.. وانتهى أطول يوم مر علينا، وخرجنا من تحت الأرض نجر أرجلنا فى إعياء لم نشهده من قبل، ماذا بعد؟.. كان هذا هو السؤال الذى يدور فى خلد الجميع، من البديل وما العمل؟ هل ضاعت أحلامنا؟ ويقطع هذه الحالة من اليأس والألم، إعلان عن مؤتمر لقائد الفرقة يحضره جميع الضباط، وتوجهنا جميعاً فى التوقيت المحدد - وكان ليلا - إلى مكان المؤتمر وجلسنا فى صمت مطبق لا يسمع فيه إلا صوت زفرات تخرج من صدورنا كأنها تخرج من فوهة بركان، قطعه دخول قائد الفرقة ووقوفنا لتحيته، ثم بدأ حديثه بسؤال استنكارى :هل حقاً تحبون عبدالناصر؟

وتلفتنا ننظر إلى بعضنا البعض قبل أن نثبت عيوننا عليه مستنكرين السؤال ونحن نردد فى همهمات ..نعم.

- أرونى هذا فى المشروع ..اجعلوا العالم يعرف ماذا ترك عبدالناصر خلفه من رجال ..إذا كنتم حقا تحبونه فأظهروا كل ما تعلمتموه منه وكل ما فعله من أجلكم ومن أجل وطننا حتى لاقى ربه.

وبدأ المشروع فى التوقيت الجديد الذى أعلنه قائد الفرقة، وأخذت القوات تتحرك على الأرض وتقتحم نهر النيل - الذى يمثل قناة السويس - وتنطلق فى اتجاه الشرق بعد القضاء على الدفاعات التى واجهتنا بكفاءة فاقت كل التقديرات وتواصل التقدم على محور قفط القصير - أى من بلدة قفط الواقعة على النيل فى اتجاه مدينة القصير على البحر الأحمر - وتقوم بأروع عملية تطويق مزدوجة من كلا الجانبين لقوات العدو - الممثلة على الأرض بجزء من قواتنا - بصورة شهد لها كل الخبراء والمحكمين.

كانت هناك العديد من المواقف الصعبة التى يفرضها المحكمون وطاقم الإدارة على القوات وقيادتها، كأنهم فى حرب حقيقية، وكان تصرف القادة والقوات، يظهر مدى ما توصلوا إليه من مستوى قتالى عال، واحترافية تقدر مسئوليتها التى أو كلها لها الوطن.

وانتهى المشروع - التدريبى - التكتيكى بجنود. وعدنا نشعر فى داخلنا بقدر من الثقة فى قواتنا وقادتنا وأنفسنا وأن حقنا لن يضيع.