د. حسين علي ,
ظهرت طوال تاريخ الفكر البشري تيارات ومذاهب فلسفية رأت أن «السعادة» هى معيار الفعل الأخلاقي، فالناس يبحثون عن سعادتهم، وليس أدل على ذلك من أن تنظر إليهم في حياتهم اليومية المعتادة، فتجدهم بالفعل يسعون إلى تحقيق ذلك، ومن ثمَّ تكون السعادة إحدى غايات السلوك البشري ومعيار الأخلاق. إن «الخير»- في نظر تلك المذاهب الفلسفية- يتمثل في السعادة التي يحققها الفعل، أما «الشر» فينجم عن الألم أو ما يؤدي إليه؛ لأن كل إنسان بفطرته ينزع نحو تحقيق السعادة، ويجتهد لتجنب كل ألم. ولكنني ووفقًا للرأي القائل «إن الأشياء تُعْرَف بأضدادها» .. سوف ينصب حديثي على نقيض «السعادة» .. سوف أتحدث عن «التعاسة» وأسبابها.
يقول المولى: «إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا» (سورة المعارج: آية 19)، ويقول أيضًا سبحانه وتعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ» ( سورة البلد: آية 4) و«في كبد» تعني في نَصَبٍ؛ أي في شدة ومكابدة، ومكابدة الأمر هى معاناته. فالعناء والشقاء مصاحبان للإنسان منذ اللحظة الأولى لمولده؛ ولعل هذا هو سبب صراخ المولود حين تطأ قدمه الدنيا! وعلى الجانب المقابل يرى بعض الفلاسفة الوجوديين أن الإله خلق الإنسان؛ ثم تركه في هذا الفضاء الكوني المترامي الأطراف يواجه مصيرًا مجهولاً، وترك له حرية تحديد مسار حياته؛ حتى أن هؤلاء الفلاسفة شبَّهوا الإله بنسر ضخم غليظ القلب قذف بأطفاله (أفراخه) ليواجهوا مصيرهم بأنفسهم، وذهب هو لا يلوي على شيء!
نعم .. ما بأيدينا خلقنا تعساء، ولكننا نسعى في مشوارنا من الميلاد إلى الموت أن نتجنب الشقاء بحثًا عن السعادة؛ أو ما نتصور أنه السعادة. نحن نلهث وراء سراب ظنًا منا أننا إذا أمسكنا به تحققت سعادتنا. فنحن في كل مرحلة عمرية تنتابنا رغبة جامحة لاجتياز المرحلة الحالية بحلوها ومرها، متوهمين أن المرحلة اللاحقة ستكون الأفضل؛ وأن وصولنا لها سيحقق لنا ما نصبوا إليه من سعادة .. ويغمرنا حنين جارف للقادم من الأيام، فمثلاً حين نكون في مرحلة الدراسة الجامعية نتمنى أن ننتهي منها من أجل الحصول على الماجستير؛ وكلنا أمل أن حصولنا على الماجستير سينقلنا نقلة نوعية أكثر روعة، ثم نكتشف بعد حصولنا عليها أن الحياة لم تصبح وردية كما كنا نتوهم، ثم نمني النفس بأن الحصول على الدكتوراة هو الذي سيحقق الآمال المنشودة، وبعد الحصول على الدكتوراة نجد أن الأمر ليس كما كنا نتمنى، وأن علينا أن نترقى إلى درجة أستاذ ... وهكذا. قس على ذلك مراحل التنقل والترقي في كل الوظائف ومجالات العمل الإنساني المختلفة. إننا ندرك في وقت متأخر من حياتنا؛ إننا بذلنا سنوات عمرنا لا لنعيش الحياة؛ بل من أجل الاستعداد لها.
إذا كانت الحياة لغزًا غامضًا، فالحب لا يقل عنها غموضًا. كثيرًا ما نضيق ذرعًا بالحياة ومشاكلها ومتاعبها ومنغصاتها، كثيرًا ما نصرخ ألمًا من عبء الحياة، نشعر بأن كل ما يحيط بنا من أشياء وأشخاص هى بمثابة أصابع غليظة تحيط بعنقنا وتطبق عليه بعنف وقسوة، الأشياء والأشخاص تخنقنا، ونحاول عبثًا أن نتخلص من قبضة هؤلاء الأشخاص المحيطين بنا، وعندما ندرك أن محاولتنا عقيمة خاصًة أن هؤلاء الأشخاص هم كل من لنا في الحياة، لأنهم أهلنا وأصحابنا وأحبابنا، وأن محاولة التخلص منهم أو الخروج من سجن علاقتنا بهم - وعلاقاتهم بنا - هى محاولة عبثية أشبه بخروج الإنسان من كامل جلده. إننا نحب هؤلاء الأشخاص حبًا ممزوجًا بالضجر، ومن هنا يأتي شعورنا بعدم الرضا.
كثيرًا ما نهرب إلى الداخل، نلجأ إلى الانزواء والانطواء على أنفسنا، ونتجرع الألم والحزن، ونقبع داخل كهف أنفسنا، وننطوي في ركن مظلم من هذا الكهف، نتلوى من الألم، ويتجسد شعورنا بالوحدة والعجز والاغتراب، ونود لو أن في وسعنا أن نعيد تشكيل حياتنا تشكيلاً جديدًا وندرك أن هذا مستحيل؛ لأن هناك أحداثًا كبيرة وخطيرة وقعت وأدت إلى صياغة حياتنا على هذا النحو دون غيره، ومن ثمَّ نود لو أن عجلة الزمن رجعت إلى الوراء، رجعت إلى اللحظات الأولى التي خرجنا فيها إلى نور الحياة. في هذه الحالة كنا سوف نشكل لأنفسنا ولمن حولنا حياة جميلة ورائعة، حياة خالية من الأحداث الكريهة، حياة لا تجعلنا نشعر بالألم الذي نشعر به الآن. ولكن للأسف الشديد لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن.
أين الخلاص إذن؟ . . كيف نبتعد عن حافة الهاوية التي نوشك على السقوط فيها؟ كيف نهرب من الحزن والأسى؟ كيف نفلت من قبضة الضجر، ونوجه حياتنا إلى مرفأ السعادة؟
علامات استفهام كبيرة وكثيرة تحلق كالأرواح المعذبة في أذهاننا بحثًا عن إجابة لها . . وفجأة يبزغ شعاع مضيء خلف السحب الكثيفة القاتمة . . شعاع من نور . . يقول إن الخلاص في الحب.