الحذر.. ثم الحذر
بقلم - محمد سعيد
“ اجتمع الرئيس محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربية،ومناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل مع جيمى كارتر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية فى كامب ديفيد من ٥ إلى ١٧ سبتمبر ١٩٧٨ واتفقوا على الإطار التالى للسلام فى الشرق الأوسط، وهم يدعون أطراف النزاع العربى – الإسرائيلى الأخرى إلى الانضمام إليه» نص الفقرة الأولى من اتفاقيات كامب ديفيد.
قادت مصر الصراع العربى الإسرائيلى وتوجته بنصر أكتوبر ٧٣،وأسست مصر السلام فى الشرق الأوسط بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد التى تعد دستور السلام بين العرب وإسرائيل.فمن يقرأ جيداً يدرك أن هدف مصر هو السلام بالجميع وللجميع. وفى قلب هذا السلام المشكلة الفلسطينية التى نتجت عن المشكلة اليهودية التى نشأت فى قلب عصور الظلام الأوربية فى القرون الوسطى،ومحاولة حلها على أرض العرب بإنشاء المشكلة الإسرائيلية التى كانت وستظل تشكل الأولوية الأولى للأمن القومى المصري.
إن إسرائيل ليست مجرد دولة جوار يمكن تجاهلها أو السيطرة عليها.فإن إسرائيل قوة ديموغرافية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية ونووية،ولها من العلاقات السياسية الدولية مع الدول والمنظمات والشركات متعددة الجنسيات،ما يجعلها تقف أمام القوة العربية نداً ومنافساً بل وتهديداً.
وتدرك مصر مع من تتعامل،فالصراع تتنوع مظاهره وأشكاله فقد يكون صراعاً سياسياً أو اقتصادياً أو مذهبياً أو دعائياً أو تكنولوجياً،وربما قانونياً،وهو ما جعلنا نفكر عام ٢٠٠٩ وعقب إنشاء مركز الدراسات الإسرائيلية بجامعة الزقازيق فى أن يكون المؤتمر السنوى الأول للمركز تحت عنوان مستقبل القضية الفلسطينية،والذى خلصنا منه إلى عدة سيناريوهات منها بطبيعة الحال سيناريو التفاوض،لكن سيناريو آخر قد فرض نفسه على القضية وهو سيناريو اللجوء إلى الأمم المتحدة وتحديداً إلى الجمعية العامة للتصويت على عدم شرعية إسرائيل التى نشأت بالقرار رقم ١٨١ لسنة ١٩٤٧،على اعتبار أن إسرائيل لم تلتزم بالحدود السياسية التى نص عليها القرار،وبالفعل عملت مصر جنباً إلى جنب مع الشعب الفلسطينى وسعت لتوحيد صفوفه ودعمه بالمنظمات الدولية،حتى وصلنا إلى إشكالية التصويت فى الأمم المتحدة على مشروعية الاستيطان الإسرائيلي،وقد ربحت مصر المعركة بوضع شرعية الوجود الإسرائيلى على جدول أعمال المجتمع الدولي.
انزعجت إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة من ذلك السيناريو المصري،فكان الرئيس الجديد لأمريكا دونالد ترامب لاعباً على طاولة تسوية الصراع العربى الإسرائيلي،وعادت اللعبة من جديد.وأصرت مصر على ضرورة حل القضية الفلسطينية،يساندها بعض الدول العربية والإسلامية التى ترى أن المستقبل يحمل مصالح مشتركة،ومن ثم تزيد احتمالات التوصل إلى اتفاق سلام إقليمي،وهو ما أكده هنرى كيسنجر فى مؤتمر هرتزليا ٢٠١٦،ويؤكده كل يوم السلوك السياسى المصرى والعربى تجاه إسرائيل.
لكن الإشكالية التى تواجهنا ونحن نفكر فى مستقبل السلام فى الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل،هى ماذا تريد مصر وإسرائيل والعرب من السلام؟وما هو شكل هذا السلام؟،وكيف سيتم تحقيقه؟،وهل سيصمد هذا السلام أمام التهديدات والمخاطر المستقبلية؟أم سينهار وسنذهب إلى الصراع المسلح من جديد ؟!.
إن تجربة السلام الإسرائيلى مع مصر تجربة مريرة للمجتمع الإسرائيلي،فهم لم يحصلوا على كل ما تمنوه.والمجتمع الإسرائيلى الآن يخضع لسيطرة قوى اليمين الدينى المتطرف ووقوده المستقبلى تزايد حجم اليهود الروس ونفوذهم فى المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية المؤثرة على صناعة قرار السلام،ونحن نرى أفيجدور ليبرمان وزيراً للدفاع ونرى غيره فى الكنيست والأحزاب وقيادات الصف الثانى والثالث،ممن يقفون لمصر بالمرصاد،كذلك نرى القوى الدينية وحاخامات الأرض والدم،الذين ينادون جميعاً بعدم التنازل عن الأراضى العربية المحتلة،ويرغبون فى سلام يحقق أمن إسرائيل أولاً ومصالحها الاقتصادية وربطها بالعرب ومشروعاتهم التنموية المستقبلية والاعتراف بيهودية دولة إسرائيل،قبل أن يكون هناك سلام.
إسرائيل المستقبل معضلة كبرى لأى مفاوض مصرى يريد أن يحقق سلاماً حقيقياً.ما الحل إذن؟ مؤتمر إقليمى للسلام وتوقيع اتفاق إطار يحدد ملفات ومددا زمنية لإنجازها ومن ثم مؤتمر عالمى يوقع الجميع فيه على وثيقة سلام. ربما يكون هذا التصور هو السيناريو المعلن،لكن حقائق الصراع تضع مفخخات سياسية لا حصر لها قادرة على نسف المحاولات،الأمر إذن يزداد تعقيداً.لكن مصر لن تتراجع،يجب وضع إسرائيل أمام حقيقتها وأمام معطيات القوة المصرية والعربية ولا شك الفلسطينية.
فى هذا الإطار الملئ بالمخاطر ستعمل مصر على إدارة عملية المفاوضات،وستواجه متطلبات إسرائيل بتحييد التهديدات العسكرية والأمنية وزيادة التعاون الأمنى والعسكرى لاسيما فى مواجهة قوة إيران العسكرية والمذهبية،ناهيك عن الإرهاب الدولي،كذلك متطلبات التعاون الاقتصادى والاستثماري،وإدارة مصادر الطاقة،والأهم المشاركة فى مشروعات التنمية الإقليمية المدرجة فى خطط التنمية المستدامة ٢٠٣٠ وخاصة مع مصر والسعودية. هل نحن مستعدون للقبول بهذا؟.
وإن قبلنا،كم يستغرق منا الوقت ونحن نتفاوض لحل المشاكل الخلافية؟،وإلى أى مدى يمكن أن نتعاون فى ترسيخ نموذج لسلام قائم على إثبات حسن النية واتخاذ إجراءات بناء ثقة قد تدخلنا فى منظومة سياسية إقليمية مع إسرائيل تضعنا فى النهاية أمام اتحاد الشرق الأوسط العربى الإسرائيلى دون أن نحصل على كامل الأرض العربية أو نتلمس مكاسب سياسية وأمنية حقيقية تكشف لنا نوايا إسرائيل تجاه العرب.
عملية السلام الإقليمى المقرر إدارتها وفقاً لخطة تم وضعها أمامها طريقان إما أن تستمر أو تتوقف.أما الاستمرار فانه يعنى التقدم فى توفيق المصالح والوصول إلى صيغ سياسية ربما تضعنا فى مواجهة مشكلات سياسية إقليمية وداخلية أعقد مما نتصور وفقاً للمخطط.فإيران وجزب الله والقوى الشيعية لهم من القوة على الأرض مما يغريهم بنسف تلك العملية،وداخلياً قد لا يصل للشعوب العربية حقيقة الأهداف السياسية من وراء استمرار التفاوض،كما أن انعكاسات التعاون الاقتصادى والتنموى بين العرب وإسرائيل على الأمن الداخلى للدول العربية من المحتمل أن تؤدى إلى بزوغ قوى رافضة للاستمرار فى بناء النموذج الجديد للسلام.
إن مجرد الرغبة فى مواجهة تهديد حال محدق بالأمن القومى العربى ممثلاً فى إيران والإرهاب،والرغبة فى تحقيق مصالح اقتصادية وتنموية،لا يعنيان بالضرورة الاستمرار فى إدارة عملية سلام لا فائدة منها سوى تأجيل حسم الصراع الأهم والأخطر إلى وقت لا نعلم مداه.
إن إسرائيل دولة بلا حدود سياسية واضحة وليس لها دستور يكشف للعالم من هى إسرائيل؟،كما أن إسرائيل لديها مشكلات داخلية تتعلق بمفهوم المواطنة وخلافات حول قضايا الإجماع الوطنى الإسرائيلى وخاصة قضية السلام مع العرب،وربما يستخدم الداخل الإسرائيلى أدوات سياسية كالانتخابات المبكرة أو الذهاب إلى الحرب مع حزب الله للحيلولة دون اتمام السلام.
وعلى الطرف الآخر،نحن العرب لدينا الكثير من المشكلات الأمنية والاقتصادية التى حتماً ستكون إسرائيل جزءا من حلها فى إطار عملية التفاوض والمساومة،والأهم والأخطر المشكلات الاجتماعية التى ستنجم عن وجود إسرائيل فى الداخل العربى ومدى صمود هذا الداخل فى مواجهة إسرائيل.
إذن الأمر يتطلب منا الحذر ثم الحذر فى إدارة السلام الجديد،كما يتعين علينا إعادة طرح المشكلة الإسرائيلية على الشعوب العربية برؤية جديدة تكشف سلبيات وأخطار إسرائيل أكثر مما ترسخ لإيجابيات ومكاسب السلام.كما أن عملية التفاوض والمساومة ستستغرق وقتاً طويلاً ربما عشر سنوات،لا يكفى فيها حسن النية المتبادلة،وإنما لا مفر من تقديم تنازلات ودفع أثمان لغايات وأهداف ومصالح حيوية لكل الأطراف.
إن السلام الجديد الذى نحن بصدد تأسيسه تتوافر له مسببات العودة إلى الصراع أكثر من مسببات الاستقرار والتنمية،وربما يكون السلام الأخير.