رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


كوبٌ من الشعْرِ المغليِّ ..!!

19-7-2023 | 13:47


محمد الشربيني,

ألم يكن أبو الفوارس "عنترة بن شداد" مبالغاً حينما افتتح معلقته الشهيرة بهذا الشطر (هل غادر الشعراء من متردَّم)؟!! إذْ يعترف بحيرته ؛ حيث يرى سابقيه من الشعراء لم يتركوا موضعاً للقول إلا وخاضوه ؛ و يرى أنه لن يأتي بجديد ، فمن سبقه من الشعراء لم يتركوا أي غرضٍ شعريٍّ إلا وقد تكلموا فيه وصاغوا فيه شعراً ، كان ذلك قبل ألفٍ وخمسمائة عام على الأقل ... فماذا سيقول الشعراء اليوم بعد تلك الرحلة الممتدة للشعر ومواكب الشعراء عبْر تلك القرون ؟!! أيستطيعون الإتيان بالجديد أم يعيشون عالةً على سابقيهم ؟!! أم ينسحبون من المشهد الشعري حيث قَصُر بهم السعْي ولم تستطع قصائدهم أن تواجه بعنادٍ عوامل الفناء في الذاكرة الشعرية العربية ؟!!   

ولإيضاح الفكرة نضرب مثالين لشاعرين شهيرين يعرفهما القاصي والداني : الأول لأبي الطيب المتنبي العظيم الذي كان مجلس سيف الدولة الحمداني يغصُّ به وبغيره من مئات الشعراء الذين حاربوه حسدا من أجل أن يرثوا موضعه ... فهل بعد تلك القرون احتفظ التاريخ الشعري بأسماء حاسدي المتنبي ، لقد بقي المتنبي وفقط وسط كل هؤلاء راسخاً في وجدان الذاكرة الشعرية ، ولم يزل اسم المتنبي.. وشعر المتنبي .. وحياة المتنبي أمرا مثيرا للبحث ليصدق قوله عن قصائده (أنام ملء جفوني عن شواردها**ويسهر الخلْق جرَّاها وتختصم) ، وقد كان لأبي العلاء المعري مجلسٌ أدبي في بغداد، يرتاده المئات من الشعراء ، وكل شاعر يتأبط ديوانه، فهل بعد تلك القرون استطاعت الذاكرة الشعرية أن تحتفظ باسم شاعرٍ واحد ممن كانوا لا يغيبون عن هذا المجلس ..؟!! ، لقد بقي المعري وحده وفقط ، إذْ  لم يكن بمقدور غربال الزمن أن يُسقط شعر المعري، أو اسمه، أو قلقه في دائرة النسيان ، إنما بقي محفورا بعناد في الذاكرة الشعرية العربية !! إن ذلك ما نراه بوضوح في المشهد الشعري الحالي .... فكثيرون هم الشعراء الذين يملأون الساحة ضجيجا ..!! والقليل من درر الشعر التي اختلطت ... وتغطَّتْ بأكوام الخرز الملون ، بل نجد للكثير من الشعراء قصائدَ متميزةً فإذا أردنا استقصاء منتج هذا الشاعر أو ذاك لوجدناه يفتقر إلى مفهوم المشروع الشعري .!! فهو يكتب فاقدا الشغف بتحديث قصيدته وليس مهموماً بذلك..!! بل قد يتلصَّص على تجارب غيره فيعيد استنساخها ظاناً بذلك أنه يبدع ، وهو لا يدري أن ما يفعله أشبه بكوب الشاي الذي يستقطره صاحبه من (ثفل) شاي غيره بعد طول غليان !!!                                                                                                                                     

يذكر الشاعر العراقي "عبد الرزاق عبد الواحد" أن السيَّاب اصطحبه إلي المقهى لتعريف بعض الشعراء به ، فطلبوا منه أن يقرأ شعراً ، يقول عبد الرزاق عبد الواحد إن الجالسين لم يتفاعلوا ، وكان رشيد ياسين أكثرهم خشونةً معي ، ولكن بعد سنواتٍ خمسٍ أصدر عبد الرزاق ديوانين وعرفته الأوساط الشعرية وأصبح صديقاً حميماً لـرشيد ياسين، يقول عبد الرزاق إنهما كانا يتمشَّيان هو ورشيد على جسر الأحرار ببغداد، فقال له رشيد : تذكر يا عبد الرزاق يوم جاء بك السيَّاب إلى المقهى قبل سنوات، وقرأتَ لنا شعراً، بعدها غادرتَ ، كنتُ أقول للجميع إن هذا الشخص عليه أن يشتغل «قصَّاباً» أولى به من كتابة الشعر، لأنه لايصلح أن يكون شاعراً ، فضحك عبد الرزاق وقال لرشيد ياسين  «كنتُ أركض فلا أراكم، أسرعتُ من ركضي فرأيتُ غبار خيولكم، وبعد أشهرٍ بدأتُ أراكم بشكلٍ جيدٍ ، ومرتْ سنتان، فإذا بي أركض معكم في نفس المضمار، أما الآن فإني ألتفتُ خلفي، فلا أرى أحداً منكم» ، يقول عبد الرزاق عبد الواحد :ما إنْ أكملتُ جملتي الأخيرة حتى أمسك بي رشيد ياسين وأقسم أن يرميني من على جسر الأحرار بنهر دجلة، لولا تمسُّكي بالسياج الحديدي للجسر ، إن الشاعر الحقيقي شغوفٌ بحفْر اسمه وسط مواكب العظماء ، وهو الوحيد المعْنُّي والقادر على محاسبة قصائده دونما مجاملة ، والساعي إلى تطوير أدواته ومغادرة مناطق قصائده إلى تخومٍ شديدة البكارة مؤكداً لذاته أن الأفضل لم يُكتب بعْدُ ..!!                                                                                             

لنصل إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي ، وشاعرنا اليوم الجنوب أفريقي "برايتون برايتنباخ"  وقصيدته (القصيدة دليلي) ، إن"برايتون" لا يبخل على الشعر بأرقه أو بتقديم جسمه قربانا للوصول إلى مبتغاه ولا يرضى بدليلٍ في طريقه سوى القصيدة فهيا معاً إلى براح القصيدة والشاعر"برايتون برايتنباخ":

 

القصيدة دليلي
قبائل الشعراء سترشدني إلى الطريق.
بصوت خفيض مثل نسيم الليل
سيأتي بعضهم ليهمس في نومي؛
آخرون سيحرقون عَيْنَيَّ وسيمزقون أحشائي