د. حسين علي ,
لا ريب أن الغش مرض اجتماعي، أو بتعبير أدق هو رذيلة أخلاقية ومخالفة قانونية، وسواء نظرنا إليه على أنه مرض أو رذيلة أو مخالفة، فإن انتشاره بين أفراد المجتمع ـ خاصةً داخل قاعات الامتحان ـ إنما يقتضي نظرة متعمقة إلى الجذور التي أنبتته والعوامل التي ساعدت على انتشاره.
قد تكون محاولة الغش أثناء تأدية الامتحانات الدراسية هى الصورة المألوفة للغش، غير أن هذا لا يعني عدم وجود مظاهر أخرى للغش في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية: فالبائع الذي يحرص على دس أجزاء تآلفة في السلعة المبيعة، والمقاول الذي يغش في مواد البناء، والكاتب أو الإعلامي الذي ينافق ويتملق، والباحث الذي يسطو على جهد غيره وينسبه إلى نفسه، والطبيب الذي يهمل في علاج مرضاه .. وباختصار نقول: إن كل من لا يحسن أداء عمله هو إنسان غشاش.
غير أننا سوف نقتصر هنا على تحليل ظاهرة الغش المنتشرة بين الدارسين في المدارس والجامعات، إذ إن انتشار هذه الظاهرة بين التلاميذ والطلاب لا يكشف عن خلل في العملية التعليمية فحسب، وإنما يؤكد وجود تصدع في البنية الاجتماعية. ولا شك أن النظرة السطحية للأمور هى التي تجعلنا نواجه ظاهرة الغش الدراسي بمزيد من الرقابة الصارمة، حتى لتغدو قاعات الامتحان أشبه بمعسكر اعتقال، ولكن هذه التدابير كلها لم تقض على الغش، بل ساعدت على انتشاره وأدت إلى تفنن الطالبات والطلاب في البحث عن أساليب للغش أذكى وأشد خفاء. وحين تكون الظاهرة متأصلة على هذا النحو، يتعين أن نبحث عن أسبابها في مجمل منظومة القيم الاجتماعية السائدة، لا في الوسط التعليمي وحده. منذ سنوات حدثت ضجة كبرى بسبب ظاهرة «الغش الجماعى»، ورأينا كيف أن الأهالي – منذ سنوات مضت – اقتحموا المدارس أثناء الامتحانات في عدة محافظات لتمكين أبنائهم من الغش، وأن مدارس أخرى أحيطت بمكبرات الصوت لإملاء الإجابة على التلاميذ والطلاب. ولقد تصدت السلطات المسئولة حينئذٍ لهذه الواقعة، كما تناولت وسائل الإعلام هذه الظاهرة بالتحليل والتعليق، ثم هدأت الأمور وكأن شيئًا لم يكن!!.. ومنذ فترة قريبة قامت الدنيا وظننا أنها لن تقعد بسبب تسرب امتحانات شهادة الثانوية العامة، لكنها ما لبثت أن قعدت، بل وراحت في سبات عميق!!
ويبدو أن الانفعال الشديد بالحدث وقت وقوعه، ثم نسيانه بعد فترة قصيرة من الزمن، وكأنه لم يقع أصلاً، هى سمة يتسم بها شعبنا والشعوب العربية عامة، ولما كنا لا نود الخوض في مناقشة طويلة لهذه السمة وتحليلها، بل سنكتفي بالقول إن ظاهرة الغش ما زالت باقية رغم كل التدابير التي تمت والتي تتم. ومن ثمَّ يتحتم أن يظل اهتمامنا قائمًا بهذه الظاهرة ومستمرًا، لا على أنها إحدى الظواهر الجزئية المتعلقة بالعملية التعليمية، وإنما بوصفها ظاهرة اجتماعية عامة. وليس من الصعب أن يقدم المرء أدلة وشواهد تثبت صحة هذه القضية، بل إن الصعوبة ربما كانت تكمن في اختيار أوضح الأمثلة من بين ذلك العدد الهائل من المشكلات التي تثبت كلها ارتباط أحوال التعليم بأوضاع المجتمع.
وعلى أية حال فإن عددًا قليلاً من الأمثلة الدالة، يكفي لكي يثبت أن انتباهنا الراهن إلى عيوب التعليم ينبغي أن يفضي إلى وعي أوسع بالأصول الاقتصادية والاجتماعية التي تولدت عنها هذه العيوب. فنحن مثلاً نعاقب الطالب الغشاش، ولكننا لا نعير التفاتًا إلى الأستاذ الذي يقرر على طلابه كتابًا عقيمًا، فالهم الوحيد لهذا الأستاذ التاجر هو مقدار ما يتحصل عليه من كسب مادي بغض النظر عن الفائدة العلمية التي تعود على الطالب من دراسته لهذا الكتاب أو ذاك، وإذا كان الطالب يتفنن في أساليب الغش، فإن الأستاذ يتفنن أيضًا في أساليب التحايل من أجل ترويج كتبه، فهو يبدل ويغير في فصول كتبه المقررة على الطلاب دون أن يضيف جديدًا، والهدف في النهاية هو الكسب المادي لا المصلحة العلمية.
إذا كان الكتاب رديئًا، والمادة العلمية عقيمة، والأستاذ لا يشرح شيئًا، وهدف الطالب هو الحصول على شهادة أو «رخصة» تمكنه من الالتحاق بعمل أو وظيفة لا وجود لهما، فماذا نتوقع من الطالب سوى الغش إذا أتيحت له الفرصة. إن السعي للقضاء على ظاهرة الغش في ظل هذه الظروف، هو أشبه بسعي الشخص الأعمى للعثور على قطة سوداء في غرفة مظلمة لا وجود لها.
إن ما نقوله ليس دعوةً إلى الغش أو تبريرًا له، بقدر ما هو تعبير عن عقم النهج المتبع في محاربة ومحاصرة ظاهرة الغش في المدارس والجامعات، وكشف الخلل الاجتماعي الذي من ضحاياه الطالب والأستاذ معًا.
تبقى مسألة أخرى تتعلق بظاهرة الغش، وهى غياب القيم الديمقراطية. إذ إن العملية التعليمية في بلادنا تفتقر إلى روح الحرية، فالأستاذ داخل قاعة الدرس يقف وسط جمع من الطلاب الصامتين الخاشعين وكأنه نبي أو إله!! هو يقول والطالب يتلقى أقواله دون جدل أو حوار.
في اعتقادي أنه ليس هناك ما هو أخطر على عقلية الدارس من هذه الطريقة الدكتاتورية في التعليم، التي تجعل الأساتذة أوصياء على عقول الطلاب ووجدانهم. وكأن هؤلاء الطلاب مجرد أجهزة تستقبل كل ما يأتيها دون أن ترسل من عندها شيئًا!! إن هذه الطريقة في التعليم لها أضرار وعواقب وخيمة تهدد مستقبل الأمم قبل الأفراد، لأنها تكرس قيم الخضوع والاستكانة، فهى في صميمها تستند إلى مفهوم الأستاذ «الأوحد»، وبالتالي فهى تروج لفكرة «الزعيم الأوحد».
يرفض بعض الأساتذة فتح باب الحوار والمناقشة داخل قاعة الدرس، بزعم أن هذا الأمر سوف يؤدي إلى الفوضى والاضطراب بين الطلاب، وبالتالي عدم إفادتهم الإفادة العلمية الواجبة. غير أن هذا الزعم هو أبعد ما يكون عن الصواب، لأن الطالب يشعر بمسئولية أكبر عندما يتوافر له قدر أوفر من الحرية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العملية التعليمية عندما تسير من قطب موجب هو الأستاذ وقطب سالب هو الطلاب، إنما تؤدي في نهاية الأمر ـ كما هو الحال عندنا ـ إلى ظاهرة الحفظ الحرفي للمعلومات العلمية، دون محاولة هضم هذه المعلومات أو الاعتماد عليها في حل المشكلات التي يواجهها الإنسان في حياته، ولا شك أن طريقة الحفظ تؤدي إلى غياب الإبداع، كما تفضي بالضرورة إلى ظاهرة الغش.
مما سبق يتضح لنا عقم محاولة معالجة أية ظاهرة اجتماعية بمعزل عن الفهم الصحيح لبقية الأحوال السياسية والاقتصاديـة والاجتماعية والثقافية السائدة.
دكتور/ حسين علي
أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس