على الرغم من الضغوط الأمريكية التي بذلت وقد تصل إلى حد التهديد لإفشال عقد القمة الروسية الأفريقية والتي تتعارض بكل تأكيد مع رغبة الولايات المتحدة في استمرار هيمنتها الاقتصادية والسياسية على القارة الأفريقية حيث يستشعر الأمريكيون أن الصين وروسيا تزيح ملكهم خطوة خطوة مستندين إلى تاريخ لم يشهد استعمار أو استغلالا سوفيتيا كذلك الذي عانت منه القارة الأفريقية ومازالت تعاني إلا أن القمة الروسية قد نجحت في وضع خارطة جديدة لعصر جديد من العلاقات البناءة مع روسيا وبالطبع الصين.
ولعل مشاركة مصر كانت رسالة مهمة وتأكيدا لمسار انتهجته مصر منذ تسع سنوات وهو التخلي عن سياسة التبعية والانخراط في علاقات تقوم على المصلحة الوطنية مع كل دول العالم شرقا وغربا ونبذ الاستقطاب السياسي المدمر الذي يسيطر على الكون.. وجاءت كلمة الرئيس السيسي لتبعث برسائل واضحة في هذا الإطار حيث أكد الرئيس أن مصر كانت دوماً رائدة وسباقة في انتهاج مسار السلام معددا التحديات الضخمة التي تواجه مستقبل دول القارة الأفريقية وتهدد أمنها ومؤكدا أن هذه الدول ذات سيادة وإرادة وعازمة على تحقيق عن التنمية المستدامة وأن الابتعاد عن مساعي الاستقطاب في الصراعات القائمة طوق نجاة لا رفاهية في التخلي عنه كما أنه من الخطأ أن تتوارى احتياجات الدول الناشئة تحت سحب الصراعات الواجب تسويتها.
كما كان الرئيس السيسي محقا في ضرورة أن يكون لأفريقيا صوت في المؤسسات والهياكل الدولية التي تصنع القرار الدولي كمجلس الأمن فلا يمكن تصور أن يبقى الصوت الأفريقي رهين الصراعات بين الدول العظمى وأجنداتها.
ولاشك أن القمة الروسية قد حققت خطوات ملموسة لوضع أساس لخريطة عمل خلال السنوات المقبلة خاصة على صعيدي التعاون في مجال الأمن والأمن الغذائي حيث بعثت روسيا برسالة مهمة أراها محرجة للغرب ومؤسساته التي تتغني بمساندة دول القارة دون أن تقدم لهم شيئا يساعدهم على التمتع بالاستقلال الوطني على العكس من روسيا التي خصصت أكثر من 90 مليون دولار لخفض عبء ديون البلدان الأفريقية وشطبت بالفعل ديونا إجمالية حوالي 23 مليار دولار حيث يسعى الغرب للحفاظ على موقعه المهيمن في إفريقيا ويمارس الضغط باستخدام الدين المالي الذي يدمر الاقتصاد ويزيد الفقر .
لقد حان الوقت لإنهاء إبقاء أفريقيا كمورد للخامات الرئيسية إلى العالم الصناعي الغني ليعيد تقديمها إلينا كسلع منتجة وجاء الوقت لتنهض القارة الأفريقية بمساعدة من الصين وروسيا لتأسيس عصر القيمة المضافة وهو ما يسهم بالطبع في تسريع النمو في أفريقيا حيث لاتزال بعض دول القارة خاضعة لنوع من أدبيات عصور الاستعمار في المجالات الاقتصادية والمعلوماتية والإنسانية وكان من مخرجات القمة الروسية الأفريقية أن تم الاتفاق على إنشاء آلية أمنية روسية أفريقية جديدة دائمة للعمل بشكل مشترك على مكافحة الإرهاب والتطرف وضمان الأمن الغذائي فلا أحد يشكك في أن تطور القارة الأفريقية يعرقله انتشار الفكر المتطرف والجريمة العابرة للقوميات والقرصنة وقد تعهد الرئيس الروسي ذاته بتزويد دول القارة بمجموعة واسعة من الأسلحة والمركبات وبالمجان من أجل تعزيز أمن وسيادة هذه الدول ونتذكر هنا كيف تمكنت مالي من تعزيز قواتها المسلحة وضمان أمنها بفضل المساعدة الروسية ما أسهم بشكل كبير في تقليل عدد الهجمات الإرهابية.
لقد كان التجاوب الروسي كبيرا مع دعوات عدد من القادة الأفارقة إلى البحث عن طرق لحل الأزمة الأوكرانية وأن تلتزم المفاوضات والحوار بالالتزام بميثاق الأمم المتحدة لإنهاء الصراع الروسي الأوكراني والعودة سريعا إلى الوفاء بمقتضيات اتفاقية الحبوب أو الانتقال إلى آلية أخرى لضمان عدم إحداث مزيد من المشكلات برفع أسعار القمح وباقي الحبوب مجدداخاصة أن روسيا أعلنت مرارا استعدادها للمفاوضات ، لكن موسكو لا تستطيع إجبار أوكرانيا الواقعة تحت سيطرة القرار الأمريكي على الدخول في مفاوضات جادة تقصي الرغبات الأمريكية في إبقاء نيران الصراع مشتعلة.
وأظهرت القمة بكل وضوح اهتمام روسيا بأفريقيا المتزايد وعزمها الأكيد على تعزيز وجودها الدبلوماسي في القارة عبر توسيع شبكتها من مراكز العلوم والثقافة الروسية وإعادة فتح السفارات في بلدان القارة كما ستعمل روسيا أيضًا على إلغاء نظام التأشيرات مع الدول الأفريقية وفي نهاية القمة صدر عنها أربعة إعلانات حول منع سباق التسلح في الفضاء وآخر بشأن التعاون في أمن المعلومات وثالث بشأن تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب وأخيرا خطة عمل الشراكة الروسية الأفريقية التي ستنفذ قرارات مجلس الأمن كما وقعت الحكومة الروسية مذكرات تفاهم مع منظمة التنمية الأفريقية والجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا ليتفق الجانبان على عدد من صيغ الحوار الجديدة بين القمم التي ستعقد مرة كل ثلاث سنوات وإنشاء آلية دائمة على أعلى المستويات بالإضافة إلى عقد منتدى برلماني روسي أفريقي سنويًا.
لقد دارت العجلة ومن الصعب على أحد أن يوقف دورانها وباتت الجميع على يقين من خطوات عمل مشتركة مقبلة تؤسس عهدا جديدا للعلاقات القارية والدولية في إطار أوسع وأشمل لعالم متعدد القطبية يقوم على احترام ثقافة الآخر ونبذ فرض الوصاية الذميمة البائدة شاء من شاء وأبى من أبى.