رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


نجيب محفوظ: هذه علاقتى بأسرة جمال عبدالناصر

1-10-2017 | 15:54


من يكتفى بقراءة روايات نجيب محفوظ عن مصر الناصرية سيعتبره أكثر الذين انتقدوا حكم عبد الناصر. وأنه كان فى أبعد مكان عن جمال عبد الناصر، وبالتالى عن أسرته. لكنى عندما اقتربت من نجيب محفوظ وأصبحت جلساتنا أسبوعية. إن لم تكن يومية أحياناً، عرفت منه أنه عرف أسرة جمال عبد الناصر، وأشهد أنه تعاطف كثيراً مع خالد جمال عبد الناصر عندما سافر إلى لندن للعلاج. وكان يطلب منى كل يوم ثلاثاء موعد لقائنا الأسبوعى أن أتصل به فى لندن لكى يطمئن عليه بنفسه.

عندما تزوجت تحية ابنة خالد عبد الناصر من أحمد سمير فرج، نجل اللواء سمير فرج، زميلنا وصديقنا المعروف. وجاءت تحية ومعها زوجها المنتظر إلينا فى “فرح بوت” لتقدم لنجيب محفوظ دعوة فرحها. لم يكن من عادة نجيب محفوظ حضور الأفراح. عادة حافظ عليها طوال حياته وتحسده على هذا التصميم الداخلى.

عندما كنا فى ليلة الفرح أنا وشريك العمر ورفيق الدرب جمال الغيطانى، فوجئنا بالسيدة عطية الله إبراهيم، زوجة نجيب محفوظ موجودة فى الفرح. دهشنا ولم نصدق. تصورنا أنها قد تكون شبيهة لها. ولكن عند الاقتراب منها تأكدنا أنها هى. قالت لنا أن نجيب – هكذا كانت تحب أن تتحدث عنه – أصر على أن تحضر بعد أن ذهب بنفسه إلى خان الخليلى، وصنع صينية من النحاس، حفر عليها اسمى العروسة والعريس.

رافقناها حتى سلمت الصينية إلى أهل العروسين. ولم نتركها يومها إلا أمام بيتها بعد انتهاء السهرة. وعدت إلى بيتى وأنا أتعجب من السلوكيات المحفوظية. فها هى حفيدة جمال عبد الناصر تتزوج فيفعل معها كل ما قام به. بل ويصر على أن تذهب زوجته إلى فرحها. أكثر من هذا ومعها هدية ثمينة، ونحن كلنا ذهبنا “إيد ورا وإيد أدام”.

هذه أسئلتى له المتناثرة عبر جلسات كثيرة. وإجاباته عليها حول معرفته بأسرة جمال عبد الناصر:

تحية عبد الناصر

قلت لى من قبل أنك كنت تعرف السيدة تحية كاظم قرينة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر؟!.

أنا أعرف شقيق المرحومة تحية عبد الناصر منذ الصبا. وهم من أصدقاء العباسية. وكانت معرفتى بشقيقها المرحوم مصطفى كاظم. وأولاد خالتها أصدقائى مع مصطفى. وإن كنت لم أرها. فقد كانت تقيم مع شقيقة لها بعيداً عن العباسية.

إذن فقد كانت لك معرفة بقصة زواج عبد الناصر منها؟!.

يقال إنه كان يجلس عند “واحد كهربائى”.

جمال عبد الناصر؟!.

نعم. وكان هذا الكهربائى محله قبل قهوة عرابى. وليس بعيداً أن أكون قد رأيت عبد الناصر. فى ذلك الوقت. بسبب أنه عندما نشرت صور الضباط الأحرار بعد نجاح ثورة يوليو فإن الوجه الوحيد الذى بدا لى أنه ليس غريباً. هو وجه جمال عبد الناصر. كلهم كانوا وجوهاً غريبة عنى. لم أتعرف عليهم من قبل.

لم تعرف أحدا من الضباط الأحرار أبداً..؟!.

كنت أعرف بعض ضباط الدرجة الثانية منهم. مثل مسعد حمزة. وعبد الله المهدى.

قلت لى من قبل أنك تعرفت على جمال سالم وعبد اللطيف البغدادى؟!

لا. كان يسهران فى شلتى فى العباسية فى بعض الأوقات. وإن كنا لم نلتق أبداً. يوم الخميس الذى كنت أذهب فيه إلى شلة العباسية. كان من الأيام الزحمة وهما لم يكونا يحبان الزحمة. فلا يحضران. وهكذا لم أقابلهما أبداً. كانا يذهبان طول الأسبوع إلا الخميس الذى أذهب أنا فيه.

نعود إلى بيت مصطفى كاظم. هل ذهبت إليه؟!.

كثيراً جداً. كنت ألعب معه فيه “بوكس ونقعد”. ولكنى لم أر المرحومة تحية أبداً. ولا مرة واحدة.

لماذا؟!.

لأنه يظهر أنها كانت تعيش مع أختها التى أصبحت زوجة سيد يوسف. وزير المعارف بعد ذلك. بعد أن حكم رجال يوليو مصر.

ولقاءاتك مع عبد الناصر بعد أن حكم مصر؟!.

هناك لقاءات لا تعتبر لقاءات. مثل “عندما حصلت على وسام الاستحقاق. كانوا يقيمون احتفالاً كبيراً جداً للأوائل. والحاصلين على الأوسمة. ويومها سلمت عليه. وأخذت الوسام من يده”.

دون تبادل أى كلام؟!.

كنا مئات فى ذلك اليوم. فلم يكن هناك أى كلام يذكر. لا من جانبه ولا من جانبى.

واللقاء الثانى؟!.

كان اتحاد أدباء العرب. عمل اجتماعاً هنا فى مصر. واستقبلهم عبد الناصر فى مكان لا أعرفه. أو لا أذكره الآن. وكنت معهم. وكان معنا العقاد. وقد مررت عليه وسلمت. وكان يوسف السباعى يقف بجانبه من أجل أن يقدم له الأدباء. يقول له فلان الفلانى. وبعض المعلومات السريعة “على الطاير” عن الكاتب. وفى هذه المرة أيضاً لم يجر أى حوار أو كلام معه.

إذن لم يجر أى حوار بينك وبينه سوى فى لقاء الأهرام والذى كان طرفاً فيه الأستاذ هيكل؟!.

فى هذا اللقاء قال لى عبد الناصر وهو يصافحنى فى الأهرام. منذ مدة لم أقرأ لك شيئاً. فرد عليه هيكل قائلاً: الأسبوع القادم نقرأ له شيئاً جديداً “يودى فى داهية”. فنظر إلى هيكل وقال له: “توديك انت”. وكان هيكل يقصد رواية “ثرثرة على النيل” التى نشرت بعد ذلك مسلسلة.

منى عبد الناصر

وعلاقتك مع أسرة عبد الناصر بعد هذا؟!

استمرت العلاقة أكثر من طيبة. عندما أجريت لى العملية. سألت علىَّ ابنته.

هدى؟!

لا. الثانية التى تعيش فى لندن. منى المتزوجة من أشرف مروان. ويا سيدى بعد الحادثة التى وقعت لى. زارنى ابنه الكبير خالد. و”اتصورنا سوا”.

ما هو الزمان الذى مر عليك. وتتمنى العودة له مرة أخرى..؟!

مرحلة المد الليبرالى والاستنارة وإعلاء قيمة العقل وتصدر القضية الوطنية لكل ما نقوم به. أقصد الفترة من ١٩١٩ إلى ١٩٥٢. أعتبرها من أجمل الفترات وأحلاها التى مرت بى وبمصر وبهذه المنطقة من العالم. وأتمنى – وهذا مستحيل طبعاً – أن تعود إلىَّ وإلينا مرة أخرى. أو أن نرجع نحن لها.

مع خالد عبد الناصر

كان رجاء النقاش قد أصدر كتابه نجيب محفوظ: أضواء جديدة على حياته وأدبه. والكتاب حوار طويل أجراءه رجاء مع نجيب محفوظ سنة ١٩٨٨. ونشره سنة ١٩٩٨. وفى هذا الكتاب شن نجيب محفوظ هجوماً حاداً على عبد الناصر. صحيح أن نجيب محفوظ سبق أن انتقد عبد الناصر وتجربته فى أعماله الروائية: اللص والكلاب. السمان والخريف. قشتمر. والشحاذ. وصل الانتقاد لذروته فى روايته: الكرنك. التى أسست عندما حولت لفيلم سينمائى ما سمى بالكرنكة كاتجاه عام فى انتقاد عبد الناصر وتجربته.

أضاف نجيب محفوظ لانتقاداته لعبد الناصر فى روايته أن قال لرجاء النقاش فى هذا الكتاب: أن قناة السويس كانت ستعود لمصر سنة ١٩٦٨. فلماذا وقع التأميم الذى جر على مصر العدوان الثلاثى؟! خطورة كلام نجيب محفوظ أن تأميم القناة لم يكن له مبرر. وأن قرار عبد الناصر كان عشوائياً.

ولكن الذى حدث أنه بعد نشر كتاب رجاء النقاش أجرى الصحفى الشاب الهمام سعيد الشحات حواراً مع خالد عبد الناصر. قال فيه خالد رداً على هجوم نجيب محفوظ:

- أنا كابن لجمال عبد الناصر. أقول لك يا أستاذ نجيب. “إنك مهما ذكرت من آراء سلبية فى حق عبد الناصر. فسنبقى على عهدنا فى حبك. وهذا ما غرسه الوالد فينا نحوك. وبعدين أنا وإخواتى كان الوالد مقررا علينا رواياتك تقديراً منه لأدبك العظيم”.

بعد أن قرأنا هذا الكلام لنجيب محفوظ تأثر جداً وسعد به وتمنى لو أنه قابل خالد. نقلنا الرغبة المحفوظية لسعيد الشحات الذى جاء بخالد جمال عبد الناصر ومعهما أمين إسكندر. وكنا مع نجيب محفوظ كاتب هذه السطور وجمال الغيطانى.

عانق نجيب محفوظ خالد عبد الناصر بحب. قال له:

- “أهلا يا خالد يا غالى يا ابن الغالى”.

قال محفوظ لخالد:

- “من ساعة ما قلت إنك سامحتنى وأنا بأقول لنفسى يادى الكسوف”.

خالد قال له:

-” يا أستاذ انت تقول اللى انت عاوزه. إحنا ما عندناش غير نجيب محفوظ واحد. ولما نختلف فى آرائنا السياسية لازم نختلف بأدب”.

سألنا خالد فى الجلسة عن آراء عبد العظيم رمضان وثروت أباظة وأنيس منصور فى جمال عبد الناصر وهم يهاجمونه بشدة. قال أنه لا يقرأ هؤلاء. أين هم من قيمة وقامة نجيب محفوظ؟ وأكد أنه لا يفكر – ولو للحظة – فى الرد على هؤلاء.

اعترف خالد أمام نجيب محفوظ أنه عندما كانت تصدر رواية له. كان عبد الناصر يحضر منها نسخاً ويوزعها عليهم لكى يقرأوها. ثم يناقشهم فيما قرأوه وعندما يتم تحويل إحدى رويات نجيب محفوظ لفيلم سينمائى. كان يأتى بنسخة من الفيلم ويستعير آلة العرض الخاصة بالشئون المعنوية بالقوات المسلحة. ليعرض لهم الفيلم. وليشاهدوه بشكل جماعى. وتعقب المشاهدة مناقشة لآرائهم فى الفيلم.

هذه الحكاية جعلت نجيب محفوظ يضرب كفاً بكف. ويندم ندماً حقيقياً على موقفه السابق من عبد الناصر. الأمانة تدفعنى إلى القول إن الموقف الإنسانى لنجيب محفوظ من عبد الناصر وأسرته تغير. وإن كان الموقف السياسى ظل كما هو ولكن بدون حدة.

عندما سافر خالد جمال عبد الناصر للندن للعلاج لأول مرة. كان نجيب محفوظ يسألنا فى الجلسة كل ثلاثاء عن الحالة الصحية لخالد عبد الناصر. ويطلب منى الاتصال به والاطمئنان عليه. ولولا ظروف أذنه وعدم قدرة نجيب محفوظ على التعامل مع التليفون لكان قد أمسك بالتليفون بنفسه واطمأن عليه.

واقعة أخرى ما زلت أذكرها تؤكد إنسانية الطرفين. وأن البشر يمكن أن يتصادقوا وأن يتعارفوا وأن يتحابوا رغم الخلاف والاختلاف السياسى. فعندما تزوجت تحية ابنة خالد جمال عبد الناصر من أحمد ابن اللواء الدكتور سمير فرج. جاءت مع خطيبها لنا فى العوامة التى كنا نجلس فيها. وقدما دعوة لنجيب محفوظ لحضور حفل زفافهما. قلنا لهما إن الأستاذ لا يحضر أفراحا وهو لم يعقب على كلامنا.

فى الفرح فوجئت بزوجة نجيب محفوظ عطية الله إبراهيم جالسة. ومعها هدية عبارة عن صينية من الفضة مزخرفة من خان الخليلى. تمت صناعتها خصيصاً. مكتوب عليها اسم العروس والعريس. ولأن نجيب محفوظ لا يحضر أفراحا ولا يسهر ليلاً وينام مبكراً ولديه قدرة فريدة على أن يحافظ على تقاليده. فقد طلب من زوجته أن تأتى الفرح وتقدم الهدية لأهل الفرح باسمه.

كان وجود زوجة نجيب محفوظ فى الفرح – التى لا يعرفها أحد – هو قمة الفرح نفسه. وقد تكفلنا – أنا وجمال الغيطانى – بإعادتها لمنزلها ليلاً لأنها جاءت للفرح وحيدة. وكانت تجلس على منضدة وحيدة حتى اكتشفناها فجأة. أعترف ليلتها أننى تصورت أنها تشبه زوجة نجيب محفوظ لاستحالة أن تكون موجودة فى هذا الوقت الليلى وفى هذا الفرح. ولولا أنها هى التى نادت علىَّ ما عرفتها.

ساعتها قلت لها إن العم نجيب يمكن أن يقال عنه علاوة على مزايا كثيرة فيه أنه أبو الأصول.