كتب: أحمد سعدة
ترددت كثيرا فى كتابة هذه القصة المخجلة إليك.. لكنى وبعد تفكير طويل، كتبت.
أنا فتاة من محافظة المنوفية.. تربيت فى أسرة يحكمها أب متسلط وديكتاتور، هو الآمر الناهى، ولا رأى بعد رأيه.. جاف فى معاملاته لأمى ولنا.. لكن كل هذا مقبول، وعالعين والرأس.
ولكن ما لا يمكن تحمله، أن أشاهد أبى فى أوضاع مخلة فى بيتنا.. ومع من؟.. مع بنت أخته التى تقترب من عمر أمى!
نعم يا سيدى، لا أبالغ.
أبى رجل زائغ، ومعتاد على خيانة أمى.. وأمى لا تأخذ موقفا، ولا تستطيع أن تعترض.. وتكتفى بدموعها، وأحيانا نصيبها يكون الضرب والبهدلة والإهانة.
حاولت تجاوز أزمتى النفسية وسط هذه الأوضاع، بالتفوق فى دراستى.. وحلمى كان دائما هو التخلص من سلطة هذا الأب.. ونجحت فى الثانوية العامة بمجموع أهلنى لكلية الهندسة.
وفرحت كثيرا، وفرحتى لم تكن بالكلية، بقدر ما كانت لأنى سأنتقل للإقامة فى المدينة الجامعية، بعيدا عن البيت وبعيدا عن هذا الحيوان-أقصد أبى-.
ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن.. فقد قرر والدى أن يستأجر لى شقة بجوار الجامعة ويسكن فيها معى.. وأدركت فيما بعد أنه على علاقة جديدة بزوجة صديقه، وأن الشقة ستكون لأوقات مزاجه، وليست فقط لإقامتى!
وتألمت كثيرا، وحاولت إقناعه بأنى سأكون فى المدينة الجامعية آمنة وسط زميلاتى، لكن فشلت محاولاتى.
وتعرفت فى بداية مشوارى بالجامعة بطالب فى كلية الطب.. وسمعت للمرة الأولى كلمات من عينة "وحشتينى" .. "أحبك" .. "أنت حياتى".
ونشأت بيننا علاقة حب سريعا ما تطورت.. وقررت الهروب معه من جحيم أبى..
وعشت مع أحضان حبيبى فى شقته المستأجرة.. وبمصروف جيبه الذى يأخذه من والده.
وبالطبع أهملت دراستى، وانقطعت عن الحضور فى الكلية خوفا من أن يعثر علىّ أحد.. وظهرت علىّ ملامح التعب، وعرفت من خلال زوجى أنى أصبحت حاملًا.
وقررنا الذهاب للمأذون والزواج رسميًا قبل أن يتطور الأمر إلى فضيحة علنية.. لكن تفاجأنا بأن زواجنا لن يتم إلا بحضور ولى.
وصار الأمر أكبر منا، ومن قدراتنا.. واتصلنا بأهلى، واشترطنا الزواج فى مقابل العودة.. ووافق أهلى وأهله بعد أن أصبحوا جميعًا أمام أمر واقع، وفضيحة يلزم سترها..
وبعد أن تحولت المشاعر المراهقة، إلى لحم ودم وجنين ينمو فى أحشائى.
وتزوجنا رغما عن إرادة الكل.
لكن اعذرنى، وافهم ظروفى جيدا أرجوك.
وانغمست بعدها فى آلام الحمل والولادة، ونسيت تمامًا حكاية الكلية التى تحتاج إلى مصاريف إضافية لن يقدر عليها زوجى الصغير، الذى لا يزال يعيش حياته كطالب يسهر مع زملائه يلعب البوكر والشايب فى بيتنا حتى الصباح.
وتكرر رسوبه فى كلية الطب.. وبدأت أكتشف ملامح شخصية زوجى التى لا تختلف كثيرا عن شخصية والدى.. واكتشفت أن اللمسات الحانية واللحظات الممتعة، هى مجرد دقائق تنتهى بعد ذروة لقاء جنسى، ولا يبقى منها إلا إحساس بالملل والقرف، وأن الأمر لم يكن يستحق كل هذا التحدى والعناء والمجازفة.
وتحملت أنا كل العذاب كى لا أعود مرة أخرى لبيت أبى الذى لن يتهاون فى إذلالى انتقاما مما فعلته.
ولكى أختصر عليك، فقد عشت ثلاث سنوات من الزواج فى عذاب وضرب وإهانات.
ولا يهم كثيرا التفاصيل.
لأنى فى النهاية أصبحت مطلقة.. وأما لطفلين.. وعمرى لا يتجاوز الأربعة وعشرين عاما.
وعدت لأهلى من جديد مكسورة .. وخائبة .. وذليلة .. ومهانة.
وأخذ أبى قسما على إخوتى وأمى بمقاطعتى ومخاصمتى، وعشنا معهم كحيوانات منبوذة، لا حق لها إلا فى الأكل والشرب، بما يرسله طليقى للطفلين من نفقات.
وشاهدت قذارة أبى من جديد، وهذه المرة مع خالتى.. وأقسم لك أنى لا أبالغ ولا أحاول اكتساب تعاطفك، لأن ما أحكيه هو الحقيقة التى جعلتنى أكفر بكل القيم والمثاليات.
وحاولت الخروج للحياة مرة أخرى، وأقنعتهم باستكمال دراستى فى التعليم المفتوح، بعد أن التحقت بكلية الحقوق التى اختارها لى أبى.. وأصبح يوم الجمعة الذى أسافر فيه لجامعة القاهرة هو المتنفس الوحيد الذى أنتظره كل أسبوع للخروج من دائرتى المغلقة.
أنا كتبت لك فقط لمجرد الإفضاء والفضفضة.. ولا أنتظر أى حلول.
«الــــرد»
وأحيانا تكون الحلول فى مجرد الفضفضة.. حينما تكون لحظة صدق ومراجعة للنفس.
ونحن أمام قصة ميلودرامية، نلتقى فيها بديستوبيا كل أبطالها مذنبون.. والمظلوم الوحيد الذى يستحق الشفقة بجانب طفليك، هو أمك، التى تحملت جحيم زوجها وخياناته، وطيش بنتها واندفاعها فى زواج عبثى، نتيجته كانت طلاق وفضيحة بجلاجل.
لقد تزوجت بكامل إرادتك واختيارك وحريتك، مهما تحدثت عن مبررات ودوافع.. وزواجك لم يكن هروبا فقط كما تتخيلين، بقدر ما كان رغبة بداخلك للفضول والتجربة والانسياق وراء رغبات جنسية مكبوتة.. وزواج كهذا سريعًا ما يسقط بنيانه.
وأنا هنا لا أسعى لجلدك.. فلكل شخص سقطاته فى هذه الحياة.. لكن من الشجاعة أن نتحمل أوزار أخطائنا، بدلا من البحث الدائم عن شماعات.
ولا شك أنك تعيشين مع أب متحلل.. لكن هذا القصور كان يمكن أن يكون دافعا قويا للصمود والكفاح والنجاح والاستقلال بالنفس، بدلًا من الاستسهال والارتماء فى أحضان أول علاقة تقابلك.. والهروب مع طالب تخيلتى أنه الحب الذى ليس بعده ولا قبله.
وزمان كان هروب العشاق فكرة رومانسية لذيذة تروج لها الأفلام، حتى لو هيعيشوا فى أوضة عالسطوح وياكلوا دُقة، ويناموا ويقوموا على حب فى حب، على رأى الست شادية.
لكن الهروب فى واقعنا أمر منبوذ وخيبة بالويبة، يُقدم عليها المراهقون إشباعا لغريزة النصر والتمرد تحت مسمى الحب.. ثم حرب أعصاب لا تنتهى.. والنهاية واحدة دائما، وهى الفشل، ولاشىء غيره.
والزواج ليس فقط تلك الصور المخادعة عن كونه كلمات حب وجنس وقبلات وحياة قردية بحتة.. إنما الزواج أمانة ومسئوليات وعشرة عمر وواجبات.. وتلك أمور لا يفهمها طالب بلا خبرات لسة بياخد المصروف من أبوه، أو عيلة مفعوصة أوحى لها خيالها المراهق بأن تكون دليلة التى سيخطفها شمشون.
وسن المراهقة بشكل عام هى سن الحماسة والاندفاع والمشاعر الغريزية المضطربة.. وهى سن تفتقد غالبا مقدرة الحكم الجيد على المشاعر، والوعى الكافى للاختيار السليم.
وفى هذا العالم الملىء بالكذب يا سيدتى، لا يجب أن نصدق كل ما يقال.. والكلام فى الحب عمال على بطال هو حيلة النصابين والمحتالين، والصمت أحيانا أبلغ من كل كلام.. وكلمات الحب التى أمطرك بها هذا الطالب كان ممكن تريحى نفسك وتسمعيها على راديو إف إم.
الحب يا عزيزتى ليس مجرد كلمات.. لكن الحب أفعال واحترام واهتمام وعمل وسهر وعرق.. وفى المرة القادمة لا تختصرى أحكامك على الرجل فى لطافة لسانه وكلماته.
وما يؤسفنى حقا فى رسالتك، أننى لم أجد فيها لمحة واحدة جادة للتغيير من أوضاعك.. ولم أجد سوى اللا مبالاة وعدم البحث عن حلول، وكأنه إصرار غريب على الحياة وسط هذا المستنقع من الوحل، وانتظار شمشون جديد يخطفك، لكن هذه المرة انتى وعيالك.
إن فشلك فى الحياة للآن، هو المقابل لفشل أهلك فى التربية.. وربما يكون بمثابة عقاب عادل لوالدك، لعله يتعظ.. رغم أنه للآن لم يتعظ.
لكن الفشل أحيانا يكون فرصة لمراجعة النفس، والارتقاء بها، واكتشافها من جديد.
الماضى سيظل يلاحقك ولن يحمل لك سوى العذاب، وسيحجب عنك أى فرصة حقيقية للنجاة.. لذلك فلتنس هذا الماضى، ولتنظرى للأمام.
إن حياتك الآن كمطلقة تحمل هذا الماضى فى مجتمع ضيق، ستسبب لك مشاكل نفسية لا حصر لها.. والمطلقة عادة ما ينتشر حولها الذئاب. ولا حل سوى الهروب!
إن الهروب على ما يبدو هو قدرك فى هذه الحياة، لكنه هذه المرة هروب عاقل.. هروب ذكى .. هروب من أجل التمسك بأمل فى النجاة.
إن البقاء تحت سقف واحد فى هذا البيت المشحون بالمشاكل، ومع أب يعيش حياة خنزيرية متحللة من أى قيم أو أخلاقيات هو اختيار سيئ، سيحكم عليك وعلى أطفالك بالفشل الأبدى فى الحياة.
أنت الآن بحاجة لأن تكونى فتاة صلبة الإرادة.. بحاجة لقيادة نفسك والبدء من جديد.. بحاجة أولا وقبل كل شىء للعمل الجاد الذى يوفر لك الاستقلال فى مسكن خاص وبسيط مع أطفالك.
إن حكايتك درس وعظة للآباء والأمهات، وللأبناء وللبنات.. لعلهم ينتبهون.