د . سارة عبدالخالق محرم
- كان لرفاعة جهد مشكور فى تنظيم وإصلاح تدريس اللغة العربية، فكان يَمتَحِن الشيوخ والفقهاء كل عام ليَتخيَّر من بينهم الأكفاء الصالحين لوظائف التدريس
- يرى الطهطاوى أن التربية ضرورية للإنسان لا يمكنه الاستغناء عنها، وقد ميزه الله عن سائر المخلوقات بالعقل الذى هو وسيلة دفاع وحماية في نفس الوقت
- واجه رفاعة الطهطاوى الكثير من المشاكل بعد تولى الخديوى عباس حكم مصر، فقد أغلق مدرسة الألسن وأوقف أعمال الترجمة، ونفى رفاعة إلى السودان
لم تعد التربية فى الوقت الحاضر اعتباطا وتخبطا، أنها علم وفن، نظر وعمل، اجتهاد وتطبيق، اختصاص وابتكار والمربى ـ أباـ أما أو معلما أو زعيما أو مصلحا اجتماعيا، أصبح بحاجة ماسة للاطلاع على التربية وفكرها التربوى والتعمق في أساليبها ووسائلها. إن بناء المجتمع أو التربية لا يمكن أن يكون لهوا ولعبا، والحق إن بناء المجتمع بناء صحيحا لا يمكن إلا أن يكون على أساس من الماضى والحاضر والمستقبل، الماضى بخصائصه وتراثه، والحاضر بواقعه وآلامه والمستقبل بآماله وأهدافه.
إن حاجة المجتمع للنهوض ومسايرة الركب الحضارى تستدعى مشاركة كل النخب المثقفة فى المجتمع بغض النظر عن مشاربها وتوجهاتها. ومن بين الذين أسهموا في الرقى الفكر لمجتمعهم والأمة العربية الإسلامية تذكر رفاعة الطهطاوى أحد رواد الإصلاح فى القرن التاسع عشر، وكما قال عنه محمد عمارة فى كتابه الأعمال الكاملة أنه أول نافذة يطل منها الشرق على الحضارة الغربية.
سوف يتطرق هذا المقال إلى دور الفكر التربوى ىي بعث النهضة العربية، وكان رفاعة الطهطاوى من أبرز رجال الإصلاح الذين اهتموا بالتربية و اعتبروها مقوما من مقومات النهضة العربية، وأكد الطهطاوي أن التربية ضرورية للإنسان لا يمكنه الاستغناء عنها، لأنها ببساطة طريق التقدم والتمدن، فالأمة التى ترتقى برجالها ونسائها تمضى فى طريق التقدم على أساس سليم. كما يجب أن لا تقتصر التربية على الذكور دون الإناث، ويجب أن يعمم التعليم في المرحلة الأولى على كافة أفراد المجتمع غنيهم وفقيرهم، لا يقصى الطهطاوى المرأة من التعليم، متأثرا بالمجتمع الفرنساوى دافع عن حريتها الاجتماعية جنبا إلى جنب مع الرجل، لكن في حدود شرعيتها، وهذا ما جعله يجزم بأن أساس التمدن في سائر الأقطار هو العدل والإنصاف. يشير كذلك أن من أسباب التقدم هو الاهتمام بالعلم والعلماء، لأنه ينشأ عنه سعادة المملكة، فالواجب على الحاكم مكافأة أهل النبل وأرباب التصنيف و التأليف من أهل التعليم والتفهيم، ويضيف كذلك أن التربية ترتبط بالتمدن ارتباطا جدليا فهي من جهة تؤهل الأمة للوصول الى التقدم، ومن جهة أخرى فالتعليم ركن من أركان التمدن، لذلك تندرج التربية فى مسار الفكر الوطني وتصبح أساس الانتفاع بأبناء الوطن حسب رأى الطهطاوى.
اهتم الطهطاوى بقضية التربية والتعليم اهتماما عمليا ونظريا، فقد درس بالأزهر ودرس به قبل البعثة علوم الأزهر بالطريقة المتعارف عليها آنذاك، وكان احتكاكه بنظام تربوى وتعليمى مغاير فى فرنسا أثناء البعثة نقطة البداية فى تعرفه على مناهج ونظريات جديدة فى التربية وكان قبل رحلته إلى فرنسا قد اشتغل بالتدريس فى الفترة 1822-1824 وذلك بعد أن تخرج من الأزهر سنة 1821، وعمل واعظا بالجيش في الفترة ما بين 1824 إلى 1826.
بعد عودته من باريس تولى وظائف التدريس في معاهد علمية مختلفة بدأ كمترجم بمدرسة الطب. ثم انتقل عام1833 إلى مدرسة الطوبجية، كانت النظرية التربوية التي عرفها فى باريس هى ثمرة مطالعته الجادة لكبار فلاسفة التربية أمثال روسو وفينيلون، تحدث الطهطاوى عن التربية فى مؤلفاته. "مناهج الألباب" وتوسع فى الحديث عن الفكر التربوى فى كتاب "المرشد الأمين".
فكره التربوى
يشير الطهطاوى إلى ( إن الأمة التى تقوم فيها التربية، بحسب مقتضيات أحوالها، يتقدم فيها أيضا التقدم والتمدن، على وجه تكون أهلا للحصول على حريتها، بخلاف الأمة القاصرة التربية، فإن تمدنها يتأخر بقدر تأخر تربيتها، فإن التربية العمومية هى الحصول على تحسين عوائد العلوم فى جميع المجالات ومعرفة آدابها علما وعملا، والتأدب بآداب البلاد، فالتربية هى أساس الانتفاع بأبناء الوطن...).
إذن هدف التربية ووسيلتها عنده تتلخص فى " تنمية المولود الحسية من ابتداء ولادته إلى بلوغه حد الكبر، وتنمية روحه بالمعارف الدينية والمعايشة"، كما إن مفهومها عنده يتلخص في قوله ( التربية هي تنمية الأعضاء الحسية والعقلية وطريقة تهذيب النوع البشرى ذكرا أو أنثى طبقا لأصول معلومة يستفيد منها الصبى هيئة ثابتة يتبعها ويتخذها عادة تصير له دأبا وشأنا، ملكة فالتربية حينئذ هى فن تشكيل العقول البشرية وتكليفها بكيفية حسنة مقبولة).
يرى رفاعة الطهطاوى أن التربية ضرورية للإنسان لا يمكنه الاستغناء عنها، وقد ميزه الله سبحانه وتعالى عن سائر المخلوقات بالعقل الذى هو وسيلة دفاع وحماية فى نفس الوقت.
ويؤكد الطهطاوى على ضرورة التربية للمجتمع، فالأمة التى ترتقى برجالها ونسائها تمضى فى طريق التقدم على أساس سليم، وما الحضارة اليونانية إلا مثال واضح على دور التربية فى الارتقاء بالمجتمع يقول الطهطاوى "إن السبب الأعظم فة كثرة فحول الرجال وكبراء الأبطال في بلاد اليونان في أيام جاهليتهم إنما هو كان بعد إحسانهم تربية الأطفال" إن الاهتمام بتربية النشء هى خاصية الأمم المتمدنة، هناك من يرى أن التربية هى "تنمية أعضاء المولود الحسية من ابتداء ولادته إلى بلوغه حد الكبر، وتنمية روحه بالمعارف الدينية والمعاشية" هذا المفهوم يقسم التربية إلى قسمين حسية وهي تربية الجسد ومعنوية وهي تربية الروح.
إصلاحات رفاعة فى التعليم والمجتمع
وقد كان لرفاعة جهد مشكور فى تنظيم تدريس اللغة العربية ومحاولات طيِّبةٌ لإصلاح هذا التدريس، فكان يَمتَحِن الشيوخ والفقهاء كل عام ليَتخيَّر من بينهم الأكفاء الصالحين لوظائف التدريس. وكان يزور المدارس للتفتيش على هؤلاء المُدرسين واختبار كفايتهم، ثم يترك لهم قبل مُغادرة المدرسة التقارير الصالحة وفيها بيانٌ إرشادى لخير الوسائل المُمكِن اتباعها لتدريس اللغة العربية مع مراعاة الظروف المُختلفة كنوع المدرسة وسن التلاميذ ومدَّة الدرس … إلخ.
ولاحظ رِفاعة بعد هذه الجولات التفتيشية أن الكتب التي بين أيدي التلاميذ كُتُب غير صالحة، فبدأ يضع بنفسه كُتبًا جديدة هى الخطوة الأولى بحقٍّ فى سبيل النهضة بالكتب المدرسية فى تاريخنا التعليمى. وكان رِفاعة يَسترشِد فى عمله الجديد بما رأى وما درَس من كُتُبٍ فرنسية أثناء تلقِّيه العلم فى فرنسا. بدأ رِفاعة بكُتبِ النحوِ فلاحظ أن الكتب الأزهرية القديمة التى يَستعمِلها التلاميذ كُتُب عقيمة لم تعُد تصلح للعصر الحديث، فوضع كتابًا جديدًا أسماه «التحفة المكتبية في القواعد والأحكام والأصول النحوية بطريقة مُرضية»، حاول فيه تبسيط القواعد النحوية وجعله فى شكل جداول مُختلفة ليسهُل على الطلبة فهمُها وحفظُها.
ولاحظ رِفاعة أيضًا أنه لا يُوجَد بين أيدى التلاميذ كُتُب للمُطالعة مع فائدتها التي لا تُنكَر في تزويد الأولاد بالمعارف العامة، فوضع كتابه الطريف «مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية» ليسد به هذا النقص، وحاول فيه لأول مرة أن يبُثَّ في نفوس النشء معنى الوطن والوطنية، فهو يتحدَّث فيه حديثًا مُفصَّلًا عن «المنافع العامة» وينقل في حديثه الشواهد من الشرق والغرب، تُسعفه في ذلك ثقافته الإسلامية الفرنسية، ويختم الكتاب بفصلٍ عما يجب « للوطن الشريف على أبنائه من الأمور المُستحسَنة ». ويُعتبَر رِفاعة بحقٍّ أول داعية لتعليم المرأة فى مصر بل فى الشرق كله؛ فقد ذكر يعقوب أرتين باشا فى كتابه عن التعليم العام فى مصر أن لجنة تنظيم التعليم في سنة ١٨٣٦م (أى فى عهد محمد على باشا) اقترحت العمل لتعليم البنات فى مصر، وقد كان رِفاعة عضوًا من أعضاء تلك اللجنة. غير أن هذا الاقتراح لم يُنفَّذ لأن المُجتمع المصرى لم يكن على استعدادٍ وقتذاك لقبول هذه الفكرة، واكتُفِى بإنشاء مدرسة المُولِّدات والقابِلات. وفي عهد إسماعيل تجدَّدت الفكرة، وكان رِفاعة من أكبر الداعين لها، ففي سنة ١٨٧٣م أُنشئت أول مدرسة لتعليم البنات فى مصر، أنشأتها «جشم آفت هانم» إحدى زوجات الخديوى إِسماعيل. وقبل إنشاء المدرسة بسنة واحدة أخرج رِفاعة كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين»، وفيه يدعو للفكرة ويُمهِّد لظهورها فيقول: «ينبغر صرف الهمة فى تعليم البنات والصبيان معًا لحُسن معاشرة الأزواج، فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك، فإن هذا مما يَزيدهنَّ أدبًا وعقلًا، ويَجعلهن بالمعارف أهلًا، ويُصلِحهنَّ به لمشاركة الرجال فى الكلام والرأر، فيعظُمنَ فى قلوبهم، ويعظم مقامُهنَّ......إلخ »
افتتح سنة 1251هـ ـ 1835م مدرسة الترجمة، التى صارت فيما بعد مدرسة الألسن، وعُين مديرًا لها إلي جانب عمله مدرسًا بها، وفي هذه الفترة تجلى المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوي ووضع الأساس لحركة النهضة، وعمل علي ترجمة متون الفلسفة والتاريخ الغربي ونصوص العلم الأوروبى المتقدم، كما سعى لجمع الآثار المصرية القديمة ومنعها من التهريب والضياع. وأنشأ أقسامًا متخصصة لترجمة الرياضيات والطبيعيات والإنسانيات، كما أنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد، ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية.
كما استصدر قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية، وإصدار جريدة "الوقائع المصرية" بالعربية بدلاً من التركية.
وواجه رفاعة الطهطاوى الكثير من المشاكل بعد تولى الخديوى عباس حكم مصر، فقد أغلق مدرسة الألسن وأوقف أعمال الترجمة، وقصر توزيع جريدة الوقائع علي كبار رجال الدولة من الأتراك، ونفي رفاعة إلى السودان سنة 1267هـ ـ 1850م، لكنه واصل مشروعه في منفاه وترجم هناك مسرحية "تليماك لفنلون"، ثم عاد إلي الوطن بعد موت الخديوى عباس وولاية سعيد باشا، وأنشأ مكاتب محو الأمية لنشر العلم بين الناس وعاود عمله في الترجمة، ودفع مطبعة بولاق لنشر أمهات كتب التراث العربى، وقضي فترة حافلة أخرى من العمل الجامع بين الأصالة والمعاصرة حتي انتكس سعيد فأغلق المدارس وفصل رفاعة عن عمله سنة 1278هـ ـ 1861م. وفى سنة 1280هـ ـ 1863م تولى الخديوى إسماعيل الحكم، وعاد رفاعة للعمل وأصدر أول مجلة ثقافية فى تاريخ مصر "روضة المدارس".
يقول رفاعة الطهطاوى " إن دراسة العلم فى حد ذاتها، أفضل ما يشتغل به الإنسان وأحلى ما يصرف فيه أوقات حياته، وأفضل لذات الدنيا .... وأن الفنون الأدبية المسماة بعلوم العربية، كلها آلة للعلوم الحقيقية، عقلية أو نقلية، فالمعارف الأدبية والعلوم الحقيقية متعلق بعضها ببعض، وكمال ما بينهما من الروابط والمناسبات، ولأن كلا منهما متوقف على الآخر ...." ، كما يتحدث الطهطاوى عن لذة العلم والتعلم والتى لايشعر بها إلا من خاض غمار البحث والتبصر، كما يشير كذلك إلى الرابطة القوية بين العلوم فبعضها يكمل البعض الآخرة، ويضرب الطهطاوى مثال الأمم السابقة من اليونان والرومانيين وبلاد الإسلام واهتمامهم بالعلوم الحقيقية والتي حققت لهم التمدن. ويشير كذلك إلى أن أعظم الوسائل والوسائط التي تعين على تقدم العلوم والفنون في مملكة من الممالك هى تشويق صاحب المملكة للأدباء والعلماء بالمكافأة اللائقة والتحف الملائمة، لأنه ينتج من التشويق المنافسة والمقارنة وينشأ عن ذلك سعادة المملكة، فالحاكم الذي يعشق علو الشأن، يتخذ قواعد حكمه وضوابط ملكه تشريف أهل الفضل، ومكافأة أهل النبل، سواء كانوا من أرباب التأليف والتصنيف، أو من أهل التعليم والتفهيم، أو من أصحاب الاختراع والإبداع، حتى يشهرهم بالشهرة الممدوحة، ليبقى ذكرهم وآثار مجدهم معلومة التاريخ، لمن يأتى من بعدهم، فلا تزال فى أوطانه أشجار المعارف مثمرة، وأغصان اللطائف مزهرة، وتكثر المسابقة والمنافسة، وتستمر الدراسة والممارسة، وتفيض على المملكة بحار المعارف والعوارف ...