رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الأفكار الاقتصادية في كتابات الطهطاوي

11-8-2023 | 11:03


د. عاصم الدسوقى

د. عاصم الدسوقى

 

  • لم يقبل الطهطاوى بسهولة كل ما شاهده وما قرأه في فرنسا، وإنما كان يخضع كل ما يقرأ لمقياس ثقافته الدينية فى الحرام والحلال بحثا عن نقطة للتوازن يرتكز عليها  
  • عرف الطهطاوى قدرا من أصول مسرح الأحوال السياسية والاقتصادية من خلال الكتب التى وقعت بين يديه بعد أن أتقن الفرنسية
  • إذا كان الهواء والماء والكلأ والنار أصل طبيعى من أصول الحياة أوجدها الله ولكل إنسان أن يتمتع بها فلا يجوز كما ينتهى الطهطاوى لأحد منع الإفادة منها
  • لاحظ الطهطاوى من متابعته لموضوع العمل وقيمة العمل ورأس المال بالتطبيق على الزراعة، أنه فى حالة تملك الأراضى يحدث انفصال بين رأس المال والعمل
  • يربط الطهطاوى التقدم فى فروع الزراعة والصناعة والتجارة في بلد ما بقدر طبيعة الأرض والناس. وعناصره ثلاثة هى: المادة الخام، والتصنيع، والأجر
  • لاحظ الطهطاوى أن البنوك وأعمال الصرافة أعظم "التجارات" وأشهرها في باريس وهي نوعان : بنوك الدولة، وبيوت الصرافة الحرة
  • الطهطاوى هو الذى عقد الاتصال الفكرى مع الشاطىء الآخر للبحر المتوسط فى جانب لم تكن له سوق معرفية فى مصر آنذاك ألا وهو الفكر الاقتصادى

 اشتهر رفاعة الطهطاوى فى المحيط الثقافى العام وبين دارسيه بكتاباته فى التربية والأخلاق والتعليم والفكر السياسى والإصلاح الاجتماعى وفنون الأدب، وبدوره فى ترجمة المعارف والعلوم من الكتب الفرنسية إلى اللغة العربية، وبفضله الكبير فى تأسيس مدرسة الألسن بعد عودته من باريس حيث قام تلاميذه المباشرون بمهمة الترجمة عن الغرب الأوربى فكانت بداية انعقاد الصلات الثقافية بين المثقفين المصريين وبين أوربا التي تدعمت أواصرها فيما بعد بفضل البعثات الدراسية مع إنشاء الجامعة المصرية (1908). وأصبح رفاعة عند الأجيال التالية دون أن يسعى، رائدا للتنوير، والجد الأكبر لدعاة التنوير المصريين المعاصرين الذين وجدوا في تراثه خير سياج يحتمون به إزاء أولئك الذين يعملون على إيقاف عجلة الحياة وسحبها إلى الوراء بدعوى الحفاظ على الأصول والثوابت ويحطمون ما أنجزه المصريون من إسهامات في التقدم الفكرى والحضارة والمدنية على مدى قرن ونصف من الزمان.

    والحقيقة أن الالتفات إلى الأفكار الاقتصادية التي أوردها الطهطاوى في كتاباته كان قليلا عند دارسيه، وهامشيا عند الذين التفتوا إليها، وبعيدا عن سياقه التاريخى عند الذين وظفوا مقتطفاته لخدمة ظروف سياسية معينة. وربما يرجع هذا فيما يرجع إلى أن هذه الأفكار وردت متناثرة فى أكثر من عمل واختلطت فيها النقول والمقتبسات بالرأى، أو ربما لأنها وردت فى كتب تحمل عناوين أدبية عامة تشتمل على عدة معارف أكثر منها عناوين مباشرة فى الاقتصاد، وربما لأن المعارف الأخرى في كتاباته المتعددة طغت على هذه الزاوية الخاصة بالاقتصاد وتنظيمه ومجالاته وأحكامه.

     على أنه يمكن استخلاص الأفكار الاقتصادية المتناثرة فى كتابات الطهطاوى والتعرف على رأيه بشأنها كما وردت في ثلاثة من أعماله الرئيسية وهى على التوالي حسب تاريخ نشرها: تخليص الإبريز في تلخيص باريز (1834)، ومناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية (1870)، والمرشد الأمين للبنات والبنين (1872)، فضلا عن مقدمة الترجمة العربية لكتاب جورج برنار ديبنجDepping, George Bernard : Apercu historiq sur les moeurset coutumes des nations,Paris 1826 بعنوان "قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر" وتعليقه عليه (ترجمه أثناء بعثته فى 1830 بتشجيع من مسيو جومار Jomard المشرف التعليمى للبعثة وطبع في 1833).

    وأهم عملين في موضوعنا نشرا في زمن حكم الخديو إسماعيل وهما "مناهج الألباب" و "المرشد الأمين"  ولكن لا نعرف على وجه اليقين تاريخ كتابة كل منهما، بل إن كتاب "حلية الزمن بمناقب خادم الوطن رفاعة بك رافع الطهطاوى" الذي كتبه السيد صالح مجدى تلميذ الطهطاوى يخلو من أي إشارة لهذه النقطة. لكن المحقق أن الطهطاوي كتبهما بعد وفاة محمد علي إذ كثيرا ما يشير تعليقا على بعض الأمور إلى أن هذا الأمر مثلا كان زمن المرحوم محمد على. وهناك شواهد فى "مناهج الألباب" تؤكد أن الكتاب كتب أيام إسماعيل حين يشير إلى بعض أشكال استغلال الأرض الزراعية بين الملاك والفلاحين من مزارعة ومشاطرة وغيرهما كما سوف نرى.

    على كل حال .. عندما وصل الطهطاوى إلى باريس إماما للبعثة الدراسية 1826-1831 (البعثة الثالثة فى تاريخ بعثات محمد على لكنها الأكبر عددا والأشهر بين البعثات) بدأ يطل على مجتمع مختلف كل الاختلاف ليس فقط فى التقاليد والعادات والأعراف، لكن أيضا فى الأوضاع السياسية والإدارية والأحوال الاقتصادية، فلقد غادر مصر (1826) وأمورها في قبضة محمد على سياسيا واقتصاديا ، وعندما جاء إلى القاهرة (1816) من بلدته طهطا للدراسة بالجامع الأزهر كان محمد على قد أمسك بزمام السلطة تماما بعد أن تخلص من منافسيه. والحال كذلك لم يعرف رفاعة من صيغة الحكم إلا ما رأى فى مصر، وإلا ما قرأ في علوم الأزهر من حكم أولى الأمر من الخلفاء وأمراء المؤمنين وولاتهم ووجوب طاعتهم.

    أما في باريس فكانت صيغة الحكم الأوتوقراطى قبل الثورة الفرنسية قد اهتزت، وكانت البلاد قد شهدت زمن الثورة وحكم نابليون بونابرت (1789-1814) تغييرات أساسية فى طبيعة الحكم والسياسة بحيث إنه عندما عادت أسرة البوربون إلى حكم فرنسا مرة أخرى بعد القضاء على نابليون كانت مياه كثيرة قد جرت تحت الجسر. فأوتوقراطية الحكم قد أصابها العطب، والدولة بدأت تتخلى عن دورها في الاقتصاد بعد سيطرة دامت طويلا منذ القرن السادس عشر فيما كان يعرف بالسياسة التجارية (المركنتيلية mercantilism) ، والبورجوازية (الطبقة الاجتماعية الجديدة) تسيطر على السوق الاقتصادية وفى حوزتها رأس المال المستثمر فى التجارة والصناعات الجديدة وتهيمن على الآلة التشريعية ، كما كانت أصداء شعار الثورة الفرنسية "الحرية والإخاء والمساواة " ما تزال تصك الآذان.

    ذلك كان مسرح الأحوال السياسية والاقتصادية الذي أطل عليه الطهطاوى وتعامل معه، وعرف قدرا من أصوله من خلال الكتب التي وقعت بين يديه بعد أن أتقن الفرنسية وكان قد بدأ يتعلمها منذ نزل على شاطىء مرسيليا فى طريقه إلى باريس. ولا بد أنه اختزن فى عقله كل ما شاهده من أحوال وما قرأه إلى أن خطه بيده على الورق فكانت تلك المخطوطات الهائلة. 

    وآنذاك كانت دعائم الفكر الاقتصادى فى أوربا والسياسات الاقتصادية تستند إلى كتابات كل من جماعة الفزيوقراط Physiocrats (1756-1778) وأشهرهم لويس كينيه  Quesnay  التي نقدوا فيها دور الدولة فى الاقتصاد ومناداتهم بتخليص النشاط الاقتصادي من إشراف الحكومة، وإلى كتاب آدم سميث Smith "ثروة الأمم Wealth of Nations" (1776) الذى تأثر بكتابات الفزيوقراط عقب زيارته لباريس وما جاء فيه من أن العمل هو أساس الإنتاج والثروة العامة وليس ملكية وسائل الإنتاج ذاتها، وكذا إلى ما كتبه سان سيمون فى 1825 في مؤلفه "أراء دينية وفلسفية وصناعية" عن الفصل بين العمل العقلى والعمل اليدوى، ومقالاته فى مجلة "الصناعة" حول أن الصناعة تعني العمل المنتج فى كافة صوره، وأن الإنتاج هو كل العمل اليدوى والإدارى والتنفيذى، وكذا التجارى والصناعى والزراعى، وأن عدم الإنتاج هو الملكية دون القيام بالعمل. وبالتالي فإن الأرستقراطيين الذين يعيشون على ريع عقاراتهم، والبورجوازيين أصحاب الأموال الذين يعيشون على امتصاص دماء الأجراء هم غير منتجين، إلا إذا أدار كل منهم عمله أو ملكيته بنفسه. يضاف إلى ذلك آخر مؤلفات سان سيمون "المسيحية الجديدة" الذى دعا فيه إلى تحقيق إخاء حقيقى بين طبقة العلماء وطبقة العمال عن طريق تكوين جمعية تسعى إلى تحسين حال أكثر طبقات المجتمع عددا وأشدها حرمانا".

    ومن الواضح أن الطهطاوى تأثر أكثر ما تأثر بكتابات سان سيمون الذي كان قد توفي قبل عام من وصوله باريس (1825). وفى كل الأحوال فإن الطهطاوى لم يقبل بسهولة كل ما شاهده وما قرأه، وإنما كان يخضع كل ما يقرأ لمقياس ثقافته الدينية في الحرام والحلال بحثا عن نقطة للتوازن يرتكز عليها، ويكتب بعقل ناقد وواع ولم يكن مجرد مترجم وناقل، ولهذا نراه في مقدمة كتابه "مناهج الألباب" يقول "اقتطفت معلومات الكتاب من ثمار الكتب العربية اليانعة واجتنيتها من مؤلفات الفرنساوية النافعة مع ما سنح بالبال وأقبل على الخاطر وعززها بالآيات البينات".

   لقد كتب الطهطاوى فى عناصر الاقتصاد والاقتصاد السياسى دون أن يذكر هذين العلمين بالاسم، فكتب عن رأس المال، والعمل وقوة العمل، والإنتاج، والقيمة وفائض القيمة، والندرة، والبنوك والتأمين والمالية والنقود، والحرية الاقتصادية، وتأثير الحالة الاقتصادية على تطور المجتمع.

العمل

    ففيما يتعلق بالعمل .. كتب يقول "إنه القوة الأولية في إبراز المنافع الأهلية" ، وضرب مثلا لذلك من مجال الزراعة (الفلاحة) حيث انتهى إلى أنه ليس صحيحا أن الأرض وحدها هى "منبع الغنى والثروة وأساس الخير والرزق، وأن العمل (يسميه الشغل) مجرد آلة وواسطة لا قيمة له إلا بتطبيقه على الفلاحة، بل إن الشغل هو أساس الغنى والسعادة ومنبع الأموال المستفادة، وأنه هو الأصل الأول للملة والأمة". ويشرح ذلك قائلا "إن الناس يكتسبون سعادتهم باستخراج ما يحتاجون إليه لمنفعتهم من الأرض أو لراحة المعيشة، فالفضل إذن للعمل .. وأما فضل الأرض (الملكية) فهو ثانوى وتابع، وهذا ما يدركه أهل الفلاحة، ويستدلون على ذلك بأنه لا يمكن إيجاد الخصب في الأرض إلا بدوام الشغل واستمرار العمل، وإلا لبقيت مجدبة إذا انقطع الشغل عنها".

قيمة العمل ..

 ثم يشرح أكثر كيف يعطي العمل / الشغل قيمة لجميع الأشياء وبدونه تصبح لا قيمة لها حتى في الأشياء المباحة التي لا تباع ولا تشترى مثل الهواء والماء (واضح هنا أنه يقصد  ماء الرى من نهر النيل الذي يستخدمه الفلاح فى الزراعة دون مقابل مادى وقبل أن تصبح مياه الشرب فيما بعد مقابل مال معلوم). يقول الطهطاوى: إن الماء والهواء أصلان لمنافع حياة الإنسان اقتضت الحكمة الإلهية الإكثار منهما في جميع المحال وأبيح لكل إنسان التمتع بهما. ولكن العمل والشغل يزيد من منفعتهما النسبية، بمعنى ان العمل الذي يبذل لجلبهما عند الحاجة يزيد فى المنفعة النسبية لكل منهما بقدر العمل الذي يبذل. والمثال الذي يعطيه لذلك: أن الظمآن إذا احتاج إلى من يجلب له الماء في إناء كان الماء المجلوب لسد العطش مقوما عند جلبه إليه دون قيمته في النهر .. و"كوز" الماء قد يعطى لمن يطلبه مجانا، وقد يعطى بثمن على قدر العمل، وقد يكون الثمن "جسيما" كما وقع في غزوة الفرنساوية بمصر حين دفع أحد ضباط الفرنسيين "في كوز الماء مائة فرنك يعنى أربعمائة قرشا".

    وعلى هذا -كما يشرح الطهطاوى- فإن "ما ينفقه الإنسان لتحصيل المباح من الماء والهواء إنما هو قيمة العمل وأجرة الخدمة. وأنه "فى مقابلة الأمر والنهى، والسلب والإيجاب، بحسب منافع هذه الأشياء ومضارها فهذا هو الذى يعد ملكا للإنسان وثروة له باستحواذه على الماء والهواء، وفيه ترويج للعقارات المشتملة على منافع هذين العنصرين، ومثلهما (أى الماء والهواء) النار والكلأ المباح لقوله عليه الصلاة والسلام: الناس شركاء في ثلاثة الماء والكلأ والنار".

    فإذا كان الهواء والماء والكلأ والنار أصل طبيعى من أصول الحياة أوجدها الله ولكل إنسان أن يتمتع بها ويفيد منها حسب مقتضى الحال فلا يجوز كما ينتهي الطهطاوى "لأحد تحجرها" (أي الحجر عليها ومنع الإفادة منها)، " ولا للإمام إقطاعها " أي يمنحها الحاكم إقطاعا أو امتيازا concession   لأحد يتحكم فيها.

    ويعطي مثالا ليوضح المقصود بقيمة العمل في الناتج النهائى وأفضليته عن الملكية بقوله د: لو زرعنا أرضا خصبة، وميزنا ما يمكن أن ينسب من إيرادها للعمل وما ينسب للخصوبة منه، وفرزنا كلا على حده، وجدنا أن نسبة العمل أقوى من نسبة الخصوبة. والدليل على ذلك كما لاحظ أن الأمة المتقدمة فى العمل والكد باستخدام الأدوات والآلات بلغت مبلغا راقيا من الثروة بخلاف الأمم ذات الأراضى الخصبة الواسعة التي لا يعمل أهلها أو أن حركتهم فى العمل "فاترة"، فظلت فى "دائرة الفاقة والاحتياج". ثم يقول إن المقارنة بين أغلب بلدان أوربا وبلاد أفريقيا يظهر حقيقة ذلك".

    ويقول أيضا إن الذى يضع يده على أرض "موات" أى غير مزروعة، ويجتهد فى زراعتها يجعل لها قيمة في حد ذاتها زائدة عن قيمة العمل ويصبح مالكا لها. فإذا ما شجعت الحكومة هذا الاتجاه أو هذا الأسلوب "تضطر الأهالى إلى الاستيلاء على جميع الأراضى القليلة المحصول"، وإلى بذل جهد كبير وهمة فى إصلاحها "بالحراثة" بالاعتماد على العمل المأجور. ويبدو واضحا أن الطهطاى يشير إلى نوع من الأرض كان يعرف زمن محمد على وما بعده بالأرض العشورية، وهي أراض قابلة للزراعة لكنها غير مزروعة (موات) قام بمنحها  حيازة انتفاع لكبار رجال الدولة وأفراد الأسرة لاستصلاحها فى مقابل تسديد عشر إيرادها، واعتمد هؤلاء الحائزون على الفلاحين فى إحيائها وزراعتها ومن ثم كان الانتفاع بالحيازة مشجعا على استصلاح الأراضى وزيادة مساحتها.

    وقد لاحظ الطهطاوى من متابعته لموضوع العمل وقيمة العمل ورأس المال بالتطبيق على الزراعة (ولا ننس أنه قادم من مجتمع زراعى)، أنه فى حالة تملك الأراضى يحدث انفصال بين رأس المال والعمل، ومن ثم حتمية وقوع الاستغلال بالمعنى الاقتصادى ذلك أن كل "فلاح محترف بحرفة الفلاحة والعمل مضطر لأن يؤجر نفسه للحرث والغرس ليتعيش بحرفته ويدخل عند مالك الأرض بوصفه عاملا أجيرا".

توزيع الأرباح ..

 وبعد هذا الحديث عن قيمة العمل ينتقل الطهطاوى إلى الحديث عن كيفية توزيع الأرباح الناتجة عن العمل، ونموذجه فى هذا أيضا هو العمل فى الأرض الزراعية، وينتهى إلى أن الملاك يستغلون أجراء الأرض، ويحصلون على فائض القيمة دون أن يساهموا بعمل فى إضافة القيمة. فالمالك يتمتع "بالمتحصل من العمل" (أى الناتج) حيث يأخذ المحصول بالتمام والكمال بعد "تصفية" حساب مصاريف الزراعة وتكاليفها من علف مواشى وأجرة آلات، ولا يدفع فى نظير العمل "الجسيم" الذى قام به العمال إلا "المقدار اليسير" الذى لا يكافىء العمل المبذول.

    وهذا حديث واضح عن فائض القيمة كما أورده كارل ماركس .. فهل قرأ الطهطاوى كتاب "رأس المال" الذي نشر المجلد الأول منه عام 1867 ؟.. ليس معروفا على وجه اليقين ما إذا كان بعد عودته لمصر من البعثة (1831) قد ظل على اتصال بالتفكير الأوربى من خلال المطبوعات أم لا .. فذلك أمر مجهول لا يذكره، فضلا عن أننا لا نعرف على وجه التحديد تاريخ تأليفه كتاب "مناهج الألباب" الذى نشر فى 1870 كما سبقت الإشارة.

    يرى الطهطاوى فى هذا الاستغلال ظلما كبيرا للعمال، وأن سببه يعود إلى قاعدة متبعة بين الملاك تقول: إن من يزرع يحصد، والزارع هنا هو المالك، والمعنى أن المحصول يذهب للمالك. ويبرر الملاك هذه العلاقة بحديث نبوى يقول "الزرع للزارع". لكن الطهطاوى يفسر الحديث بما ينصف العمال اعتمادا على ما ورد في الصحيحين .. يقول ".. إن المعنى فيه أن الزرع لمن بذر، والثمرة له، وعليه أجرة مثل الأرض (أجرة الأرض -الضريبة) لا أن يأخذ العامل أجرة قليلة على عمله"، وأن يستولي المالك على كل الناتج. ويؤكد هذا الفهم بما ورد في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من أرضها من ثمر أو زرع (كان شعيرا)، أى أعطاهم النصف فى نظير عملهم. ويقيس الطهطاوى على زراعة الشعير أى زرع آخر مثل "الملوخية والبامية والخوخ والمشمش". وهذه القسمة تعرف بالمزارعة، ويكون التقسيم تبعا للمساقاة ، البذر فيها من المالك وليس من العامل.

    أما المشاطرة (المناصفة) فتستخدم فى زراعة العنب والخوخ حيث يدفع المالك الأرض للعامل ويزرعها العامل ببذر من عنده وكذا القمح. وأما "المخابرة" وهى غير جائزة فى نظره ولكنها قائمة "الآن" في مصر فيكون نصيب العامل فيها أقل بكثير من المزارعة.

    ويخلص من شرح حديث "الزرع للزارع" وتفسيره إلى القول بأن الحديث "لا يدل على شيء من جواز استحواذ المالك على المحصولات وعدم مكافأة العامل" ، ويقول أيضا "إنه لا يجوز أن يدفع فى تعليل هذا الاستغلال بالقول إن المالك دفع رأس ماله فى الإنفاق على الزراعة لأن هذه التعليلات محض مغالطة".

تقسيم العمل ..

ثم عرض الطهطاوى لأفكار الاقتصاديين في تقسيم العمل (يسميهم أرباب الإدارات والتدابير) وقال إنهم يقسمون العمل إلى قسمين لا ثالث لهما: عمل منتج للمال، وعمل غير منتج. والعمل المنتج للمال هو الذى تزيد قيمة إيراده (أي الربح)، وأما العمل غير المنتج فهو "الذي لا تنشأ عنه ثمرة تربيح مال". والأساس فى الاثنين العمل أو عدم العمل. وينسحب هذا التقسيم أيضا على العمال فيكون هناك بالتالي عمال منتجون وعمال غير منتجين. ويضرب الأمثلة على كل منهما من المجتمع المصرى فيقول إن العمال المنتجين مثل عمال "الأوسية" أى المزرعة الخاصة، والورشة والمصنع "يزيدون فى الأرباح والعائد". والعمال غير المنتجين مثل خدم المنازل "ليس في عملهم ربح أو كسب"، بل إن عملهم يؤدى إلى نقص دخل صاحب البيت (أى أجرة الخادم وما ينفقه عليه صاحب البيت). ويخلص الطهطاوى فى هذه النقطة إلى القول بأن زيادة الخدم والحشم يكون سببا لتناقص المال، على حين أن تشغيل العمال في عمل منتج يؤدى إلى زيادة المال والثروة.

    ويضع الطهطاوى في نطاق الأعمال غير المنتجة للأموال وظائف جميع الحكام والإدارات المدنية (أى المصالح الحكومية) وضباط العساكر الحربية والبحرية والجنود (لم يكن على أيامه سلاح الطيران)، "وان كان عليها مدار حركة الإنتاج" إذ يتقاضى أصحابها مرتبات سنوية "جسيمة في نظير مأمورياتهم، وهى مرتبات يحصلون عليها من أموال غيرهم" (أى من أعمال المنتجين للأموال). ويضيف إلى هؤلاء أيضا "وظائف القضاة وأهل الدين والأوقاف والشعراء وأرباب فنون الطرب والملاهى والمصارعين والموسيقيين والمغنيين والمنشدين". وجميعهم يحصلون على "أرزاقهم" (أي مرتباتهم) من صافى العمل السنوى فى المزارع والمصانع، أى صافى الربح بعد "استنزال" ضرائب الأرض (يسميها أجرة الأرض - أي ما عليها من مال) وثمن التقاوى وعلف المواشي وثمن الآلات وأجور العمال وما يستبقى منه لتشغيل السنة المقبلة.

    وينطبق الحال نفسه على دائرة الصناعة (ذكرها اندوستريا معربة عن الفرنسية ويسميها المنافع العمومية)، أى تحويل المادة الأولية إلى أشكال جديدة (أى صناعة تحويلية وتركيبية) للانتفاع بها مثل "تحويل الصوف والقطن إلى ملابس للناس".

    ثم هو يلخص قيمة العمل فى عبارة أدبية بليغة تقول: الحركة بركة والتوانى هلكة، وكلب طائف خير من أسد رابض، ومن لم يحترف لم يعتلف، ومن شمر طالبا جاء إلى بيته جابيا.

التقدم الإنتاجى ..

 ويربط الطهطاوي التقدم فى فروع الزراعة والصناعة والتجارة في بلد ما بقدر طبيعة الأرض والناس. وعناصره ثلاثة هى : المادة الخام كالقطن والصوف والحديد ونحو ذلك، والتصنيع باستخدام الآلات والأدوات، والأجر وقد يدفع نقدا وقد يدفع صنفا من الإنتاج نفسه. غير أن اختلاف مصادر الإنتاج (المصادر الطبيعية) من بلد لآخر يؤدي حتما إلى التفاوت فى الثروة والدخل العام.

    وهنا يلمس الطهطاوى نقطة غاية فى الأهمية ألا وهى دور الفعل الإنسانى فى مواجهة الطبيعة التى هى في كل البلاد "فالأرض فى جميع الأزمان على طبيعتها" ، وإنما اختلفت باختلاف المخترعات كالسفن البخارية والطرق الحديدية والتلغراف. وهذا الاختلاف نشأ من اختلاف الحاجة "والأمزجة والطبائع"، فأهالى الممالك تحت المنطقة الحارة ليسوا مثل الممالك تحت المنطقة المتجمدة فى اللوازم الضرورية، ومن هنا فإن طبيعة الأقاليم ترشد الإنسان إلى وسائط متنوعة فى الصناعة والنبات والحيوان " وبالتصنيع يتحول الحال إلى حالة أخرى". ويقدم بريطانيا نموذجا للدولة التى أحست أن منبع ثروة أهلها تكمن في التجارة والصناعة، وأن كل منهما يحتاج إلى الحرية فى التجارة والكسب وتوزيع العائد "بين الأهالى ليكونوا مشتركين في السعادة المالية"، ومن هنا "فتحت بلادا واسعة في أقطار شاسعة فى الهند وأمريكا وجزائر المحيط. وهذا حديث واضح عن أن الإمبريالية هى أعلى مراحل الرأسمالية.

    والتقدم في المنافع العمومية (الزراعة والتجارة والصناعة) يعد أحد أصول التمدن. أما الأصل الأول فهو معنوى ويتمثل في الأخلاق والدين ولا يتوقف الطهطاوى عنده مثلما توقف عن الأصل الثانى (المنافع العمومية - الإنتاج). وقد لاحظ فى هذا أن أهل الآداب لا يحفلون كثيرا بالعمل اليدوى رغم "لزوميته لتقدم العمران" لأنهم "يخشون صولة تقدم أهل الفنون والصنائع". كما لاحظ أيضا أن أهل الفلسفة يحتقرون العمل اليدوى "ويرون فى الصناعة من الأمور الخسيسة". أما أهل المال فيبالغون فى توسيع دائرة المنافع لأهمية التجارة فى الحصول على المنافع اللازمة.

    ويخلص من ذلك إلى أهمية المادة "التى هى قوام النفس فإذا انعدمت لم تدم الحياة ولم تستقم الدنيا لأهلها". والمادة عنده شيئان: نبت نام، وحيوان متناسل، ويعقب على ذلك بآية قرآنية "إنما هو أغنى وأقنى "، ويشرح قائلا: أى أغنى خلقه بالمال وجعل لهم قنية وهى أصول الأموال. أما "الكسب" فيأتى بالعمل لتحقيق الغايات والمطالب والحاجات وقد يأتى من التجارة أو من الصناعة.

    وعلى هذا تصبح مصادر الثروة عنده أربعة مصادر (يسميها أسباب المعايش): نماء زراعة، ونتاج حيوان، وربح تجارة، وكسب صناعة. فإذا توفرت كلها في مملكة دامت متى روعي فيها العدل والإنصاف، وكانت سببا "للاستثمار والتمول وتحصيل النقود والمتاع والعقارات وجميع الأملاك الاحتياطية". ثم يتدارك الأمر ويقول إنه يمكن إدخال تربية الحيوانات ضمن الزراعة فتكون مصادر الثروة (أصول المكاسب) ثلاثة: زراعة وتجارة وصناعة. ثم يعقب على ذلك بقوله إن الزراعة أفضلها "لأنها أطيب الجميع حيث هى إلى التوكل أقرب والله يحب المتوكلين". وأما "الإمارة" (أي السلطة) فإنها القوة المدبرة لكل هذه المنافع. 

تفسير اقتصادى للتاريخ ..

 وفى مناهج الألباب بعض لقطات عن التفسير الاقتصادي للتاريخ (الاقتصاد السياسى) فيما يتعلق بعلاقات الرق والعبودية والاستغلال "استخلصها من كلام المؤرخين". يقول الطهطاوى إن الأرض الخصبة كانت رأس مال الزارع يستثمرها ويستولى على فائدتها، وكان العمال الذين يقومون بحرث الأرض وزراعتها ملكا لمالك الأرض بالتبعية أو "أرقاء بالشراء". وكان مالك الأرض يملك أيضا وسائل الإنتاج وأدواته "المواشى والسباخ وآلات الحرث". وكان المالك يعهد بإدارة الأرض ومباشرتها "نظارة الفلاحة" لأكبر عبيده أو إلى من "يستنجبه" من العتقاء الأحرار، وليس لأى منهما مرتبا خاصا فى نظير عمله، بل إن الواحد منهم يعيش "فى بيت سيده كالعبد وعليه مطعمه وملبسه". ويظل العبد عبدا يبقى ببيت سيده حتى ولو أعتقه لأن "المعتوق لو جسر وخرج من بيت سيده المتربى فيه لا يجد من يقوم بشؤونه، فكانت الحرية في تلك الأوقات مشؤومة على العتقى وأمثالهم". وكذلك الحال في الصناعات حيث كان الأرقاء يقومون بتصنيع الحاجات الضرورية واللازمة من ملبس ومأكل ومعادن وأسلحة.

    ولم يكن دور الرقيق يقتصر على العمل عند السادة سواء فى الأرض أو فى الورشة بل كان الرقيق أنفسهم يستخدمون واسطة للتبادل والتعامل بين الأهالى يتم المقايضة بهم "فإذا اقتضى الحال للاقتراض لم يكن القدر المقترض دراهم ولا دنانير بل يقترض بعضهم من بعض قدرا معينا من الأعيان والأصناف".

البنوك

    أما فيما يتعلق بالبنوك وأعمال الصرافة فقد لاحظ الطهطاوى أنها أعظم "التجارات" وأشهرها في باريس وهي نوعان: بنوك الدولة، وبيوت الصرافة الحرة. وشرح طبيعة وظيفة كل من النوعين فقال إن بنوك الدولة تعطى ربحا سنويا معينا على ودائع الأهالى بمقتضى القانون. وهذا الربح لا يعد ربا "إلا إذا زاد عما قرره القانون". أما بيوت الصرافة فتعطي أزيد مما تعطيه بنوك الدولة لأنها تعمل "بالمرابحة". ولأصحاب الودائع في بنوك الدولة أو محلات الصرافة الحق في سحب ودائعهم "متى أرادوا".

    والفارق الوحيد بين النوعين فى رأى الطهطاوى أن الأموال المودعة في بيوت الصرافة غير آمنة لأن هذه البيوت معرضة للإفلاس، وأما بنوك الدولة لا تشهر إفلاسها وودائع الأهالى فيها "دينا على الدولة .. والدولة دائما موجودة. ونلاحظ أنه لم ينتقد بيوت الصرافة إلا فى أنها معرضة للإفلاس، ولكنه لم ينتقد تعاملها بالمرابحة !!.. هل لأن المرابحة لها أصول فقهية خاصة وأن البنوك الإسلامية فى وقتنا الراهن قريبة من هذا التعامل وكذا شركات توظيف الأموال الإسلامية المظهر؟.

    وقد أشار أيضا إلى شركات التأمين (يسميها جمعية الشركاء في الضمانة)، وهى تضمن لمن يدفع لها اشتراكا سنويا بسيطا تعويض خسائره فيما لو احترق بيته مثلا أو حانوته حيث "تصلحه وترجعه له كما كان وتدفع له قيمته".

    وبصفة عامة أبدى الطهطاوى إعجابه بنظام البنوك والصيارفة وشركات التأمين وحب أهل باريس للكسب والتجارة لكنه تحفظ قائلا: "ولولا أن كسبهم مشوب في الغالب بالربا لكانوا أطيب الأمم كسبا..". وقد سبق أن عقد مقارنة غير مباشرة بين طريقة التعامل المالى بين أهل باريس وبين التعامل في مصر إذ يقول إن التعامل في مصر يقوم على المقايضة العينية (يسميها الأعيان - عينى)، وبالقروض أيضا (يسميها الديون) ولكن بشروط في الشريعة المحمدية بدار الإسلام. وقال أيضا إن "البيع فى الذمة مذكور في كتب الفقه وهو بخلاف السائد فى بلاد الإفرنج حيث توجد البولصه (البوليصة)، أو الحوالة وهى ورقة حكومية وتتضمن قيمة عالية مع سهولة في التصرف.

     وفي أثناء حكم الخديو إسماعيل كان معدل استثمار رؤوس الأموال الأجنبية في البلاد قد زاد بعد إلغاء نظام الاحتكار الذي باشره محمد على، وبالتالى زادت التعاملات المالية بين المصريين وبين المؤسسات المالية الأجنبية، ووقعت كثير من المشكلات بين الطرفين كانت الغلبة فيها للأجانب الذين كانوا في حماية الامتيازات الأجنبية Capitulations   ومحاكم القنصليات وذلك قبل إنشاء المحاكم المختلطة (1876). وعلى هذا نشأت الحاجة إلى معرفة قوانين التعامل المالى عند أولئك الأجانب لتبصرة المصريين د، ومن هنا جاءت ترجمة الطهطاوى فى 1868 لقانون التجارة الفرنسى Code de Commerce  استجابة لأوامر الخديو إسماعيل نظرا "لاتساع دائرة المعاملات في مصرنا بين أهالى الممالك الأوربية، وكثرة التعلقات، فصار لا بأس لأرباب التجارة بمعرفة قوانين المعاملة الجارية عند الأجانب، بل صار الاطلاع عليها لمن يعقد عقود التجارات معهم من الواجب".

                  والحرية الاقتصادية..

 عند الطهطاوى فى الزراعة والتجارة والصناعة أعظم مظاهر الحرية في الدولة الحديثة (يسميها المملكة المتمدنة) ، والسماح بها يعد "من أصول فن الإدارة المدنية (الملكية)"، وهو ما أثبتته الأدلة والبراهين، ذلك أن "النفوس مائلة إليها من القرون السالفة التي تقدم فيها التمدن إلى هذا العصر". ولهذا -كما يرى- فإن من أصعب الأمور على "العاقل الذي يفهم منافع هذه الفنون أن يرى تضييق دائرتها".

    ولما كانت أفكار الحرية الاقتصادية على ذلك النحو تتعارض مع السياسة الاقتصادية فى مصر كما عاصرها الطهطاوى منذ أيام محمد على وحتى عصر إسماعيل حيث هيمنة الدولة على الاقتصاد (نظام الاحتكار أيام محمد علي ثم إحياء إسماعيل لهذا الدور بدرجة متفاوتة) نجده يلتمس العذر لعدم تخلى الدولة عن دورها فى الاقتصاد. فنراه يقول إن سبب هذا التضييق على الأفراد ربما يعود إلى أن "ملوك المملكة الموجود فيها ذلك يرون عدم أهلية رعاياهم لهذه الرخصة (أي الممارسة) لعدم استكمال التربية الأهلية". والمعنى أنه إذا ما تقدمت التربية وصلح حال الأهالى أباح لهم الملوك/الحكام حرية النشاط الاقتصادي في الزراعة والتجارة والصناعة "لأن تهذيب الأهالى وتحسين أحوالهم يكسب عقولهم الرشد والتصرف في العمليات المتسعة".

    وأخشى القول إن الطهطاوي  يبرر بقاء الاقتصاد في يد الدولة في مصر بعدم أهلية المصريين لممارسة النشاط الاقتصادى بعيدا عن هيمنة الدولة وإشرافها، وأنه في حالة تأهيلهم سوف تترك الدولة لهم هذا النشاط. ولابد أن الطهطاوى فى قراءته لتطور فرنسا الاقتصادى على وجه الخصوص قد علم أن "تحرير" الاقتصاد من يد الدولة أي تخليصه Liberation  لا علاقة له بالتربية والتأهيل ، وإنما جاء الأمر اغتصابا من يد الدولة فيما عرف بالتحول من السياسة المركنتيلية في النصف الثانى من القرن الثامن عشر بأفكار الفزيوقراط وآدم سميث في تحرير الاقتصاد كما سبقت الإشارة ، وكانت الثورة في فرنسا (يوليو 1789) ترجمة لهذا التحول لصالح البورجوازية.

    ولكننا نفهم أيضا أن الطهطاوى قد أدرك خطورة الحديث عن تحرير الاقتصاد بهذه الصورة فى بلد يخضع الاقتصاد فيها للحكومة. ومن هنا نفهم أيضا أن عبارة "الحرية الاقتصادية أعظم مظاهر الحرية في المملكة المتمدنة"  جاءت في كتاب بعيد كل البعد عن الموضوع ألا وهو كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين"، وجاءت داخل الكتاب تحت عنوان "في الحرية العمومية والنسوية بين أهالي الجمعية" وهو عنوان عام غير ذى دلالة خاصة فى الموضوع.

    على كل حال، لقد كانت تلك العبارة مدخله لتناول إصلاح أحوال التربية مستندا لقول بعض الحكماء "إن سمحتم لي بتحسين التربية ألزمت نفسي لكم بإصلاح أحوال العالم بأسره لأنه متى اتسعت مدارك العقول البشرية في فهم المعارف "المعاشية" (أي أمور التجارة والصناعة والزراعة) اتسعت في المعاملات واندفعت إلى اختراع الأدوات والآلات وتدوين الكتب في شؤون مجالات المنافع العمومية وتسجيل التجديدات التي يحرزونها "فتتجدد بالمعارف المكاسب الوافرة والمغانم المتكاثرة يوما فيوما"، لأن المملكة التي تقدم فيها علم الإدارة والاقتصاد فازت بمنافعها العمومية. وواضح أنه يعول كثيرا على التراكم المعرفى وأهميته فى إقامة صرح العلم والسيطرة. ثم ينتهى من هذه المقاربات الأخلاقية إلى القول بأن الحرية قرينة المساواة "وكلاهما ملازم للعدل والإحسان".

            ويبقى أكثر من سؤال ..

    ما هى الكتب الإفرنجية عموما التي اعتمد عليها الطهطاوى فى استعراض الأفكار الاقتصادية ؟. إن قوائم مكتبته في سوهاج تخلو من أى كتاب إفرنجر سوى كتب عمانويل هودنبرج عن: السماء وجهنم، والأفلاك والنجوم، ورسالة في الروحانية.

    إذا كان قد كتب كتابيه "مناهج الألباب" و"المرشد الأمين" بعد وفاة محمد على يقينا وفى زمن إسماعيل ترجيحا، فكيف جمع مادتهما واحتفظ بهما ؟. هل جمع المادة أثناء البعثة وعاد بأوراقه وترك الكتب وراءه خاصة وأنه كان يعلم أنه مجرد إمام للمبعوثين وأن البعثة نفسها لعلوم الأشغال الحربية وفنون الصناعة والزراعة ، وليست لدراسة الاقتصاد والسياسة والمعارف العامة !!.

    هناك من يقول إن الكتب الإفرنجية التى كانت معه دفع بها لتلاميذه لترجمتها، ولكن الكتب التي ترجمت فى حياته ليست فى الاقتصاد !!.

    ومهما يكن من أمر يكفينا فخرا أن الطهطاوى هو الذي عقد الاتصال الفكرى مع الشاطىء الآخر للبحر المتوسط في جانب لم تكن له سوق معرفية في مصر آنذاك ألا وهو الفكر الاقتصادى. وليس مهما بعد ذلك أن يكون جدنا رفاعة الطهطاوى مفكرا اشتراكيا اختزن أفكاره الاشتراكية في قلبه وهو فى باريس حتى صرح بها فى "مناهج الألباب" كما وصفه رفعت السعيد في ستينيات القرن العشرين.  أو "داعية ومنظرا لفكر البورجوازية الوطنية المصرية"  كما وصفه محمد عمارة فى سبعينيات القرن العشرين.