● قضى الطهطاوى حياته في خدمة العلم والثقافة، وكرس كل جهوده في سبيل النهضة الثقافية المصرية، ليكون صاحب أول مشروع ثقافى في تاريخ مصر الحديثة
إنه الصعيدى والأزهرى صاحب التأثير الأكبر، والدور الأهم فى مسيرة الحركة الفكرية والثقافية في مصر الحديثة.
ولد رفاعة رافع الطهطاوى فى مدينة طهطا، محافظة سوهاج بصعيد مصر ، فى السابع من جمادى الثانية سنة ١٢١٦ هـ ، الموافق الخامس عشر من أكتوبر ١٨٠١م .
ونشأ في أسرة كريمة الأصل شريفة النسب، فأبوه ينتهى نسبه إلى الحسين بن علي بن أبى طالب رضى الله عنهم، وأمه فاطمة بنت الشيخ أحمد الفرغلى، ينتهى نسبها إلى قبيلة الخزرج الأنصارية.
وقد اعتنى به أبوه فى صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة.
وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره.
وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة.
وقد تخرج رفاعة فى الأزهر في الحادية والعشرين من عمره، و نظرا لنبوغه العلمى وثقافته الواسعة فقد اختاره «محمد على باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه؛ لذا عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره، وقد حرص الطهطاوى على إبداء المقارنة بين حال العلم فى فرنسا وبين حاله فى مصر.
وقد عاد الطهطاوى إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد فى أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التى كتبت فى القرن التاسع عشر.
وكان رفاعة الطهطاوي يطمح في إنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات الأجنبية، وإعداد طبقة من المترجمين المجيدين يقومون بترجمة ما تنتفع به الدولة من كتب الغرب، وتقدم باقتراحه إلى محمد على ونجح فى إقناعه بإنشاء مدرسة للمترجمين عرفت بمدرسة الألسن، وقد عين رفاعة مديرًا لها إلى جانب عمله كمدرس بها.
وفى هذا العام ١٨٣١م يبدأ رفاعة رحلته فى سبيل النهضة وتحقيق آماله العلمية والثقافية، وإنجاز مشروعه الثقافى، فيعمل بالترجمة فى مدرسة الطب، ثم يعمل على تطوير مناهج الدراسة فى العلوم الطبيعية .
ولم يكتفِ رفاعة بهذه الأعمال العظيمة، فسعى إلى إنجاز أول مشروع ثقافى لإحياء التراث العربى الإسلامى، ونجح في إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربى على نفقتها، مثل تفسير القرآن للفخر الرازى المعروف بمفاتيح الغيب، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص فى البلاغة، وخزانة الأدب للبغدادى، ومقامات الحريرى، وغير ذلك من الكتب.
لقد كان الطهطاوى صاحب مشروع ثقافى كبير ، يعد أول مشروع ثقافى متكامل فى مصر الحديثة.
وقد تجلى هذا المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوى فى وضع الأساس لحركة النهضة المصرية الحديثة التى ظلت تؤتى ثمارها حتى يومنا هذا، ففى الوقت الذى ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربى ونصوص العلم الأوروبى المتقدِّم نراه يبدأ فى جمع الآثار المصرية القديمة ويستصدر أمراً لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع.
وظل جهد رفاعة يتنامى بين ترجمة وتخطيط وإشراف على التعليم والصحافة، فأنشأ أقساماً متخصصة لترجمةالرياضيات، وعلوم الطبيعة، والإنسانيا، وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية.
لكن عندما تولى عباس حلمى حكم مصر، كادت أحلام وآمال رفاعة الطهطاوى تتحول إلى سراب، حيث أغلق عباس مدرسة الألسن التى ظلت مفتوحة نحو خمسة عشر عاما، لعدم رضاه عن سياسة جده محمد على وعمه إبراهيم باشا، وأوقف أعمال الترجمة وقصر توزيع الوقائع على كبار رجال الدولة من الأتراك، ونفى رفاعة إلى السودان عام ١٨٤٩م ، ليعبث عباس بوجه الثقافة والمشروع النهضوى الكبير، الذى رسمه رفاعة.
وبعد وفاة عباس الأول عام ١٨٥٤ م، يعود رفاعة الطهطاوى إلى القاهرة، وقد أسندت إليه فى عهد الوالى الجديد سعيد باشا عدة مناصب تربوية، فتولى نظارة المدرسة الحربية التى أنشأها سعيد لتخريج ضباط أركان حرب الجيش عام ١٨٥٦م.
ثم تولى الخديوى إسماعيل الحكم بعد رحيل سعيد، عام ١٨٦٣م ، ليقضى رفاعة العقد الأخير من عمره الحافل فى نشاط مفعم بالأمل، فيشرف مرة أخرى على مكاتب التعليم، ويرأس إدارة الترجمة.
وقد لُقب رفاعة الطهطاوي برائد التنوير في العصر الحديث وذلك لما قدمه من مساهمات في تطوير الثقافة المصرية والعربية.
ثم يرحل رفاعة الطهطاوى عن دنيانا فى عام ١٢٩٠ هـ/١٨٧٣ م ، عن عمر يناهز الاثنين وسبعين عاما،
بعد أن قضى حياته في خدمة العلم والثقافة، وبعد أن كرس كل جهوده فى سبيل النهضة الثقافية المصرية، ليكون صاحب أول مشروع ثقافى فى تاريخ مصر الحديثة.