رفاعة الطهطاوي.. قائد الفكر المستنير وحافظ تراثها
● خلال حكم محمد على، تجلى المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوى ووضع الأساس لحركة النهضة الثقافية والتنويرية
● وصف رفاعة قيام الأجانب بأخذ الآثار المصرية لأوطانهم بالسلب والنهب، مؤكدا أنها تشبه سلب البعض مصوغات غيرهم فهى عملية نهب واضحة
رفاعة رافع الطهطاوى اسم تعلق فى ذهنى خلال طفولتى وذلك لارتباطه بقصة كان يتم تدريسها لنا فى المرحلة الابتدائية، وأيضا بعمل درامى تم عرضه فى التلفزيون المصرى فى 18 نوفمبر عام 1987 تحت مسمى رفاعة الطهطاوى.. لم أدرك هذا الاسم حين ذاك ولكن كنت منبهرا بهذه القصة التى ظلت عالقة فى ذهنى حتى الآن من قصة كفاح واجتهاد، وأن طفلا من أقصى الصعيد أصبح من أهم المفكرين وعلماء العصر الحديث بل إنه يعتبر هو زعيم الفكر التنويري ويعد من أحد مؤسسي إحياء المعرفة المصرية الحديثة بعد أن طمثتها كراهية الاحتلال العثمانى والمملوكى وما قبلهم حيث إنه كان له دوره الإيجابى فى إعادة الروح للفكر المصرى المستنير فأظهر حب هذا الوطن وكان له تأثير كبير على عملية تشكيل الهوية العلمية للفكر العلمي المصري الحديث، ولد المفكر المصرى رفاعة رافع الطهطاوى بمدينة طهطا بمحافظة سوهاج فى الخامس عشر من شهر أكتوبر عام 1801م.
نشأ رفاعة الطهطاوي في أسرة متدينة عريقة يعمل أفرادها فى القضاء والدين، لذلك اعتنت به أسرته وخاصة والده فحفظ القران الكريم وتعلم تلاوته، وبعد وفاة والده اهتم به أخواله، فقام بحفظ النصوص العربية وتعلم الفقه وبرع فى النحو وقواعد اللغة العربية الفصحى.
وعندما بلغ رفاعة الطهطاوى سن السادسة عشر فى عام 1817 التحق بالأزهر الشريف هذه المؤسسة التعليمية العظيمة التى كان لها الدور الإيجابى فى تشكيل فكر المفكر رفاعة رافع الطهطاوى فتتلمذ على الشيخ الفضالي، والشيخ حسن العطار وشملت دراسته فى الأزهر الشريف على الحديث والفقه والتفسير والنحو والصرف، وغير ذلك حتى أن تخرج منه فى عام 1824 ثم التحق بوظيفة إماما بالجيش المصرى.
بدأت سيرة رفاعة الطهطاوى العلمية مع محمد على وذلك بناء على ترشيح من الشيخ حسن العطار، حيث أرسله محمد على باشا ضمن بعثة تضم أربعون طالبًا، على متن السفينة الحربية الفرنسية، وكان ذلك فى عام 1826، وذلك لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة، وكان عمر رفاعة الطهطاوى حينها أربعة وعشرين عامًا، وكان ، فذهب رفاعة بصفته إمامًا للبعثة ولكنه إلى جانب كونه إماما إلا أنه اجتهد ودرس اللغة الفرنسية حيث ظل في باريس خمس سنوات (1826-1831) هناك وبدأ بممارسة العلم، وبعد خمس سنوات حافلة أدى رفاعة امتحان الترجمة ونجح فيه، وخلال تلك الخمس سنوات كان لديه الوقت ليوطّد علاقاته ببعض العلماء ممن رافقوا نابليون بونابرت في حملته على مصر عام 1798. كما أقام علاقات وطيدة مع بعض المستشرقين وأبرزهم سلفستر دو ساسي الذي تعرف من رفاعة على الحضارة العربية. وزار معالم باريس ومكتباتها وشهد الأحداث السياسية، وأبرزها الثورة الفرنسية على شارل العاشر عام 1830، كما أنه قام بترجمة للدستور الفرنسي، وقدَّم كتابه الذى نال بعد ذلك شهرة واسعة وهو تخليص الإبريز فى تلخيص باريز فضلًا عن ملاحظاته على عادات الفرنسيين؛ لهذا احتلّ مكانة رفيعة بين المراجع التي تسجّل الانطباعات المبكرة عن حضارة الغرب وعلومه وتقنياته وأنظمته، التي تأثر بها المتنورون العرب، وسعوا إلى الأخذ بأفكارها وأنظمتها وتقنياتها.
وبعد انتهاء البعثة عاد رفاعة لمصر فى 1831م، ليبدأ رحلته فى العلم وتحقيق أماله فعمل بالترجمة فى مدرسة الطب، ثم عمل على تطوير مناهج الدراسة فى العلوم الطبيعية، ليفتتح فى عام 1835م، مدرسة الترجمة، التى أصبحت بعد ذلك مدرسة الألسن، وعين مديرًا لها إلى جانب عمله كمدرس بها.
وخلال حكم محمد على، تجلى المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوى ووضع الأساس لحركة النهضة الثقافية والتنويرية التى صارت فى يومنا هذا، ففى الوقت الذى ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربى ونصوص العلم الأوروبى المتقدِّم نراه يبدأ فى جمع الآثار المصرية القديمة ويستصدر أمراً لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع.
وكان محمد علي يهدف من خلال إرسال هذه البعثات إلى أوروبا لتكوين جيل جديد من الأساتذة والعلماء والفنيين الذين تلقوا العلم في أوروبا ووقفوا على أهم ما أنجزه الغرب الأوربي في العلوم والمعرفة ليحلوا عند عودتهم محل الأساتذة والأطباء والمهندسين والضباط الأجانب. ففور عودة هؤلاء المبعوثين سوف يشغلون المناصب الكبرى في كل مؤسسات الدولة وإداراتها، بل هم من سوف يعملون على تنظيم الجهاز الإداري للدولة في عام1252هـ/1836م.
وظل جهد رفاعة يتنامى بين ترجمةً وتخطيط وإشراف على التعليم والصحافة، فأنشأ أقساماً متخصصة للترجمة "الرياضيات، الطبيعيات، الإنسانيات"، وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية.
فاهتم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى بالآثار المصرية وكان له دور كبير فى الحفاظ عليها بأنه وهاجم الشيخ رفاعة نقل مسلة الكرنك لباريس، والتى أهداها محمد على باشا لفرنسا، حيث كان هو الوحيد الذي شعر بقيمة تراث بلده فى وقت لم تكن فيه صحافة، ولم يكن فيها معارضون، حيث كان محمد على باشا يُمسك مقاليد الأمور، فالمعارضة ليس من مصلحتها أن تخالف أوامر ولى النعم الذي فى يده مقاليد الأمور آنذاك ، إلا أن رفاعة الطهطاوى كان من الشجاعة بمكان فوقف معارضا فى وقت عزت فيه المعارضة.
ويذكر روبرت سوليه فى كتابه "الرحلة الكبري للمسلة"، والذي تم نشره عام 1834م كان يحتوى على سطور جريئة، للشيخ رفاعة رافع الطهطاوى، فكتب رفاعة: "إن الفرنجة المنبهرين بغرابة تلك المسلات، قاموا بنقل اثنتين منها إلى بلدهم، إحداهما إلى روما فى وقت سابق، والأخرى إلى باريس فى وقتنا الحالى، بناء على الكرم الفائض لولى النعم أى محمد على باشا" وأضاف رفاعة الطهطاوى بأن مصر هى الجديرة بالاحتفاظ بزينتها، والأعمال التى أورثها لها أسلافها.
وفى هذا اليوم 29 يونيو عام 1835 اصدر محمد علي باشا أمراً بإنشاء مصلحة الآثار والمتحف المصري، وأسند إدارتهما إلى يوسف ضياء أفندي بإشراف "رفاعة الطهطاوي".
ووصف رفاعة قيام الأجانب بأخذ الآثار المصرية لأوطانهم بطريقة السلب والنهب"، مؤكدا أنها تشبه سلب البعض مصوغات غيرهم فهى عملية نهب واضحة لا يلزم لها أى إثبات".
ويؤكد روبرت سوليه فى كتابه "الرحلة الكبرى للمسلة"، أن الشيخ رفاعة أكد أن الأجانب لديهم مبان مكرسة لحفظ الآثار يحتفظون فيها بالأحجار المغطاة برسوم ونقوش ملونة، وهى تعرض لسكان البلد والمسافرين، ومثل هذه الآثار تعطى للبلاد التى تمتلكها شهرة كبيرة.
كانت تحذيرات رفاعة لها صداها، حيث قررت الحكومة منع تصدير الآثار لخارج، وقد استمر الشيخ رفاعة فى رفضه لنهب الآثار حتى تم إصدار مرسوم من الدولة فى 15 أغسطس عام 1835م؛ للحفاظ على التراث المصري، كما حددت مكانا فى القاهرة لمخزن للآثار تحول فيما بعد لمتحف، إلا أن القانون كان يطبق بطريقة متسامحة لدى محمد على باشا وخلفائه من بعده، أما المحافظون على التراث المصري أمثال رفاعة الطهطاوى، فقد كان عليهم مراقبة الحاكم حتى يمنعوه من الإسراف فى التساهل فى نهب الكنوز القومية وتصديرها للخارج.
عندما تولى عباس حلمى حكم مصر، هدمت أحلام وآمال رفاعة الطهطاوى، حيث أغلق عباس مدرسة الألسن التى ظلت مفتوحة خمسة عشر عاما، لعدم رضاه عن سياسة جده محمد على باشا وعمه إبراهيم باشا، وأوقف أعمال الترجمة وقصر، ونفى رفاعة إلى السودان عام 1849م، ليعبث عباس بوجه الثقافة والمشروع النهضوى الكبير، الذى رسمه رفاعة رافع الطهطاوى.
وبعد وفاة عباس الأول عام 1854م، يعود رفاعة الطهطاوى إلى القاهرة، بعد تولى سعيد باشا حكم مصر وأسندت إليه الوالى الجديد سعيد باشا عدة مناصب تربوية، فتولى نظارة المدرسة الحربية التى أنشأها سعيد لتخريج ضباط أركان حرب الجيش عام 1856م، وبعد رحيل سعيد، عام 1863م يتولى الخديو إسماعيل الحكم، ليقضى رفاعة العقد الأخير من عمره الحافل فى نشاط مفعم بالأمل، فيشرف مرة أخرى وأخيرة على مكاتب التعليم، ويرأس إدارة الترجمة، ويرحل رفاعة الطهطاوى فى عام 1290 هـ/1873م، عن عمر يناهز الـ72 عاما.
رحل قائد الفكر وصاحب المعرفة ولكن لم ترحل الفكرة التى اعتنقها وعمل على تأصيلها فستظل أفكاره وإنجازاته محفورة فى ذاكرة تاريخ الأمة المصرية.