رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


اقتصاد الحرب بداية النصر

4-10-2017 | 16:16


بقلم –  طه فرغلى

كانت الأجواء كلها تبعث على اليأس والإحباط، هزيمة أو نكسة لا تهم المسميات، وشعب ينتظر حربا لا تأتى، وقوى دولية لا تقف إلا مع المنتصر ولا تعترف بحق للمهزوم، كل المؤشرات تؤكد أنه لا أمل، وأن الوضع سيبقى على ما هو عليه طويلا وأن العدو حسم المعركة لصالحه ولن يكتب لنا النصر مهما حاولنا، كل حسابات الواقع والعقل والمنطق بعد ١٩٦٧ وحتى قبل أكتوبر ١٩٧٣ تؤدى إلى نتيجة واحدة «لا أمل»

ولكن هذه الحسابات لا يعترف بها شعب يقهر المستحيل، دائما إبداعه يولد من رحم المأساة، وقوته تظهر عندما يعتقد الجميع أنه انتهى، شعب يمرض ولكنه لا يموت، ويعود دائما أقوى مما كان.

قلوب وعقول مسكونة بالحرب التى حتما سننتصر فيها، الاستعداد لم يكن فقط على جبهة القتال، الاستعداد كان فى كل بيت مصرى، الجميع بات مشغولا باسترداد الكرامة والأرض، ملحمة وطنية خالصة، الكل مستعد للتضحية والفداء.

الكل أعلن قبول التحدى.. «نجوع بس كرامتنا ترجع وأرضنا تعود»، وقبل أن تنجح خطة العبور، نجح الشعب فى العبور باقتصاد الحرب وتحمل الظروف الاقتصادية الصعبة من أجل الهدف الأسمى، استعادة الأرض.

اقتصاد الحرب كان هو إشارة النصر، الجبهة الداخلية كانت مستعدة ومترابطة ومتماسكة لأبعد حد، وحتى نعرف حجم التحدى الحقيقى لابد أن نعرف أولا أن حجم الخسائر الاقتصادية عقب نكسة ١٩٦٧ كان مهولا، خسارة ٩٠ بالمائة من قدرات الجيش المصرى، وخسائر مالية تبلغ مليار جنيه، وضع مأساوى بكل المقاييس، الخزانة العامة كانت خاوية ونفقات التسليح والاستعداد للحرب كبيرة، فكانت بداية إدارة المعركة الحربية من أرض الحرب الاقتصادية التى أدارها فريق من أبناء مصر يقودهم الدكتور عبدالعزيز حجازى، نائب رئيس الوزراء فى زمن الحرب.

استطاع الدكتور عبدالعزيز حجازى وزير اقتصاد الحرب فى الفترة من ١٩٦٨ إلى ١٩٧٥ أن يعبر بمصر من مرحلة شديدة الخطورة والحرج، تحمل الشعب صعوبات نقص السلع الأساسية وحصار البلد عسكريا واقتصاديا وتولت القيادة الاقتصادية المهمة الصعبة فى إدارة الأزمة.

لم يشك الشعب ولم يئن، لم يتظاهر أو يثور، لأن الهدف كان أكبر وأسمى من الطعام والشراب ورفاهية العيش، النصر أو الشهادة لم يكن فقط شعار الجنود على الجبهة ولكنه كان شعار حياة المصريين جميعا فى هذه الفترة.

يروى الدكتور عبدالعزيز حجازى - رحمة الله عليه - عن الفترة الصعبة التى سبقت حرب النصر قائلا: الظروف كانت صعبة للغاية، ولكن كان لدينا رؤية واضحة لاقتصاد الحرب تقوم على عدة أهداف وتكاتف من القائمين على الدولة، وكان هناك أربعة أهداف هى:

- تمويل المعركة حيث خرجت مصر من نكسة ١٩٦٧ وهى خاسرة لأكثر من ٩٠بالمائة من الجيش المصرى، بالإضافة إلى خسائر مالية تبلغ مليار جنيه فهذه الأولوية الأولى فى الإنفاق فلاشىء يعلو فوق صوت المعركة.

استمرار التنمية، فقبل ١٩٦٧ كان أكبر معدل تنمية حدث فى مصر بالخطة الخمسية عامى ١٩٦٠ - ١٩٦٥ ومعدلات التنمية المرتفعة هى التى أقلقت العدو وكان من الضرورى أن تستمر خطوات التنمية بالتوازى مع الخطط العسكرية حتى لا تفقد مصر ما حققته.

- التكافل الاجتماعى فكان لابد من استمرار دور الدولة فى تحقيق هذا التكافل من دعم السلع وتعيين الخريجين وتحقيق العدالة الاجتماعية.

- أما الهدف الرابع - كما يقول الدكتور حجازى - فيتمثل فى الإفصاح والشفافية، حيث كان من الضرورى أن يتوافر للقائمين على البرنامج الاقتصادى لمصر كافة البيانات التى تمكنهم من وضع الخطط الاقتصادية للدولة.

وبدأت الدولة فى تنفيذ رؤيتها وفرض سياسة التقشف واقتصاد الحرب وفرضت الحكومة ضريبة تحت مسمى ضريبة الجهاد، وكانت المفاجأة الكبرى أن حصيلة الدولة من التبرعات أكبر بكثير من حصيلة هذه الضريبة، لأن الشعب كان يدرك أن المعركة هى معركته هو فى المقام الأول وليست معركة الحكومة، سارع الجميع للتبرع للمجهود الحربى، وسبق الفقراء الأغنياء، كل يجود بما يستطيع واكتتب الشعب بما يقرب من ٧ ملايين جنيه فى سندات الجهاد، كانت هناك أيضا تحويلات المصريين بالخارج التى زادت نتيجة شعور المصريين بالخارج بالانتماء وروح الحرب والرغبة فى النصر.

ولم تكن «سندات الجهاد» هى المشاركة الوحيدة للمواطنين فى دعم القوات المسلحة، حيث أعلنت وزارة المالية بتاريخ ١٨ نوفمبر زيادة الإيرادات الضريبية بمصلحة الضرائب بواقع ٢٣.٥ مليون جنيه على عام ١٩٧٢، ليصل إجمالى الحصيلة الضريبية لـ١٥٠ مليون جنيه، وهو ما أرجعته الوزارة إلى إقبال المواطنين على دفع المستحقات الضريبية الخاصة بهم بدافع الوطنية.

لم يكن انتصار مصر فى حرب ١٩٧٣ مجرد انتصار سياسى، أو عسكرى، إنما كان انتصارا اقتصاديا فى مواجهة ظروف صعبة بل مستحيلة، وتعنت وحصار اقتصادى من دول الغرب والولايات المتحدة.. كان انتصارا للإرادة فى مواجهة الانكسار، وللقوة فى مواجهة الضعف، وللتحدى فى مواجهة محاولات الخضوع من قبل آخرين.

ولكن إرادة النصر كانت أقوى من كل الظروف، بل أقوى من المستحيل نفسه، ملحمة خالدة شارك فيها المصريون جميعا وضربوا أروع الأمثلة فى التضحية والفداء، تناغمت إرادة الشعب مع الإرادة السياسية ومع القوات المسلحة فكان النصر فى ١٩٧٣.

أمام ظروف اقتصادية صعبة ومع ارتفاع الديون الخارجية لمصر لتتجاوز ٥ مليارات دولار خلال السنوات الثلاث الأولى من السبعينيات، وتراجع الصادرات، لم يكن أمام مصر سوى خيار واحد، هو الحرب فى مواجهة المستحيل والانكسار.

واللافت للنظر أنه على الرغم من حالة الحرب المستمرة على مدى ٧ سنوات، لم يتوقف الاستثمار وشهدت سنوات الحرب افتتاح عدد من المصانع والمشروعات، على رأسها بدء إنتاج السيارة «نصر ١٢٥» بمصانع النصر للسيارات، والإعلان عن مشروعات تنموية، وتنفيذ خطوط أنابيب بترولية لنقل البترول من السويس للإسكندرية، وإنشاء ٨ محطات كهرباء بتكلفة ١٠ ملايين جنيه، للحد من مشكلات انقطاع الكهرباء.

وبنهاية عام ١٩٧٣، وتحديدا بتاريخ ٢٠ ديسمبر، أعلن الدكتور عبدالعزيز حجازى، نائب رئيس الوزراء ووزير المالية، فى بيان له أمام مجلس الشعب حول الموازنة المالية لعام ١٩٧٤، أن الدولة دعمت القوات المسلحة بالموازنات المالية منذ عام ١٩٦٧ وحتى عام ١٩٧٣ بحوالى ٥ مليارات جنيه، بينها ٧٦٠ مليون جنيه خلال حرب أكتوبر، تم تخصيصها للقوات المسلحة والدفاع المدنى والطوارئ،، وتم تخصيص ٢٥ مليون جنيه علاوات للعاملين بالحكومة رغم ظروف الحرب، مع تخصيص ٥٦٤ مليون جنيه لمشروعات التنمية.

وخرجت مصر بعد حرب النصر ١٩٧٣ أقوى بل حققت ميزانيتها فى هذا العام فائضا بلغ ثلاثة ملايين جنيه، ولم تتجه الدولة إلى أذون الخزانة إلا فى أضيق الحدود، حيث طرحت خلال سبع سنوات أذون خزانة بقيمة ٣٥٠ مليون جنيه فقط وبما يعادل خمسين مليونا فى العام.

وبكل تأكيد كان التخطيط الجيد عسكريا بابا من أبواب النصر، كما كان التخطيط الاقتصادى هو أحد أبواب النصر.