رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


ثلاثة أيام بدون طعام فوق جبال سيناء .. كانت لنا حكايات

4-10-2017 | 16:28


بقلم لواء د.: نصر سالم

فى داخل الخيمة الصغيرة الموجودة فى منطقة انتشار الكتيبة فى الصحراء الممتدة شرق القاهرة وفى تلك الليلة التى لم نكن نعلم أنها تسبق الحرب بساعات معدودة.. تجمعنا نحن صغار الضباط قادة مجموعات الاستطلاع خلف خطوط العدو.. ورأينا فيها المستقبل جليا، دون تنبه.. ليلة كلما ذكرتها، لم أصدق أنها لم تكن خيالاً.. إنها ليلة سبقت مائة وثمانين ليلة، حدث فيها أحداث أغرب من الخيال.. توقفت بعدها ذاكرتى عن ذكرها لمدة قاربت خمس وعشرين سنة، حتى أنهضها واجب وطنى يصرخ: اكتبها فإنها ملك للأجيال، ليس من حقك كتمانها أو تركها للنسيان.

كنا مجموعة تجمعت فينا كل الصفات، من الجدية إلى التهريج إلى العفوية التى لم تخل من ترتيب بعض المقالب التى تبعث على المرح والسرور، ففى خضم انشغال كل منا فى إعداد قراره والإشراف على تجهيز مجموعته لتنفيذ مهمتها، كانت النكات والتعليقات اللاذعة لا تتوقف، فهذا فيصل الضابط المرح، عالى الكفاءة، الذى يتحدث ثلاث لغات إلى جانب العربية.. كلما صافح زميلا له بادره ساخراً بعبارة “ نلتقى فى عتليت” وكان صديقى ومقربا مني، فأنهره قائلاً : “أحسن فألك” - لأن عتليت التى يتكلم عنها كانت معسكرا للأسرى فى حرب ١٩٦٧ - فيرد علىّ قائلا: “ مالك أنت بذلك.. إنك سوف تترقى وتحصل على نجمة الشرف”، وبنفس طريقته الساخرة يمسك فيصل بالتليفون الموجود فى الخيمة ويطلب منزل عم النقيب عبدالهادى - الموجود معنا فى الخيمة وأحد الأبطال السابق لهمالعمل خلف خطوط العدو، والحاصل على نوط الشجاعة والترقية الاستثنائية - وكنا نعلم أن عمه فض خطوبة ابنته منه - رغم حبهما لبعضهما البعض - بسبب خلاف عائلي.

ويضع فيصل السماعة فى يد النقيب عبدالهادى وهو يصرخ فيه “تكلم.. تكلم”، ويمسك عبدالهادى السماعة فى دهشة ويتمتم ببعض الكلمات ثم تنفرج أساريره وهو يشير لنا أن عمه لم ينه المكالمة، فيصيح فيصل فيه” “اطلب منه أن يجعلها تكلمك” ويكررها عدة مرات، فيستسلم عبدالهادى ويطلب ذلك من عمه، ونراه يقفز من مكانه واضعا يده على السماعة وهو يردد “بينادى لها.. بينادى لها”.

ونتابع الحوار بينهما ونحن نحدق فى وجهه، فرحين لفرحه، وهو يناجى خطيبته بكلمات لا نسمعها، إلا عندما ختم حديثه معها بقوله: “مع السلامة ربما لا نرى بعضاً مرة أخرى” ويضع السماعة.

وننهال عليه باللوم والتأنيب.. ما هذه النهاية المأساوية - فيرد علينا فى حيرة “والله لا أدرى كيف قلتها”.نعم كانت ليلة غريبة، لقد تحقق كل قول قيل فيها!!

• فيصل الذى أسرف فى سخريته وهو يردد “نلتقى فى عتليت” يقع فى الأسر بعد أن أدى واجبه ببسالة واقتدار، ولكنها نبوءته!!

• عبد الهادى نال الشهادة وكان أول من ينال هذا الشرف من بيننا!!

• وأنا كاتب هذه السطور، قدر الله لى النجاح فى مهمتى ونلت الترقية والنجمة العسكرية كما قال فيصل!!

• وعدت لأروى بعضا من المواقف التى حدثت خلال (١٨٠) يوما خلف خطوط العدو.

- كادت ليلتنا الأولى تنتهى ونحن نصارع الزمن والتعب بعد قطع ما يزيد عن (٥٠ كم( وكل منا - أنا والجِندى وعادل - يحمل فوق ظهره أكثر من ٥٠) كجم( من المعدات والمهمات والمياه والطعام، لكى نصل إلى الجبل الذى سوف نرصد من فوقه قوات العدو - حين أحسست فجأة أننا نمشى فوق الطريق الأسفلت، الذى يبعد عن الجبل بحوالى كيلومتر واحد، وأهمس بذلك لكل من عادل والجندى“لم يتبق أمامنا إلا مسافة قصيرة، وها هو الجبل أمامنا”، فنسرع فى عبور الطريق فى طريقنا إلى الجبل فنفاجأ بوجود سور سلك شائك بعد الطريق بعشرة أمتار فقط، وخلف هذا السور يوجد معسكر للعدو، ففكرت فى البداية الالتفاف حول المعسكر والوصول للجبل، ولكنى اكتشفت أن السور السلك ممتد لمسافة طويلة وقد تشرق علينا الشمس قبل أن نقطعها ويكتشف العدو وجودنا، فخطر ببالى العودة فى نفس الاتجاه الذى أتينا منه والتحرك لمسافة ٤: ٥ كم وإعداد حفرة والاختفاء فيها طوال النهار ثم مواصلة المسير مرة أخرى عندما يحل الظلام، ولكن هذا الحل أيضاً كان محفوفاً بالخطر لأن فرصة اكتشاف العدو لنا أكثر، نظراً لطبيعة الأرض المكشوفة ونشاط العدو بها.

وكان البديل الثالث هو فتح ثغرة فى السور والتسلل منها إلى داخل المعسكر والوصول للجبل، وهذا درب من الجنون ومخاطرة غير محسوبة. ولكننا لم نجد بدا من هذا البديل.. ولسان حالى يقول: إذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العار أن تموت جبانا. وفعلاً قررت ذلك، وقمنا بقص السلك وفتح ثغرة وعدنا منها نحن الثلاثة، وقمنا بإعادة السلك إلى ما كان عليه حتى لا يكتشفه العدو فى الصباح وأخفيناكل أثر لنا وتقدمنا بحذر كامل وبأقصى سرعة ممكنة، فإذا بنا نمر بين حُفر مغطاة بشباك التمويه، ونسمع بعض أصوات الجنود تحتها، فنزداد حذرا ونحن نتجاوزها حتى وصلنا إلى سفح الجبل وبدأنا فى الصعود فوقه من خلال أحد الميول السهلة، حتى وصلنا إلى مكان أكثر أماناً وأعددنا النقطة التى سنراقب منها العدو وأعددنا الجهاز اللاسلكى للاتصال بعد التغلب على بعض المشاكل التى كادت تفشل مهمتنا.

وتشرق الشمس من خلفنا ونبدأ فى التعرف على الأرض حولنا من خلال الخريطة التى معنا وكم كانت سعادتى عندما أعطيت الخريطة (لعادل والجندي) وقلت لهما انظرا أنتما فى الخريطة وسوف أصف لكما الأرض حولنا دون أن أنظر إليها، فيردان علىّ كلاهما بل نحن الذين سنصف لك الأرض، ويستطردان «إننا نشعر أننا نجلس وسط «تخته رمل» مثل التى كنا نصنعها فى الكتيبة لدراسة الأرض»، - نعم إن هذه ثمار التدريب الجاد.

وبعد التعرف على الأرض فى قطاع المراقبة الذى يشمل محور (طريق( تحرك رئيسى فى اتجاه الجبهة ومحور عرضى يربط بين المحاور الطولية، وأحد المطارات، وهذا موقع لواء مدرع ذلك الذى مررنا من خلاله ونتواجد تقريبا فى داخل منطقة انتشاره، وبدأنا بإعداد أول بلاغ معلومات إلى القيادة بكل المعلومات التى تحصلنا عليها وأهمها اللواء المدرع المكون من (١١١ دبابة)، ثم واصلنا مراقبة العدو بعد توزيع أدوار المراقبة والعمل علينا نحن الثلاثة. حتى كانت الساعة الرابعة مساء ذلك اليوم السابع من أكتوبر، ونحن نراقب دبابات العدو التى اصطفت فى رتل واحد على الطريق استعداداً للتحرك فى اتجاه قناة السويس فإذا بها تنفجر واحدة تلو الأخرى، ونشاهد أربع طائرات “ميج ٢١” مصرية تنقض عليها وتقذفها بصواريخها بكل دقة ومهارة ثم تعود من حيث أتت، فنقوم بحصر الخسائر وإبلاغها للقيادة ونحن نشعر بفرحة غامرة.. ونستمر فى مراقبة العدو وهو يخلى جرحاه وقتلاه ويقوم بإصلاح بعض الدبابات التى أصابها العطب.. ويستعوض الدبابات التى تم تدميرها بدبابات أخرى أحضرها خلال الليل من داخل إسرائيل.

وفى صباح اليوم التالى الثامن من أكتوبر تبدأ دبابات اللواء فى الاصصفاف مرة أخرى استعداداً للتحرك فى اتجاه الجبهة، ونبلغ ذلك للقيادة، مع الاستمرار فى إبلاغ جميع المعلومات التى نتحصل عليها أولاً بأول عن العدو على المحاور المختلفة.. إلى أن جاءت الساعة الرابعة - نفس التوقيت الذى ضرب فيه اللواء فى اليوم السابق - فإذا بالدبابات تنطلق بأقصى سرعة وتحاول الانتشار والنزول فى الحُفر، وتصطدم ببعضها البعض وتنفجر، ونشاهد دبابة تنزل إلى حفرة بها دبابة أخرى فتطيح ببرجها ومدفعها فى الهواء - فى مشهد أقرب إلى أفلام الكرتون - بينما تتعلق عيوننا فى السماء لمشاهدة طائراتنا كما شاهدناه بالأمس، فإذا بنا نشاهد طائرتين إسرائيليتين تمران فوق اللواء المدرع، وتقوم الدبابات بالاشتباك معها بالرشاشات المخصصة للدفاع الجوى والمجهزة بها - وانتابتنا حالة من الدهشة والسعادة ونحن نرى هذا الفزع الذى جعل الدبابات الإسرائيلية تطلق نيرانها على طائراتها - خشية أن تكون طائرات مصرية وتكرر بها ما فعلته بالأمس.

على هذا الحال استمر عملنا فى منطقة وسط سيناء فى متابعة العدو على المحاور المختلفة، أما المطار الموجود فى منطقة عملنا فقد تم ضربه أكثر من مرة بواسطة طائراتنا وإخراجه من الخدمة، وكلما عاد إصلاحه وأعادته للخدمة كنا نبلغ ذلك للقيادة، فتقوم طائراتنا بالإغارة عليه.. أما عن طعامنا وشرابنا فقد كان كل منا يحمل معه عدد ستة لترات مياه وست عبوات طعام، زنة الواحدة ٧٥٠ جراما تم استهلاكها فى مدة ثمانية عشر يوما أى أن العبوة الواحدة كنا نستخدمها نحن الثلاثة فى اليوم الواحد، بعدها بقينا لمدة ثلاثة أيام بدون طعام، أما المياه فقد كنا نحتفظ معنا منها بزمزامية ١ لتر حتى يوم ٢٦ أكتوبر الذى تم فيه إيقاف إطلاق النار على الجبهة، وصدرت لنا الأوامر بالتحرك إلى منطقة أخرى، وصلناها بعد ثلاثة أيام سيرا على الأقدام، لنبدأ مرحلة أخرى امتدت أكثر من خمسة شهور، مررنا فيها بمواقف صعبة وتعرضنا للموت والوقوع فى الأسر عشرات المرات، وقمت فيها بالبحث عن إحدى المجموعات التى ضلت مكانها نتيجة لإبرارها بواسطة الهليكوبتر فى مكان بعيد عن المنطقة المخصصة لها بعد تعرضها لنيران أرضية وإصرار قائد المجموعة على الإبرار فى أى مكان فى سيناء وعدم العودة فى الطائرة - وبعد العثور عليها صدرت لنا الأوامر بانضمامهما تحت قيادتى والعمل معا.

فى أحد الأيام من شهر ديسمبر ١٩٧٣ طلبت القيادة الحصول على أحدث المعلومات عن العدو فى منطقة تبعد عن المكان الذى نتواجد به بأكثر من خمسين كيلومترا شرقاً وبعد دراسة الموقف على الخريطة، استشرت الشيخ/سليم وهو بدوى من قبيلة الإحيوات الشديدة الوطنية - التقيته عندما عثرت على المجموعة الثانية واستمر بإيثار منقطع النظير يمدنا بالطعام والماء حتى انتهاء مهمتنا، فعرض علىّ أن يأتى إلىّ بأخيه الأصغر )سعد( ذى الثلاثين عاما والأكثر دراية بالمنطقة، ليصحبنى فى هذه الرحلة، وفعلا قررت ترك جميع أفراد المجموعتين معا وصحبت سعد فى الموعد المحدد إلى المنطقة المطلوبة الحصول على معلومات عنها حيث قطعنا المسافة معا نتبادل ركوب الجمل الخاص به حتى وصلنا إلى الجبل الذى سوف نقوم بالصعود إليه لاستطلاع المنطقة، فتركنا الجمل فى أحد الوديان، وتسلقنا الجبل وهو عبارة عن لسان صخرى يمتد لمسافة حوالى سبعة كيلومترات تنتهى عند معسكر العدو الذى نريد استطلاعه، وتحركنا فى ظلام دامس، نحاول أن نقطع المسافة قبل ظهور أول جنود )قبل شروق الشمس بساعة( حتى لا ينكشف أمرنا، ولم أفكر فى النظر فى الساعة حيث أنى لا أكاد أبصر أمامى من شدة الظلام الذى تبدد فجأة لتظهر الشمس فوقنا ساطعة جلية وأجدنى على حافة السلسلة الصخرية وأمامى جرف حاد وتحتى مباشرة معسكر للعدو تتحرك فيه جنوده ذهابا وإيابا، وأتحسس الساعة فى معصمى وأنظر إليها فأجدها الثامنة أى بعد الشروق بساعتين، والتفت حولى فإذا هى سحابة داكنة اللون خلفنا، تلك التى كنا نسير بداخلها طوال الوقت السابق وكانت تحجب ضوء الشمس، وأنظر إلى معسكر العدو الذى تحيط أسلاكه بالسلسلة الصخرية التى نقف عليها، والجنود حولنا من كل مكان ينظرون نحونا.. وأدركت خطورة الموقف، فلن يمر أكثر من ١٥: ٢٠ دقيقة حتى يصل العدو إلينا، ولكنى رأيتها كافية لاستطلاع الموقف وإبلاغ المعلومات وجلست القرفصاء وأخذت أحصى أعداد الدبابات والمعدات وأبلغتها إلى القيادة وأنا أتوقع قيام العدو بإطلاق النيران علينا أو المناداة علينا بالاستسلام فى كل لحظة، ولكنى لم أجد أى رد فعل من العدو، فأدركت أنه لم ينتبه إلينا رغم قربنا منه وظهورنا التام له، وتذكرت قول المولى عز وجل “وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون” فانسحبت فى هدوء وعدت أنا وسعد إلى مكان الجمل لنبدأ رحلة العودة إلى حيث أتينا، وعين الله ترعانا لنستكمل باقى الـ«١٨٠» يوم( خلف خطوط العدو.