قراءة فى كتاب «إدوارد سعيد.. أماكن الفكر»
د. هالة حربي
إدوارد سعيد ذلك الفلسطيني الهوية، الأمريكي الإقامة، المصرى النشأة واللبناني النسب، صاحب كتاب "الاستشراق" وكتب أخرى كثيرة لا تقل عن الاستشراق أهمية مثل "القضية الفلسطينية" و"الثقافة والإمبريالية" "وسياسة الحرمان" و"تغطية الإسلام".
هو أستاذ الأدب المقارن فى جامعة كولومبيا، وصفه البعض "بالأستاذ الجامعى الإرهابى" عندما رمى حجرا 'رمزيا' على الحدود الإسرائيلية.
ولد إدوارد سعيد فى القدس ١٩٣٥ فى الأول من نوفمبر فى اليوم الذى يسبق ذكرى وعد بلفور، ومع التهجير القسري للفلسطينيين عاش وأسرته فى القاهرة منذ ١٩٤٧ مرحلة الطفولة وبداية الصبا، وفى بداية سن الشباب سافر إلى أمريكا لإكمال تعليمه.
كان محاربا شرسا فى الأدب والحياة وقارئا نهما يجيد عدة لغات، فهو يجيد الفرنسية والإيطالية والألمانية ونوعين من الإنجليزية أحدهما الأمريكية والثانية الأوكسفردية، منتقلا فجأة من الواحدة إلى الأخرى لمضاهاة لهجة محادثه، غير أن شريكا له فى سكنه الجامعى ذكر أن سعيد عندما يتكلم فى نومه فإنه كان يستخدم اللغة العربية.
كان لنكسة ١٩٦٧ أثر لا يمحى فى حياة سعيد فقد أشعلت بداخله نارا لم تنطفئ حتى دفنت معه على ربوة من ربا لبنان تطل على فلسطين. أصبحت القضية الفلسطينية همه وحلمه، اقترب من السلطة الفلسطينية كمستشار لها إلى أن تورطت السلطة فى اتفاق أوسلو فابتعد سعيد عنها لأنه اعتبره اتفاقا على الاستسلام لا السلام أو كما وصفه صديقه الموسيقى بلغة الموسيقى "كان عزفا سريعا أسقط اللحن".
إدوارد سعيد كان دائما ما يقف فى منطقة وسط بين حضارتين كان له مريدون على الجانبين وله أعداء أيضا. هو كاتب عميق الفكر واسع الرؤية آراؤه تثير جدلا وكثيرا ماتحرك المياه الراكدة فى كل مجال. أحب الكاتب الإيرلندى جوزيف كونراد وكانت رسالته عن رواية "قلب الظلام". أحب كونراد لأنه غريب يشبهه ومثل ما أثار كونراد "قلب الظلام" أثار سعيد الرأي العام الغربي ذي الرؤية الأحادية وفرض عليهم اسم فلسطين الذى كثيرا ماتجاهلوه بل أنكروه، وهل ننسى الجملة الشهيرة فى وعد بلفور" شعب بلا أرض لأرض بلاشعب"؟!.
فى سيرته الذاتية التى بدأ بكتابتها عندما أصيب بسرطان الدم ١٩٩٣ ونشرها ١٩٩٩ قبل أربعة أعوام من وفاته ٢٠٠٣. "خارج المكان" هو عنوان سيرته الذاتية لإدراكه أن أمريكا- برغم ما حقق فيها من نجاح وعاش فيها نحو ٥٠ سنة - ليست وطنا، أمريكا لا تأتلف مع الغرباء على الرغم من أنها بلد الغرباء. دائما ما يشعر أنه خارج المكان فى كل الأماكن التى عاش فيها؛ ففى القاهرة كان يعيش وأسرته فى معزل عن أهل البلد فى جزيرة الزمالك مأوى السفارات والأجانب حيث كان سعيد يطلق عليها مستعمرة داخل مصر كان يعامل كأمريكي فى مصر ويعامل كشرقى من العالم الثالث فى أمريكا وعندما كتب "الإستشراق" وأصبح للشرق صوت هوجم كثيرا وظهر تحيز الغرب ضده، لكن مع كل هذه الحروب كانت له فتوحات كثيرة تتوطد شيئا فشيئا، حتى أصبح لسعيد مريدين من "قلب الظلام"، من معسكر الأعداء.
"خارج المكان" هي سيرة سعيد التى كتبها بنفسه، وكتاب "إدوارد سعيد.. أماكن الفكر" هى سيرة سعيد، كتبها واحد من مريديه، تمثى برنن كان تلميذا لسعيد وهو حاليا أستاذ الأدب المقارن فى جامعة كولمبيا.
فى هذة السيرة يؤول برنن سيرة سعيد الذاتية التى أعلن سعيد أنه لاينتمي لأى مكان عاش فيه خصوصا أمريكا، فبحث برنن عن انتماءات سعيد الفكرية لتكون بديلا عن إحساس الغربة التى عاشها سعيد فى حياته وأكدها فى "خارج المكان".
كتاب "إدوارد سعيد أماكن الفكر" يشرح انتماءات سعيد الفكرية بمن تأثر وفيمن أثر فى رحلة طويلة تناول فيها الكاتب كتب سعيد ومقالاته وحروبه الطاحنة وردوده الساخرة الموجعة لأعدائه وعدم استسلامه إلا للمرض الأخير.
وسعيد ليس بالشخصية الثابتة التى يسهل وصفها؛ فقد مر بمراحل عدة فى بعضها قد يكون مفتونا بدريدا، فيكو، اور باخ، او جرامشي وقد يفاجئنا فى مرحلة أخرى بنقدهم فهو فى حركة معرفية دائمة لاتتوقف وشعاره فيها "لا مؤاذرة قبل النقد". الجميل فى هذا الكاتب أن برنن لم يغفل حتى تسجيل ملاحظات سعيد ومسودات مقالاته على قصاصات الورق ولم يغفل أن يعيد على مسامعنا نص مكالماته الهاتفية وقد استفاد برنن من شهادات عائلة سعيد ومن مريديه وأعدائه، كما استعان بسجلات مكتب التحقيقات الفيدرالى وبكتابات سعيد غير المنشورة كما يقول دكتور رشيد الخالدى.
الكتاب هو تكملة لسيرة سعيد الذاتية "خارج المكان" فأدخلنا برنن فى أماكن الفكر التى ينتمى إليها سعيد أو التى تنتمى إلى سعيد؛ فكثيرا ما ارتبط اسم سعيد بدراسات ما بعد الاستعمار وكيفية إلزام الغرب بسماع صوت الضحية والاعتراف بالجرم. وكان لسعيد الفضل أيضا فى فضح ادعاءات الغرب أنه جنس خلق ليحكم غيره. مع سعيد أصبح للشرق صوت وفلسطين تفاحة على شجر القلب.
عند احتكاك سعيد بالثقافة الأمريكية أدرك مدى ضحالتها وبساطتها فكان عرابا للفلسفة الأوروبية وتأملاتها، أدخل النظرية الفرنسية والفلسفة الألمانية فى الجامعة الأمريكية فتن بجامبتستا فيكو الفيلسوف الإيطالي من القرن الثامن عشر وقدمه، لكن فلنكن على حذر عند الاقتراب من فكر سعيد، فهو ليس ناقلا، هو ناقد قدم البنيوية لأمريكا ونقدها، أخذ عن أدورنو نظريته فى الموسيقى وطبقها فى مجال الأدب بملامح سعيد وأفكار أكاد أجزم أن سعيد لا يأخذ من النظرية إلا اسمها؛ يدخلها فى بوتقته فتخرج بتوليفة سعيد الفريدة.
كان سعيد يقف وحيدا كشرقى أراد أن يسمع العالم صوت فلسطين، وظل محاربا شرسا حتى أضعفه المرض. يقول برنن: "شعر سعيد بأن نقاده سينقضون عليه عندما يغيب عن هذه الدنيا.. فقد أهين فى مطار البرتغال حيث كان عائدا من إجازة فى أغسطس ٢٠٠٣، فللمرة الأولى بعد الحادى عشر من سبتمبر وبينما كان جالسا فى قاعة الانتظار فى المطار شاعرا بالوحشة وفى حضنه حقيبة ممتلئة بالكتب والأدوية رأى أن الجميع باستثنائه يتوجهون للصعود إلى الطائرة، فقد رفض المسؤولون فى شركة طيران البرتغال أن يسمحوا له بالصعود لأن اسمه تسبب فى استثارة تحذير فى جهاز ما.
عاد من رحلته بالبرتغال مصابا بالحمى وفى صباح يوم الخميس ٢٥ سبتمبر تلقت زوجته مريم فى الساعة ٥:٤٠ صباحا مكالمة أخبرت فيها أنه توفى منذ دقائق. اختار سعيد أن يدفن فى مقبرة صغيرة تعود لطائفة الكويكرز تقع على سفح تلة شديدة الانحدار تحفها الأشجار فى برمانا بلبنان وقد كتب على الرخامة السوداء اسمه باللغة الإنجليزية ثم باللغة العربية.
تلك المقبرة التى تتجه جنوبا نحو فلسطين كأنها تحكى بأن الغريب قارب المنزل.
* الكاتبة ناقدة وأدبية ومترجمة