سنرحل.. فماذا تريدون؟
يظل الاغتراب الساحةَ الرحبةَ التي ترى فيها خيولُ الشعرِ العربيِّ مضمارَها الفسيح؛ لما يثيره من مشاعرَ محترقةٍ أضناها مفارقةُ الأهل والأحباب، وأجَّج نيرانها البعد عن الديار والأوطان، ولعل الاغتراب الذي عاشه العربي قديماً منذ ارتحاله خلف أسباب المعاش بحثاً عما يحفظ عليه حياته، أو خروجاَ متزامناَ مع حركة الفتوحات، أو نفياً وتشريداً خصوصاً في عصرنا الحديث.. أقول إن هذا الاغتراب قد أثمر قصائدَ رائعةً تصف الحنين إلى الأوطان، ولم تستطع الثقافة الأدبية للعرب أن تتجاهل ذلك، بل أفردتْ له مكاناً أساسياً بين موضوعاتها.
من امريء القيس وخروجه طلبًا لنصرة الروم في استرداد مُلْك أبيه ؛ إذ يقول مخاطبا إحدى جاراته :(أجارتنا إنَّا غريبان ها هنا / وكل غريبٍ للغريب نسيب!) ؛ حتى طرفة بن العبد وشعوره بالغربة القاتلة بين أهله، ورغم أن المتنبي قد اتخذ الارتحال بين الحواضر العربية مسلكاً حياتياً ، إلا أن المتنبي ظل شاعراً بالغربة القاسية ، شاكياً تباريحَها الى الأبد ، مردِّداً: (وهكذا كنت في أهلي وفي وطني / إن النفيس غريبٌ حيثما كانا) ..!!
وللشاعر العباسي "علي بن الجهم" قصيدةٌ لا تتجاوز عينك قراءة أبياتها الأربعة إلا وقد فجَّرتْ في نفسك شلَّالاً من الحزن النبيل : حزنا على هذا المُكابِد آلامَ الغربة فلم يَدُرْ في خياله أن الاغتراب سيحتل روحه من أقصاها إلى أقصاها باسطاً سواده على الأفق خانقاً بقبضته الغليظة إشراقة الفجر الوليد، يقول ابن الجهم :(وَرَحمَتا لِلغَريبِ في البَلَدِ ال/ نازِحِ ماذا بِنَفسِهِ صَنَعا) وياليت المعاناة اقتصرت عليه ...!! إنها امتدت لتشمل كل أحبابه ؛ لقد استوطنت المرارة حلوقهم فلا يحلو لهم طَعْمُ طعامٍ ولا مذاقُ شرابٍ (فارَقَ أَحبابَهُ فَما اِنتَفَعوا / بِالعَيشِ مِن بَعدِهِ وَلا اِنتَفَعا)، ويفاجئنا ابن الجهم بمعنى جديد للعزة ؛ فالقلب لا يشعر بالعزة إلا في جوار محبِّيه يلتمس بدفء الوصال ما يعينه على ما يلقى من مكابدة العيش ؛ فإذا ما اغترب الإنسان فكأنه قد جمع بين مرارتين لا طاقة له بهما في آنٍ واحدٍ (كانَ عَزيزاً بِقُربِ دارِهُمُ / حَتّى إِذا ما تَباعَدوا خَشَعا) ، ولابد له كلما خلا بنفسه أن يلومها ، ويعنِّفها على ما جرَّته من مكابداتٍ كان في غنى عنها :(يَقولُ في نَأيِهِ وَغُربَتِهِ / عَدلٌ مِنَ اللَهِ كُلُّ ما صَنَعا)..!!
ورغم القدْرِ الكبير من القصائد التي احتواها ديوان "محمود سامي البارودي" إذْ قالها في المنفى ، وأودع فيها شكواه من ألم الغربة، والبعد عن الوطن، وما آل إليه مصيره، ولكنك لا تستشعر في شكواه ضعفاً ولا تخاذلاً ولا استسلاما ، إنما تراه يستعصي على الاستسلام ، يحمل في ضلوعه نفساً قويةً صابرةً طالما خاضت المعارك في أكثر من جبهةٍ. وأبلت في معظمها البلاء الحسن ، وها هو يودِّع وطنه بقصيدةٍ مؤثرةٍ يقول فيها :(عناءٌ ويأسٌ واشتياقٌ وغربةٌ / أَلاَ شَدَّ ما ألقاهُ في الدهرِ من غَبْنِ)،ويصوِّر"البارودي"لحظة إبحار السفن به وقادة الثورة العرابية ؛ إذ كان الكثيرون في الوداع والدموع أشبه بسحب ماطرة (ولما وقفنا للوداعِ، وأسبلتْ/ مدامعُنا فوق الترائبِ كالمزْنِ)، عند ذلك لا طاقة للصبر أن يعود فيمنحهم أرديةَ التجلُّد ، ولا يسمع العقل نداء اللائذ به كيما يتجاوز الراحلون تلك اللحظات العصيبة :(أهْبتُ بصبري أنْ يعودَ، فعزَّني/ وناديتُ حِلمي أن يثوبَ، فلم يُغْنِ)!! ، وهل يمكننا أن نتجاوز أشعار الرائع "محمود درويش" إذ أبدع في تلك المساحات الراصدة آلام المنفى ، يقول في رائعته"خطبة الهندي الأحمر ماقبل الأخيرة" مصوِّراً محدودية عقل الرجل الأبيض (.. لن يفهم السيد الأبيض الكلمات العتيقة هنا...، في النفوس الطليقة بين المساء وبين الشجر) هكذا كل مستعمر تدفعه شهواته إلى امتلاك الأرض بما عليها ومن عليها ، و تأمَّلْ استخدام لفظتي ( السيد ، الأبيض ) بما يحملان من سخريةٍ طافحةٍ واللاجدارةِ بلقب الإنسان ، مُذكِّراً بالعنوان الضميرَ الإنسانيَّ بجرائم التطهير العرقي الذي مورس ضد الهنود الحمر وبقية شعوب الأمريكتين (... ولكنه لا يصدق أن البشر سواسية كالهواء وكالماء... خارج مملكة الخارطة..!!) إنها عين الاستعلاء والإحساس بدونية الأجناس الأخرى...!! ونصل إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي وقصيدة (منفى..!!) للشاعر الكاميروني "مبيلا سون ديبيوكو" حيث يصوِّر لحظة الإبحار في المجهول ، وهذه الأعداد الكثيرة تحت سمع وبصر من هم مُكلَّفون بتوفير الحياة الحقيقيية لكنهم لادور لهم ..لتظل العلاقة ممتدة بين هؤلاء الراحلين وأنسالهم وأكواخهم رغم ما يحمله المستقبل من غموض ...!!! فإلى الكاميروني "مبيلا سون" ورائعته ...(منفى...!!)
بصمتٍ ... يغادرُ القاربُ ذو الحمولة المفرطة شواطئنا
لكن، مَن الجنود المموهون !!
من تلك السحب الذاهبة ... كي تمطر في أراض غريبة !!!
الليل يفقدُ كنوزه ... ويبدو المستقبل أسطورةً ملتوياً فوق نولٍ تشتغل عليه أيدٍ كسولة.
لكن ربما لا يخلو الأمر من شيء جيد لنا
فيما من باب كوخٍ على بعد ألف ميل يدُ طفلٍ متقرِّحةٌ ومتقشرةٌ ... تحيّي أصابع المطر الطويلة والنحيلة ...!!