تلك آثارنا (22).. مجموعة السلطان قايتباي والحياة بين الأموات
د. محمد أبو الفتوح,
في منطقة هادئة وديعة، وبين زوايا التاريخ الساكن في القرافة الشرقية أو صحراء المماليك، تقف مجموعة رائعة من بقايا عصر المماليك، عصر الأبهة والفخافة والثورات والفتن، ما تزال تتمسك بالحياة، وتجاهد البقاء، وتقاوم عوادي الطبيعية والبشر، تحارب الرياح والأمطار والتلوث والغبار، وتعاني الإهمال والتعدي والجهل، بقايا من عهود خالية وآثار باقية منها الأضرحة «القباب»، والمساجد، والمدارس، والخانقاوات، التي يرجع معظمها إلى سلاطين المماليك، الذين كانت لهم صولات وجولات في جنبات التاريخ في مصر والشام والحجاز، وتركوا آثاراً ما تزال شاهدة عليهم وعلى تاريخهم.
والمماليك رقيق مُحاربون،استقدمهم الخلفاء العباسيون الأوائل من تركستان والقوقاز(جزء من روسيا حالياً) وغيرها وجعلوهم حراسًا لهم وقادة لجيوشهم، وقد ازداد نفوذ المماليك بمرور الزمن حتى أصبحوا يهيمنون على الخلافة وعلى مركز صناعة القرار، مُستفيدين من ضعف الخلفاء وتراجع نفوذهم. وحذا السلاطين والأمراء المسلمين حذو الخِلافة في بغداد، فكان لكل منهم جماعة من المماليك الأشداء وأصحاب الكفاءة العسكرية، ومنهم السلاطين الأيوبيين الذين حكموا مصر والشام تحت الراية العباسية، ولمَّا مات آخر سلاطينهم، وهو الملكُ الصالح نجم الدين أيوب سنة 1249 مـ، تولَّت شجرة الدر، التي كانت مملوكة لديه وتزوجها، السلطنة بدعم من المماليك مدة ثمانين يوماً، ولكن سرعان ما تنازلت عن الحكم لقائد المماليك عز الدين أيبك الذي تزوجها، وذلك بعد رفض الخليفة العباسي أن تُوسَّد ولاية الأمر إلى امرأة، وهكذا وصل المماليك إلى السلطة ولم ينتهي عهد المماليك إلا على يد آل عثمان وبعد هزيمة آخر سلاطينهم "طومان باي" وشنقه على بابا زويلة عام 1517م.
وعلى الرغم مما شاهد عهدهم من مد وجزر، وانتصارات وكبوات، وقلاقل وثورات، فقد شهد عهدهم نهضة علمية ومعمارية وفنية كبيرة، تشهد بذلك آثارهم المعمارية الباقية، ومنها مجموعة السلطان الأشرف أبو النصر قايتباي صاحب المجموعة الشهيرة في هذه الآثار المذكورة في صحراء المماليك أو القرافة الشرقية.
والسلطان أبو النصر قايتباي، جركسي الأصل (من القوقاز) كان قبل أن يعتلي كرسي السلطنة أحد أمراءالسلطان الأشرف برسباي، ثم اشتراه السلطان الظاهر جقمق واعتقه وترقى في المناصب خلال عهد الأشرف إينال، والظاهر خشقدم، ولما ولي الظاهر تمربغا عينه قائداً لجيشه، فلما ثار خاير بك والي حلب على الظاهر تمربغا، اتفق العسكر على سلطنة قايتباي فقبضوا على خاير بك وخلعوا الظاهر تمربغا من السلطنة بحضور الخليفة العباسي يوسف المستنجد بالله الثاني، وقضاة المذاهب الأربعة وبايعوا قايتباي على السلطة مُرغماً وكان ذلك عام 1468م، ليصبح السلطان الخامس عشر من ملوك الجراكسة وأولادهم بمصر والحادي والأربعين من ملوك المماليك، وكان عمره آنذاك أربعاً وخمسين عاماً، وظل سلطاناً على مصر إلى أن توفي سنة 1496م ليكون بذلك أطول سلاطين المماليك جلوساً على كرسي السلطنة بعد الناصر محمد بن قلاوون، حيث ظل يقوم بمهام الدولة مدة 29 عاماً تقريبًا بينما وصل حكم الناصر محمد ابن قلاوون 32 عاماً.
وينسب إلى السلطان قايتباي ما يزيد على سبعين أثرًا إسلاميًا باقياً ما بين إنشاء وتجديد، منها منشآت كثيرة في مكة والمدينة والقدس، وطائفة من المنشآت في مصر تنوعت بين المساجد والمدارس والوكالات والمنازل والأسبلة والقناطر، وعنى بالحصون فأنشأ قلعة بالإسكندرية وقلعة أخرى برشيد، وامتازت كل منشآته بالرشاقة ودقة الصناعة.
ولعل أشهر وأعظم ما بقي من آثاره الإنشائية، مجموعته الشهيرة بصحراء المماليك أو القرافة الشرقية وتضم مسجداً، ومدرسة، وقبة (ضريح)، وسَبيل، وكُتَّاب، ومِقعد للسلطان، وحوض لسقاية الدواب ورَبع لإقامة الصوفية (أو ما تسمى بالخانقاة).
اختيرت القرافة الشرقية موقعاً لبناء المجموعة وتقع إلى الشرق من حي العباسية حالياً، حيث توجد بعض آثار الملوك السابقين، مثل: خانقاة السلطان الأشرف برسباي، وخانقاة السلطان الناصر فرج بن برقوق، وخانقاة السلطان الأشرف إينال، ومسجد الأمير قرقماس،
والـ "قرافة" هو الاسم الذي يطلق على الجبانات في مصر دون سائر البلاد العربية، ويعود أصله إلى قبيلة من المغافر ذات الأصول اليمنية،جاءت إلى مصر مع الفتح العربي أو بعده مباشرة واستوطنت هذا المكان الذي يطلق عليه قرافة المماليك ولهذا نسب إليهم، أما الـ "الخانقاة"، فهي كلمة معربة عن الأصل الفارسي "الخانگاه"، هي المكان الذي ينقطع فيه المتصوف للعبادة، ويجمع في تخطيطه ما بين مسجد ومدرسة وغرف يختلي فيها، أو ينقطع بها المتصوف للعبادة.
وتتمثل الوجهة الرئيسية للمجموعة في الوجهة البحرية وبها الباب الذي حلي عتبه بالرخام الملون والكتابات، وتغطيه المقرنصات المنقوشة الجميلة. وعلى يسار الباب يقع سبيل يعلوه كُتَّاب له وجهتان غربية ذات عقدين وشرقية ذات ثلاثة عقود. وعلى يمين الباب المئذنة أو المنارة التي ترتفع إلى علو 40م تقريباً، وتتكون من ثلاث دورات، وتعد من أرقى مآذن المساجد في مصر.
وتنتهي الوجهة الشرقية من الجهة القبلية بقبة عالية على سطحها نقوش هندسية مورقة. أما الباب الأيمن فيؤدي إلى طرقة مستطيلة بصدرها باب يؤدي إلى المنارة والكُتَّاب.
يحيط بالصحن أربعة إيوانات معقودة، وأكبر هذه الإيوانات إيوان القبلة،أو إيوان المحراب، وهو محاط بطراز مذهب. وفرشت أرضية الصحن بدوائر رخامية ملونة وفرشت كذلك أرضية الإيوانات والمداخل بالرخام الملون، ونقشت حجور الشبابيك بزخارف جصية، ويغطي الصحن سقف يتوسطه منور نقش بزخارف ملونة ومذهبة، وتتوسطه قبة صغيرة.
قُسِّم الإيوان الغربي إلى ثلاثة أقسام تغطيها سقوف ملونة مذهبة، وفي القسم القبلي منه حجرة المكتبة التي نقلت كتبها إلى دار الكتب المصرية. وفي الركن البحري الغربي للصحن باب يؤدي إلى سلم يهبط إلى الباب الغربي للمسجد وهو المعروف بباب السر.
وتلاصق القبة الإيوان الشرقي من جهته القبلية، وهي قبة عالية نقشت من الخارج في الحجر ونقشت من الداخل بزخارف ملونة ومذهبة وبها مجموعة من الشبابيك الجصية الدقيقة، وأحيطت جدرانها بوزرة رخامية، وبها كرسي المصحف المطعم، ومحرابها حجري كسي أسفله بأشرطة رخامية وحلي بزخارف مدقوقة وملونة وأمامه مقصورة خشبية بها قبر السلطان قايتباي، فرشت أرضيتها بالرخام الملون، ودفن في هذه القبة أيضاً ابنه الملك الناصر محمد، وغربي القبة قبور خاصته وأقاربه وإحدى سراريه "دولات باي".
أما الحوض فهو بناء منفصل يقع بين رَبْع الصوفية (الخانقاة) والمدرسة، وكان يستخدم لسقاية الدواب، وهو مساحة مستطيلة الشكل يحيط به من الخارج سور حجري يعلوه سور حديدي. وبالنسبة للربع فهو بناء من ثلاثة طوابق، وبالجهة الغربية للمسجد يقع مقعد السلطان وله إزار جميل يعلو الواجهة.
تعتبر مجموعة السلطان قايتباي الأثر الوحيد بين آثار صحراء المماليك الذي احتفظ بكثير من تفاصيله مما ساعد على إعادتها إلى أصلها، فعنيت بترميمه لجنة حفظ الآثار العربية في المدة من 1893م حتى 1897م وشملت أعمال الترميم تقوية المباني، وإصلاح الرخام والسقوف والأرضيات، والنجارة، والشبابيك الجصية، وإصلاح المنارة وتقويتها.
كما قامت هيئة الآثار المصرية بترميم الآثار الإسلامية بمنطقة صحراء المماليك، حيث أعيد فك وإعادة بناء الأحجار التالفة بالجدران الداخلية والخارجية للمسجد والسبيل، مع ترميم الأعتاب المزرره للشبابيك السفلية، وتبليط أرضية مدخل المسجد وحجرة السبيل ببلاط حجري، وترميم واستكمال بناء جدران المدفن الملحقة، وغيرها من أعمال العزل والتنظيف وإعادة تذهيب العناصر الزخرفية.
في عام 2015م انتهت أعمال ترميم حوض السلطان قايتباي وإعادة توظيفه وتحويله إلى منفذ لعرض وبيع منتجات الحرفيين. ضمن المشروع بدأت أعمال ترميم مقعد السلطان قايتباي بذات المنطقة، وكلا المشروعين تم بمنحة من مفوضية الاتحاد الأوروبي كجزء من برنامج التعاون الثقافي المصري الأوروبي، وبمساهمة من سفارة هولندا، كما قام مكتب أركينوس للعمارة في مصر بأعمال التصميم والتنفيذ وذلك بالتعاون مع وزارة الآثار والتراث من خلال مشروع ترميم وتطوير القاهرة التاريخية.
ومما يؤسف له؛ ونظراً لتميز الأعمال الفنية لعناصر المجموعة الأثرية، فقد كانت هدفاً للصوص الآثار في أكثر من مناسبة تمثلت في سرقة حشو كرسي المصحف، وكذلك سرقة الصرة النحاسية، وفي المرة الثالثة سرق الحشو الرئيسي لمنبر المسجد، وهو مجموعة من قطع العاج الثمينة.