في ذكرى وفاته.. قصص من حياة الفنان جميل راتب| صور
أوهمت أهلي أنني في كلية الحقوق
حفزتني هذه الانتصارات على أن أتمسك بالفن ولا أختار سواه
بدأ المتفرجون يحطمون المقاعد فلذنا بالفرار أنا وزملائي
أجدنا إلى جانب التمثيل وظائف أخرى لا تقل عن الفن نفعًا في الحياة
تحل علينا اليوم الموافق 19 من سبتمبر الذكرى الخامسة لرحيل الفنان الكبير جميل الراتب، صاحب الحضور السينمائي المميز على الساحة المصرية والعالمية، بالإضافة إلى كونه مثل عدَّة أفلام باللغة الفرنسية والتي كان يجيدها بطلاقة، وقد كانت بدايته في المسرح حينما سافر إلى باريس ودرس الفنون هناك، واشتغل بالتمثيل المسرحي حتى احتفت به الصحف الفرنسية والعالمية.
وحينما عاد جميل راتب إلى مصر عام 1954، لكي يشترك في تصوير إحدى الأفلام، قدم لـ«مجلة الكواكب» في عددها الصادر بتاريخ 2 نوفمبر عام 1954 رقم 1299، جزء من سيرته الذاتية تحت عنوان "قصص من حياتي"، تقدمها «الهلال» للقارئ احتفاءً بذكرى جميل راتب.. وإلى نص المقال:
"إن المستقبل الذي رسمْته لنفسي شيء آخر غير الذي رسمَته لي أسرتي فقد كان كل أمنية أسرتي أن أكون محاميًا، ولكن كنت أحس أنني لا أستطيع أن أعيش بعيدًا عن الفن الذي أجد نفسي معلقة به كل ساعة من ساعات حياتي.. ولهذا لم يكن غريبًا أن أفشل في دراسة الحقوق في مصر، وأن أقترح عليهم السفر إلى باريس حيث أجد الفن الذي يشغلني عن استذكار دروسي فأنقطع للقانون!
وحين وصلت إلى باريس التحقت بأحد المعاهد الفنية وأوهمت أهلي أنني في كلية الحقوق التي اختاروها لي، وكنت في نهاية كل عام أبرق لهم بنبأ نجاحي، وكان النجاح حليفي فعلًا ولكنه نجاح في التمثيل لا في القانون! إلى أن تخرجت في ذلك المعهد بعد ثلاث سنوات ونالت الجائزة الأولى 1949 وأذكر أنني خلال أيام الدراسة فزت بجائزة أخرى عندما مثلت مع فرقة من الهوة -كنت أنا أحد أعضها- رواية "مصرع تاريكيه".
وقد حفزتني هذه الانتصارات على أن أتمسك بالفن ولا أختار سواه، وبعد تخرجي بعام واحد وكنت حائزًا لثقة جميع اللذين تعرفت عليهم في الوسط الفني الفرنسي.
وبعد عام آخر قدمني "جان مارشان" إلى فرقة الكوميدي فرانسيز أشهر الفرق الفرنسية، ونلت نجاحًا على المسرح وفكرت في الاشتغال بالسينما، وكان أول فيلم عملت فيه هو فيلم "ليلية في جان بريمان" وكنت أتوقع لهذا الفيلم أن يسجل نجاحًا باهرًا ولكني صدمت حين أُبلغتُ أن الرقابة قد منعت عرض الفيلم بعد اللية الأولى.. نظرًا لمخالفته للآداب.
إضراب
وعدت إلى المسرح ثانية، وفي تلك الأثناء كانت موجة من إضرابات العمال تجتاح فرنسا، حتى شُلت الحياة في باريس شللًا يكاد يكون كليًا، فحبذنا في تلك الأثناء تمثيل مسرحية أمريكية مترجمة عنوانها "العطلة عند العمال"، وهي في مجموعها تحارب فكرة الإضراب وتعتبره نوعًا من الأنانية تصاب به طوائف العمال، فضلًا عن أنه وسيلة غير مشروعة لنيل الحقوق.
وكان دوري دور عامل يُبصر زملاءه دائمًا بعواقب الإضراب الوخيمة وبجانيته على مصالح الوطن ويشتد به الحماس وهو يُسدي النصائح لزملائه فيخطب فيهم بعبارات قوية رصينة حتى يستطيع إقناعهم.
والذي حدث أنني في أول ليلة وقفت فيها على المسرح لأخطب في زملائي كما يقتضي دوري في الرواية، سمعت هتافًا كالرعد بسقوطي، وسقوط المؤلف، وسقوط الرواية، ثم بدأ المتفرجون يحطمون المقاعد فلُذنا بالفَرار أنا وزملائي قبل أن يفتكوا بنا فتكًا ذريعًا، وعلمنا بعد ذلك أن الغالبية العظمى من متفرجي تلك الليلة كانوا من العمال المضربين المتعصبين لفكرة الإضراب، وقد تجمعوا ليفسدوا علينا ما رمينا إليه في مسرحيتنا وهو أن نقنع العمال بالعدول عن الإضراب، ولولا عناية الله في تلك الليلة لقُتلنا جميعًا.
روسي
ولست أنسى مسرحية من مسرحيات "ديستوفيسكي" وكانت مسرحية "الجريمة والعقاب"، التي تدور حوادثها في روسيا وقد كان مُخرج هذه الرواية أستاذًا روسيًا من الروس البيض، وقد قمت فيها بدور عامل روسي وأتقنت الدور إتقانًا جعل الرجل ينظرُ إليَّ طويلًا ثم يسألني: "هل أنتَ روسي؟" فأجبته: "كلا أنا مصري".
ولكنه لم يصدق قولي وأصرَّ على أن أذهب معه إلى السفارة المصرية في باريس ليسمع شهادة الموظفين الرسميين، واقتنع أستاذنا الروسي بأنني مصري ولكنه أصرَّ على أن تُعلن الفرقة في دعايتها للمسرحية أن البطل روسي الجنسية فعلًا، وكانت هذه الدعاية سببًا في أن يتضاعف الإقبال على المسرحية، وفي أن يصدق المتفرجون ما قاله الأستاذ الروسي.
كوَّنت فرقة
ولم يكن نشاطي في المسرح يقتصر على تلك الأشهر المعدودة التي أعمل مع الفرقة الرسمية، بل لقد كوَّنت فرقة من زملائي المتحمسين للفن ومن بعض الهواة، وكنَّا نقوم برحلات إلى مدن فرنسا وقُراها البعيدة، ولم تكن إمكانياتنا المالية تسمح لنا بالبذخ وباستخدام الرجال ليقوموا بطهي طعامنا أو تنظيم مسرحنا أو إعداده للعرض.
كنا نعيش كخلية مليئة بالنشاط والحركة، كل منَّا يقوم بعمل، فمنا مَن يطهو الطعام، ومنا مَن يُنظف الأرض، ومنا مَن يتخصص في رفع الستائر وفي إعداد المقاعد، حتى أجدنا إلى جانب التمثيل وظائف أُخرى لا تقل عن الفن العظيم نفعًا في الحياة.