رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


متى تدفنون القضية؟!

27-9-2023 | 12:19


محمد الشربيني,

لم أكن أُدرك كلما أنهي البرنامج الإذاعي صباح كل يومٍ دراسيٍّ-أن هتافنا اليومي (تحيا الجمهورية العربية المتحدة) لا يدع  جرح انفصال"مصر وسوريا"يغادر واجهة الذكريات ، كنتُ في الصف الثاني الابتدائي جهيرَ الصوت ، منحنى استمراري في حفظ القرآن الكريم ثقةً كبرى في المرور بهذي المواقف دونما وجلٍ، وكان هتافنا يشبه زئيراً ترتجُّ له جدرانُ مدرستي-"السيدة عائشة الابتدائية" الكائنة في حي الورديان السكندري شارع القفال- وما حولها من بيوت لأناس بسطاء محبِّين للوحدة مرحبين بها ..!!؛ ليأتي الانفصال طعنةً تفجِّر أحزانهم وتصيبهم  باليأس ..!! لا يهم مَنْ تسبَّب في الانفصال بين الإقليم الشمالي"سوريا" وبين الإقليم الجنوبي "مصر"؛ لكنه- أي الانفصال- وما تلاه من أحداثٍ دراماتيكية على مدار ست سنوات مهَّد الطريق لحدوث نكسة يونيو67 ؛ ليهدر الشعر يشخِّص أسباب الهزيمة ، وما بين "لو" المتكررة ونتيجة الشرط وجوابه القاسي مشاويرُ من الاتهامات :( ‏‏لوأننا لم ندفن الوحدة في الترابْ/ لو لم نمزِّق جسمَها الطريَّ بالحرابْ/ لوبقيتْ في داخل العيون والأهدابْ/ لما استباحت لحمَنا الكلابْ ..‏‏!) هكذا يرى"نزار قباني"ابن الإقليم الشمالي السوري ،ومعه الشعب العربي ؛ إذْ أراد أن تستدرك الأجيال القادمة ، وتتنبه لما لم نأخذ الحذر والحيطة منه يقول :(نريد جيلاً يُفْلِح الآفاق/ وينكش التاريخ من جذوره/ وينكش الفكر من الأعماق/ نريد جيلاً قادماً مختلف الملامحْ / لايغفر الأخطاء لايسامحْ /نريد جيلاً رائداً عملاق ..!)‏‏
ورغم انغماس شعر"نزار قباني" في عالم المرأة (من ساسه لراسه) مثلما يقول المثل الشعبي ؛ إلا أن مرارة النكسة في الحلوق فجَّرتْ ينبوع أحزانه ؛ لتنطلق قصائده رصاصاتٍ تصيب الجميع -حكاماً ومحكومين- شديدة القسوة في مواجهة الشعراء أصحاب الخانعين في قصيدته"شعراء الأرض المحتلة": (مازلنا منذ حزيران ..نحن الكتاب/نتمطَّى فوق وسائدنا/نلهو بالصرف وبالإعراب/يطأ الإرهاب جماجمنا ونقبِّل أقدام الإرهاب/نركب أحصنةً من خشبٍ .. ونقاتل أشباحاً وسراب...!!) ويوجِّه رسائله النارية إلى القابضين على جمر القضية حيث يقول:(محمود درويش..سلاما / توفيق الزيَّاد..سلاما/ يا فدوى الطوقان..سلاما/ يا من تبرون على الأضلاع الأقلام..!!/ نتعلم منكم كيف نفجر في الكلمات الألغام/ شعراء الأرض المحتلة...ما زال دراويش الكلمة/ يحسون الشاي الأخضر...يجترون الأحلاما.../لو أن الشعراء لدينا../يقفون أمام قصائدكم/لَبَدَوا..أقزاما..أقزاما..!!) ، وتصدمنا قصيدة "جريمة شرف" بهذي التصويرات لواقعٍ مخزٍ ‏‏عن ذلك ال"قيس"الكاتبِ شعرَه العذريَّ ، ولا يدري بتسرُّب اليهود لفراش ليلى العامرية...!! وهذا التواطؤ من كلاب الحيّ إذْ لم تنبحْ ، وكذلك البنادق تيبَّستْ رصاصاتُها ...!! الكل غير مكترث ، وحالة التبلُّد طالت الجميع :‏‏ (الشمس تشرق مرةً أخرى .. وعمال النظافة يجمعون أصابع الموتى وألعاب الصغارْ/ الشمس تشرق مرة أخرى .. وذاكرة المدائن مثل ذاكرة البغايا والبحارْ!! /الشمس تشرق مرة أخرى .. وتمتلئ المقاهي مرة أخرى .. ويحتدم الحوارْ !!)‏‏ ؛ لتمرالأعوام وتأتي قصيدة "المهرولون"المهاجمةُ اتفاقية"أوسلو" يقول:( سقطت آخر جدران الحياء..!!/ وفرحنا..ورقصنا..تَبَاركْنا بتوقيع سلام الجبناءْ / لم يعد يرعبنا شيءٌ..ولا يخجلنا شيءٌ ..فقد يَبِستْ فينا عروقُ الكبرياءْ..!!)...(ما تفيد الهرولةْ؟/ عندما يبقى ضمير الشعب حيَّاً كفتيل القنبلةْ/ لن تساوي كل توقيعات أوسلو خردلةْ..!!) ورغم ما في قصيدته  "متى يعلنون وفاة العرب؟!!"من انهزامٍ للشعور القومي ، وتحطيمٍ  للعرب الذين يرعدون ولا يمطرون ..!! ، ويمضغون جلود البلاغة مضغ العلكة ولا يهضمون ..!!يظل الأمل حاضراً في قلب وشعر"نزار قباني" يقول في" منشورات فدائية":( عقارب الساعة إن توقفت لابد أن تدورْ/إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا .. فالريش قد يسقط من أجنحة النسورْ..!!/ والعطش الطويل لايخيفنا .. فالماء يبقى دائماً في باطن الصخورْ/ قطعتم الأشجار من رؤوسهاوظلّت الجذورْ.!)‏‏
لكن لِمَ هذا الوقوف بين يديْ "نزار قباني"... ؟!! لشيءٍ مخجلٍٍ ... أين الشعراء من قضايا الأمة ؟!! إن التبلُّد الذي يستشري في جسد الأمة ، والانبطاحَ المحتلَّ أدمغةَ الكثيرين إنما مردُّه إلى تخاذل المبدعين-وعلى رأسهم الشعراء-الذين انكفأوا على ذواتهم ، يعالجون قضايا فردية لا تمس واقعا مليئاً بالتحديات المصيرية بدعوى التحوُّل من القصيدة إلى النص ..!! ومن الجماعة إلى الفرد..!!أين الشعراء من بعْث الأمة واستنهاضها ؟!!                                                                                                                                               
ونصل سريعاً محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي وقصيدة (في بلاد الموتى) للشاعر الكيني"جاريد أنجيرا"تجربةٌ مريرةٌ هذا التبلُّد إذْ يحاصرك ولا أحد معك ..!!                                                                                                                                                                                                             
في بلاد الموتى أتحدثُ ولا ألقى جواباً ... أبكي ...وليس ثمَّة من يُشفق عليَّ
أنظرُ حولي ...فلا أرى لوناً .. أصغي ...فلا أسمع صوتاً في بلاد الموتى..!!
أصيح ...فيضرب الصدى صخر الطريق
أرتطمُ بكتلة صخرٍ ..فيتشوَّه إصبع قدمي
أبكي ...لا أحد يرأف بحالي في بلاد الموتى.
بحثتُ عن مخرج ...لكنني لم أسمع أية بومات ...ولا ببغاوات،
كانت الأمواج ترغي وتزبدُ بعيداً فوق حطام السفن ... والرمال تحدِّق معي في بلاد الموتى!!.