رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


هل سنتلو سُورةَ اليَأْسِ..؟!

4-10-2023 | 16:37


محمد الشربيني,

منذ أن عرف العرب الشعر جعلوه النافذة الكبرى التي يُطلّون منها على الحياة بكافة فصولها وصورها، واتسع ثوب الشعر ليصبح ديوانهم الحقيقي المشتمل على كل المواقف والعواطف؛ فهل ندهش لو وجدنا للشاعر الواحد ما يجعلنا نعده حكيم قومه .. وهو هو بأشعاره نراه شديد التهور لدرجة الانتحار ..!! إنها عظمة الشعر التي تمنح الشاعر المساحة الكاملة لينطلق دونما استدعاءٍ لمقولاته السابقة ..!! فَلَه أن تتغير عواطفه وأيضا مواقفه دونما مطالبةٍ بتبريرٍ أو عرض أسبابٍ؛ هو مُطَالبٌ فقط أن يتخيَّر من الوسائل ما يضمن له الأخذ بأطواق المتلقين دون أن يفقدوا الشغف!!                                                                       

وكنت أرى الشاعر العربي شديد الذكاء ؛ فهو إن وقف على الأطلال قديماً واصفاً ما سبق من أحوالها، وما آلتْ إليه حال وقوفه بها من اندثارٍ وغياب ملامحٍ ...نظراً لرحيل أصحابها ، وكل ذلك مظهرٌ من مظاهر اليأس إلا أنه كان يستصحب براعم الأمل في ثنايا قصيدته؛ يبدو ذلك جلياً في افتتانه بمحبوبته التي ملكتْ فؤاده بمحاسنها فيشبِّب بها بائحاً بشوقه وانتظاره اللقيا ... هكذا إذاً ؛ يتأرجح الشاعر ما بين أمواج اليأس فمرَّةً يغرقه ومرة يرفعه، ليطلَّ هذا التأرجحُ من بين ثنايا شعره ... يدفعه يأسٌ إلى النُّهوضِ بحثا عن بصيص أمل ٍ..!! ويُغريه يأسٌ بالغرق إلى القاع المظلم حتَّى أقصاه ..!! ولكلٍّ منَّا -نحن البشر شعراء ومتلقين - ما يجعلنا نخرج من يأسنا إلى باحة الأمل شريطة أن نتكبَّد عناء البحث. ... أجلْ لقد وصل قيس بن الملوَّح إلى طريقٍ مسدودٍ في حبِّه حتَّى تمنَّى أن يكره ليلى إن لم يكن له منها وصالٌ يَشْفِي يأسه ، وكأنه يستلهم الحكمة العربية ..(اليأس إحدى الراحتين) ، تتجلى بساطته في التوجُّه إلى خالقه الذي قدَّر عليه حبَّ ليلى طالباً أن يقدِّر عليها حبه كما قدَّر عليه حبها (فَيارَبُّ إِذ صَيَّرتَ لَيلى هِيَ المُنى/ فَزِنِّي بِعَينَيها كَما زِنتَها لِيا) ، وإلا فليغادرْ الحب قلبه (وإِلّا فَبَغِّضْها إِلَيَّ وأَهلَها/ فَإِني بِليلَى قَد لَقيتُ الدَّواهِيا ) ويتوجه إلى صاحبيْه جرياً على عادة سابقيه كي يعيناه على تجرُّع الموت ؛ فهو الدواء الشافي من مشاق الشوق وتبعات البعد يقول (خَليلَيَّ إِن ضَنّْوا بِلَيلَى فَقَرِّبا/ لِيَ النَّعشَ والأكفانَ واستغْفِرا لِيا) ، ورغم اختياره الموت دواءً ..!! إلا أن بصيصَ أملٍ يُطلُّ في ختام القصيدة ، إذ يأمل وصول سلامه الحار لعلها تدرك ماذا جنت ..!! ( وإنْ متُّ مِن دَاءِ الصَّبابةِ فأبلِغا / شبيهةَ ضَوء الشَّمسِ مِني سَلامِيا)..!!                                                                                                                                                        ويأبى "الجواهري" شاعر العراق إلا أن يغمس يأسه فيما يمر به وطنه (قد كنتُ أقربَ للرَّجاءِ فصِرتُ أقربَ للقُنوطِ) (كلُّ البلاد إلى صعودٍ والعراقُ إلى هُبوطِ) دون مواربةٍ أو استخدام تراكيبَ منمقةٍ ، حدد الشاعر حالته النفسية وأسبابها ، وينحو باللائمة على بني وطنه ؛ فهم أهم أسباب انحدار الوطن بتثاقلهم وركونهم إلى دعة العيش ، وهذه الآفة الكبرى سقط فيها الشيوخ والشباب (وَجَدْتُ أقتَلَ ما عانَت مصايُرنا / وما التَوَى الشَيبُ منهُ والشَّبابُ مَعا) (أنَّا رَكِبِنَا إلى غَاياتِنا أمَلاً/  رَخْواً إذا مَا شَدَدنا حَبلَهُ انقطَعَا) ، وصراحة الشاعر تدفعه إلى الاعتراف المرِّ باللاجدوى من المحاولات لاسترداد ما سُلِب لماذا ..!! لأننا شعوبٌ تعشق الفخر بماضيها دون تقديم ما يجعل الحاضر أهلاً للفخر (كم ذا تُلحُّونَ إن تَستَوقِدوا قَبَساً/ من الرَّمادِ ومِمَّن مَات مُرتَجَعا) ، ولقد جاءت رائعة "محمود درويش (للْحَقيقَة وَجْهان) مصورةً اليأس الذي استولى على وجدان الجميع ؛ فنحن من سيئٍ إلى أسوء ، وما كان من المسلمات اخترقتْه الشكوك (لَمْ نَعُدْ قادرين على الْيأْس أكْثرَ مما يَئسْنا..) وتتملَّكنا الحيرة معه (منْ سيُنْزِلُ أَعْلامنا: نَحْنُ، أم هُمْ؟ وَمَنْ سوْف يتلو عليْنا مُعاهَدَة اليأْسِ .. يَا مَلِكَ الاحْتِضَارْ؟!!) إن الشاعر الرائي يتسوَّر حائط الغيب يقرأ الإشارات (كُلُّ شَيْءٍ مُعَدُّ لنا سلَفاً ، منْ سينْزعُ أَسْماءنَا عنْ هُويَّتنا: أَنْتَ أمْ هُمْ؟ وَمَنْ سوْفَ يزْرعُ فينا خُطْبَةَ التّيهِ..!!) ومابين طرفي الكماشة ( العدو المحتل/ ملك الاحتضار) يبرع الشاعر في نقل سوداوية نظرته دونما نجد ومضةَ أملٍ .. هل فقد درويش تفاؤل المقاتل ؟!!                                                                                                                              ونصل إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي وقصيدة (كل ثلاث ساعات لا يصل أحدنا إلى البيت) للشاعرة الجنوب أفريقية "كوليكا بوتوما" ولعل هذه القصيدة يشي عنوانها بسوداوية نظرة الشاعرة لما عانته جنوب أفريقيا من أهوال العنصرية التي لم تسلم منها الأجيال ( الأم/ الشاعرة) ؛ ليأتي ختام القصيدة صادماً :
هذه البلاد تشنقُ كرامتنا في منتصف الطريق ...
تُلوِّح بأجسادنا .. كدروسٍ .. أو لحظاتٍ يجب أن تُعلِّمَنا شيئاً ما
لستُ هنا كي أعلمكم ..
كيف تستأصلون حنجرة أمي وهي مدفونةٌ
كي تعوضوها عن عذابها وحزنها بِمِنَحٍ .. وسياساتٍ يتجمَّعُ عليها الغبار حتى قبل أن تُنسخ
هذه البلاد تدفننا قبل أن نولد .. تنادينا بأوراق نعينا قبل أن تنادينا بأسمائنا..!!