رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


في حديث مهم لـ«الهلال».. أسرار جديدة يذيعها الرئيس السادات لأول مرة

7-10-2023 | 15:22


الرئيس أنور السادات

أمنية السعيد

في يوم الخميس 16 سبتمبر.. توجهت إلى صندوق الانتخابات مع الملايين من أبناء مصر وقلت: نعم.

نعم للسادات رئيسًا للجمهورية.

ونعم للسادات أبًا للشعب.

ونعم للسادات حاميًا لحقوق العامل والفلاح والمواطن البسيط.

ونعم للسـادات الذي رَدَّ إلينا الطمأنينة والأمن فلم نعد نخشى من زوار الفجر ولا من أي زائر غريب مخيف في أي وقت من أوقات الليل أو النهار... فقد رفع السادات راية القانون وأطلق في سماء بلادنا نور الحرية الكاملة لكل المواطنين حتى يعبروا عن أنفسهم بلا خوف من آلة تسجيل خفية، أو أداة تعذيب رهيبة، أو سلطة على لقمة العيش تخطف الرغيف من كل فم يتكلم أو لسان ينطق:

وقلت نعم للسادات - فوق هذا كله - لأنه حمل عزيمة الفلاح المصري العربي وصبره وإيمانه وبسالته وصمم على تحرير تراب مصر من العدو الغاصب، ومازال يحمل راية التحرير بكل بسالة وإخلاص وإيمان ... حتى يتم استرداد كل شبر فقدناه وكل حبة رمل.

قلت نعم للسادات صباح الخميس 16 سبتمبر. 

وبعد الإفطار في نفس اليوم كنت في طريقي إلى موعد آخر مع الرئيس السادات في بيته في ميت أبو الكوم، حتى اللحظة الأخيرة كنت أتصور أن الرئيس سوف يعتذر عن لقائي ويؤجله.

فقد كان هذا اليوم هو يوم الاستفتاء على رئاسة السادات للجمهورية، ولعل من حق هذا القائد العظيم، أن يتفرغ اليوم ليسمع رأي شعبه، ونبض القلب في هذا الشعب.

وكان الرئيس السادات من ناحية أخرى يستقبل الزعماء اللبنانيين ليواصل دوره الرائد في حلِّ الأزمة اللبنانية وإيقاف مذبحة رهيبة تجري في تلك البقعة العربية الجميلة التي كانت جنة يأتي إليها الناس من الشرق والغرب ليهدأوا فيها ويستمتعوا بالحياة، فأصبحت جحيمًا يحترق فيه أبناؤه وتتهدم بيوته وتتحول حدائقه إلى خرابات وأراض محروقة، كنت أتصور أن مشاغل أنور السادات في ذلك اليوم سوف تؤدى إلى إلغاء الموعد أو تأجيله.

ولكن الموعد ظلَّ قائمًا...

 استقبلني الرئيس السادات في بيته في ميت أبو الكوم، وقضيت معه أربع ساعات يحدثني فيها عن 6 أكتوبر... لم يكن القائد العظيم مشغولًا بقضية الاستفتاء فقد كان وجهه هادئًا وقلبه مطمئنًا؛ لأنه يعرف أكثر من الكل ما بينه وبين شعب مصر من ثقة عميقة لا خوف عليها ولا قلق... أنه يعرف مصر كما تعرفه... والحب بينهما لا شبهة فيه ولا شكوك حوله... وموعد اللقاء بينه وبين مصر قائم على الدوام قبل الاستفتاء وبعد الاستفتاء.

وكان القائد العظيم قد عقد أكثر من اجتماع مع زعماء لبنان وكان يستعد لاجتماعات أخرى في الغد وبعد الغد...

وقد وجدت في حرص السادات على موعدي معه معنى أعرفه في هذا القائد العظيم...  وأعرف عنه أكثر من دليل وبرهان...

هذا المعنى هو اعتزاز السادات بيوم 6 أكتوبر وحبه للحديث عن هذا اليوم العظيم... فهو يعرف 6 أكتوبر أكثر مما يعرفه أي إنسان... إنه صاحب القرار في هذا اليوم وقائد العبور من الغرب إلى الشرق ومن الشك إلى اليقين ومن الهزيمة إلى النصر.

وهو الرجل الذي خاض في وسط ضباب التشكيك وروح الانهزام معركة من أخطر معارك التاريخ...

إن السادات يحب 6 أكتوبر ويفهمه حق الفَهم ويملك في الحديث عنه كنزًا لا ينتهي من التجارب والأفكار والأسرار...

 ومن هنا بقي موعدي مع الرئيس كما هو؛ لأن حديثنا كان عن 6 أكتوبر...

وتحدث الرئيس أربع ساعات متواصلة، وأجاب عن أسئلتي بإفاضة وعمق ووضوح، وأزاح الستار عن أسرار جديدة... وكنت وأنا أستمع إليه خلال هذه الساعات كأنني أرى على شاشة سحرية مجد مصر وقلب مصر وروحها النابض الذي لن يموت أبدًا... وسيظل يُنجب أيامًا عظيمة مثل 6 أكتوبر وقادة عظماء مثل: أنور السادات، إن 6 أكتوبر ليس معركة عسكرية عابرة، ولكنها معركة حضارية كاملة تمثل انعطافًا في تاريخ العالم كله...

دخل العرب بعد 6 اكتوبر مجال التاريخ الإنساني الحي، بعد أن صدرت الكتب والبحوث التي تقول عنهم إنهم شعب ميت لا أمل فيه ولا مستقبل له...

وانهزم الغرور الصهيوني الذي جاء إلى الوطن العربي ليقول إنه يُمثل الحضارة والعقل والفكر والقوة التي لا تنهزم أبدًا... أمام جماعات كالهنود الحمر اسمهم العرب.

تغير وجه التاريخ...

 وبدأنا نسترد كرامتنا وقدرتنا على المشاركة في أحداث العالم... وفي هذا الحديث الدقيق الشامل خطوط ولوحات وأضواء على معركة 6 أكتوبر... حرصتُ على تسجيلها بكل ما أملك من الدقة؛ لأنها صادرة من قائد معركة أكتوبر وقائد كل معارك النصر في الغد إن شاء الله... وقد عدت بعد أن استمعت إلى حديث القائد أنور السادات لا أرى أمامي سوى الأمل والثقة رغم ما يتراءى في الأُفق العربي من مشكلات وأحزان وهموم.

إنه قائد مليء بالأمل والتفاؤل والمقدرة على الرؤية العميقة بعيدًا عن المظاهر السطحية المؤقتة..

 قائد يرى النور في أشد أوقات الظلام ويؤمن بالأمة والمستقبل ويثير في القلب كل القدرة على التفاؤل والحماس للحياة وللوطن وللغد.. والأجيال القادمة.

وهذا هو نص حديثي مع الرئيس أنور السادات... وضوح وعمق ورؤية صحيحة..

 وثقة عالية في مصر والأمة العربية كلها:

 ذكرتم أكثر من مرة أن قواتنا المسلحة كانت كبش فداء عام 1967 وإنها لم تحارب معركتها الحقيقية، وإنها تحملت الظلم الذي وقع عليها بالرغم عنها.. ما هي في رأيكم تلك العوامل التي جعلت من قواتنا المسلحة كبش فداء في جولة يونيو 1967؟

الرئيس:

 لكي أروي هذه القصة لابُد أن أعود إلى الوراء قليلًا، ففي أول يونيو سنة 1967 كان واضحًا كل الوضوح أن إسرائيل قررت أن تقوم بعدوان علينا وأن تدخل معركة ضدَّنا، ففي ذلك اليوم شكلت إسرائيل حكومة ائتلافية  دخلها "موشي ديان"، كوزير للحربية، وكانت هذه الحكومة تعني شيئًا واحدًا هو: "الحرب"، وفي هذا الوقت كانت قواتنا كلها محتشدة في سيناء، وكنت أذهب إلى القيادة وأُحضر الاجتماعات التي كان يعقدها جمال عبد الناصر -رحمه الله- وقد امتدت مدة الاجتماعات طيلة الأسبوع الأخير من مايو وانتهت يوم 2 يونيو، وكنا نراجع كل شيء في هذه الاجتماعات ومعنا قادة القوات المسلحة، وهذا ما جعلني أخيرًا أشير على لجنة التاريخ أن يأخذوا شهادة هؤلاء  القادة العسكريين الذين ما زالوا أحياء.. إن هذه الشهادات ستكون مهمة جدًا حتى تصبح المسائل مؤصلة.

كنا نجتمع كما قلت لك مع قادة القوات المسلحة، وكان واضحًا منذ يوم الخميس أول يونيو أن المعركة قادمة لا ريب فيها، وكان آخر اجتماع لنا في القيادة قبل الحرب هو الاجتماع الذي عقدناه يوم الجمعة 2 يونيو، وفى هذا الاجتماع صدَّق جمال عبدالناصر بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة على الخطة العسكرية الكاملة.

في يومي السبت والأحد لم نذهب إلى القيادة، وفي يوم الاثنين، يونيو صباحًا استيقظت من نومي كالمعتاد، في وقتي الطبيعي.. استيقظت لأسمع أن إسرائيل هجمت، وعندما سمعت هذا الخبر كنت في قمة السعادة، لقد قلت لنفسي: "طيب خليهم يخدوا الدرس أو العلقة اللي إحنا محضرينها لهم"، واستمعت وأنا في البيت إلى بيانات القيادة المصرية.. الطائرات الإسرائيلية تسقط وأعداد هذه الطائرات تتكاثر من بيان إلى بيان.. قلت لنفسي مرة أخرى: "جميل جدًا.. كده بدأت إسرائيل تتلقى الدرس وتأخذ العلقة المناسبة"، وأكملت برنامجي الصباحي.

العادي، لمَّ ركبت عربتي وذهبت فورًا إلى القيادة في العباسية، حيث كنت أسكن أيامها في الهرم، وعلى باب القيادة قابلني أحد الضباط وصحبني إلى الدور الخامس تحت الأرض، حيث يوجد مقر قيادتنا، وفي الطريق كان الضابط يحكى لي بفخر عن أعداد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطناها، وقد لاحظت أن هذه الأعداد قد تضاعفت عن الأعداد التي سمعت بها وأنا في منزلي في الهرم، أي أن الأعداد الجديدة من الطائرات الإسرائيلية التي سقطت تم إسقاطها في الوقت القصير الذي قطعته من الهرم إلى العباسية.. وشعرت بمزيد من السعادة والاطمئنان.

 وقد زادني شعورًا بالاطمئنان ما تذكرته في تلك اللحظة من اجتماعاتنا الممتدة في القيادة والتي استمرت حتى 3 يونيو أي قبل العدوان بيومين فقط، لقد كانت خططنا جاهزة في هذه الاجتماعات ولم يكن هناك ما يُبرر مفاجأتنا.. لقد كنا ندرك منذ أول يوم في يونيو أن الحرب قادمة.

كل هذا زادني اطمئنانًا وأنا في طريقي إلى القيادة.

 ووصلت إلى الدور الخامس تحت الأرض حيث مكتب المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة دخلت عليه، وجدته واقفًا وراء مكتبه ينظر إلى الأمام

أدى الرئيس صلاة الجمعة 5 أكتوبر في زاوية صغيرة بمنشية الصدر.. وهي الزاوية التي تعلم فيها الصلاة عندما جاء من قريته إلى القاهرة في صباه..

بعيون زائغة تائهة، ومرَّت أكثر من ثلاث دقائق وأنا أقف أمام عبد الحكيم عامر. دون أن يراني، قلت له: "صباح الخير يا عبد الحكيم"، لم يرد، وأخيرًا تنبه إلى وجودي وقال: "صباح الخير يا أنور".. وكانت عينه لا تزال زائغة مضطربة.

 هذه الصورة جعلت الاطمئنان الذي جئت به إلى القيادة يهرب من قلبي.. أحسست أن هناك خطأً خطيرًا في الأمر، وبدأت أشك في إحساسي بأننا ضربنا الإسرائيليين "العلقة"، المنتظرة حسب الخطة الموضوعة.

جلست على الكنبة، الموجودة في مكتب عبد الحكيم عامر، سألت: "ماذا حدث؟" فسمعت الإجابة التي أذهلتني، قيل لي: إن سلاح الطيران المصري كله ضرب على الأرض، وأن مدير سلاح الطيران جالس يبكي في القيادة، وما فائدة دموع قائد الطيران؟ ما فائدة هذه الدموع... إن المصيبة تكمن في أن قائد سلاح الطيران تكرر منه هذا الخطأ الرهيب، فما حدث في يونيو حدث سنة 1956، وكان قائد سلاح الطيران واحدًا في المرتين.. وقد تمسك عبد الحكيم عامر بهذا القائد، رغم أن رأينا جميعًا بعد سنة 1956 -بما فينا جمال عبد الناصر- هو ضرورة تغيير قائد سلاح الطيران.. ولكن عبد الحكيم عامر تمسك بهذا القائد الذي ضربت  طياراته على الارض سنة 1956، وها نحن الآن أمام الكارثة نفسها سنة 1967.. الطائرات المصرية تضرب كلها على الأرضي دون أن تدخل معركة أو ترتفع مترًا فوق سطح الأرض.

مكتب عبدالحكيم عامر كان إلى جواره صالون.. بعد قليل من وصولي فوجئت بجمال عبد الناصر يخرج من الصالون المجاور ويظهر في مكتب عامر، وكان عبدالناصر قد سبقني إلى القيادة حيث لا يبعد بيته من القيادة أكثر من دقيقتين، فبيته في منشية البكري إلى جوار القيادة، أما بيتي ففي الهرم.. ولذلك تأخرت في الوصول بعد سماعي بخبر اندلاع الحرب؛ خرج جمال عبدالناصر من الصالون وقال: "يا جماعة، اتركوا عبدالحكيم يعمل"، خرجت من المكتب، وخرج عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين كانوا قد حضروا إلى القيادة أيضًا. 

صعدت بالأسانسير من الدور الخامس تحت الأرض إلى ردهة القيادة، فوجدت هناك محمد فوزي الذي كان في ذلك الوقت رئيس أركان حرب الجيش، ثم أصبح بعد ذلك وزيرًا للحربية، وقائدًا عامًا للقوات المسلحة، قلت له: "يا فوزي، ما الصورة الحقيقية للموقف الذي لم أسأل كثيرًا بعد ما وجدته في مكتب عبدالحكيم عامر من اضطراب"، قال لي فوزي: الطيران ضرب كله بالكامل، ولكن قواتنا في سيناء متماسكة"، قلت له: إن شاء الله إن شاء الله، أرجو ذلك".

أخذت عربتي وعدت إلى البيت، وتوالت الأنباء بعد ذلك، علمت أن الطيران ضُرِبَ، والقائد العام في الجو مع قادة القوات المسلحة صباح يوم الاثنين 5 يونيو، والأدهى من ذلك والآمرُّ أننا بعد أن تأكدنا منذ أول يونيو بأن الحرب لم يعد فيها شك وأنها يمكن أن تقوم في أي لحظة، كنا مازلنا نلتزم في تدريباتنا بالمواعيد والأساليب المتبعة في وقت السلم، ففي ساعة محددة يقوم الطيارون بطلعاتهم وينزلون في الساعة الثامنة والنصف، حيث يكونون في هذا الوقت في "المخيمات" يتناولون إفطارهم، لم يتغير هذا الأسلوب ولا هذه المواعيد رغم أن هناك معركة وإعدادًا للمعركة، واليهود بالطبع كانوا يرصدون كل تحركاتنا، وهذا - كما قلت من قبل مرارًا - أصبح أمرًا سهلًا علينا وعليهم، فنحن نستطيع أن نرصد ما يجري داخل إسرائيل، وإسرائيل تستطيع أن ترصد ما يجري عندنا.. وهكذا لاحظ اليهود أن طائراتنا في الثامنة والنصف تمامًا تكون على الأرض وأن الطيارين يكونون على موائد الإفطار.. ولاحظوا أن الطائرات المصرية ليس لها مخابئ.. ولذلك حددوا وقت الضربة.. في الثامنة والنصف.

في هذا الوقت نفسه كان القائد العام في الجو، ومعه قادة القوات المسلحة، الذين لم يكونوا معه من القادة في الطائرة كانوا ينتظرونه في المطار الذي كان متوجهًا إليه وهو مطار "المليز" في سيناء، وعلى ذلك ضَربَ اليهود ضربتهم والقائد العام مُعلق بين السماء والأرض ومعه معظم قادة القوات المسلحة، ومن الطبيعي أيضًا أنه عندما يكون القائد العام في الجو أن تصدُر الأوامر للصواريخ بعدم الضرب، حتى لا ينطلق صاروخ فيصيب طائرة القائد العام.

وهكذا استطاع اليهود أن يقضوا على الطيران المصري ببساطة في ضربة واحدة، وعندما نزل قائدنا العام من طائرته التي كانت تحلق في الجو في ذلك الوقت.. كان في استقباله حقيقة محددة هي: أن سلاح الطيران المصري انتهى.

 من يوم 5 يونيو إلى يوم 9 يونيو لم أعد إلى القيادة، وكنت أتصل بعبد الناصر فقط، وكنت أتصل به من حجرة مكتبي في البيت، أما أنا فكنت في هذه الفترة لا أخرج ولا أرى أحدًا، كنت أتحرك ما بين غرفة مكتبي -في البيت- وحجرة نومي.. كانت أيامًا قاسية مُرَّة.

بعد المعركة جاء إلينا "بادجورلي"، وكان معه "زخاروف"، الذي كان رئيسًا لأركان الحرب السوفييتي آنذاك.. رحمه الله، لقد تُوفي منذ فترة، واجتمعنا مع "بادجورلي"، و "زخاروف"، في قصر القبة، وكان الوفد المصري برئاسة جمال عبد الناصر، وفي هذا الاجتماع -الذي أذكر تفاصيله جيدًا- قال لنا "زخاروف": "لو أن كل سلاح في القوات المسلحة المصرية أطلق طلقة واحدة لانتهت إسرائيل"..

وكان كلام "زخاروف" صحيحًا.

فلو رجعنا إلى تقرير الأمم المتحدة في تلك السنة "سنة 1967"، عن التسليح في العالم، لوجدنا هذا التقرير يقول إن أعلى نسبة للسلاح إلى الأفراد توجد في الجيش الامريكي ويلي الجيش الأمريكي مباشرةً: الجيش المصري، ومعنى هذا الكلام أن كمية السلاح في يد المقاتل المصري في سنة 1967 كانت كبيرة جدًا، فلو أن كل سلاح عندنا -كما يقول زخاروف- قد أطلق طلقةً واحدة لانتهى الأمر.

 مضت 21 يومًا بعد 5 يونيو وأنا لا أكلم أحدًا.. حتى أولادي لم أكن أكلمهم

وكانوا هم من جانبهم مقدرين للكارثة وللموقف الذي أعانيه.

 خرجت فقط يوم 9 يونيو، بعد أن تنحى عبد الناصر وخرج الشعب وعاد عبد الناصر إلى تولي سلطته مرةً أخرى، وفي 9 يونيو بِتُّ الليل في مجلس الشعب "مجلس الأمة في ذلك الوقت"؛ وذلك لأنني لم أستطعْ أن أعود إلى بيتي، وبعد أن عاد جمال عدت إلى البيت.. وكانت حالتي النفسية كما هي، كنت حزينًا إلى أبعد حد، بل كان ما في نفسي شيء أكبر من الحزن بكثير، كنت أذهب إلى مكتبي كل صباح، وكنت أتصل بعبد الناصر وحده، وكنت في مكتبي اقرأ بعناية كل ما يكتب في العالم عن المصيبة التي حلَّت بنا.. ما أبعادها الحقيقية؟

وبعد 21 يومًا بدأت أتمالك نفسي. 

 في هذا الوقت خرجت "جيهان"، لزيارة المصابين، وكان في عملها نوع من التخفيف، لقد كانت تحكي لي قصصًا عن مشاهداتها، وبقدر ما أعادت إليَّ هذه القصص بعض الأمل، فإنها كانت أحيانًا تُمزقني، كانت تحكى لي أن أولادنا الجرحى في مستشفى المعادي كانوا يدخلون غرفة الإنعاش وهم في حالة "هذيان" و"هلوسة"، وكانوا يقولون: "عايزين نقوم، عايزين نضرب"، هكذا كانت حالة الضابط المصري والجندي المصري وهو يموت في غرفة الإنعاش، يريد أن يقوم وأن يضرب كانوا جميعًا في حالة عصبية فظيعة

 وعرفت من "جيهان"، أن كل أولادنا الذين ضُرِبوا وجُرحوا يقيمون في مستشفى و"المعادي"، طلبت مدير المستشفى في التليفون.. قلت له: "مين عندك من قادة المدرعات؟".

قال لي: هنا كمال حسن علي وكمال حسن علي كان قائد لواء في 1967، وكان في سيناء.. قام بهجوم مُضاد يوم 7 يونيو باللواء الذي يقوده، وكان هجومه بالطبع بعد أن فقدنا الطيران، ولو عُدنا إلى الصُحف في تلك الفترة لوجدنا أنه "موشی دیان"، حاول أن يستغل هذا الهجوم المُضاد في الدعاية المعهودة لنفسه ولإسرائيل وجيشها.. حاول "دیان"، أن يقول: "إن هناك هجومًا مصريًا مُضادًا، وأنه هجوم عنيف ورهيب"؛ وذلك لكي يكسب لنفسه امتياز التغلب على هذا الهجوم المصري الكبير، وبذلك يكون قد أحرز انتصارًا صعبًا وليس انتصارًا سهلًا، وهكذا حاول "ديان" أن يبدو وكأنه "ثعلب صحراء" سيناء.. الثعلب المنتصر القادر على كل شيء، هذا الثعلب الذي قطع ذيله في أكتوبر 1973، ففي رابع يوم من أيام حرب أكتوبر وقف منهارًا أمام الصحفيين وقال وهو يبكي: إننا لم نستطع أن نزحزح المصريين بوصة.. وبالفعل لم يتزحزح المصريون بوصة واحدة.. بالرغم من الثغرة، ومن الانهزاميين الذين خافوا من الثغرة هنا، وفي الأمة العربية. 

المهم بعد 21 يوم من 5 يونيو أي حوالي 26 يونيو سألت مدير مستشفى المعادي عن الضباط الذين يعالجون هناك فقال: "إن كمال حسن علي، -قائد لواء- موجود ومعه عدد من ضباطه وسوف يدخلون بعد قليل حجرة العمليات لإخراج بعض الشظايا التي دخلت رؤوسهم أثناء المعركة"، قلت لمدير المستشفى: "هل يمكن أن أتكلم مع كمال حسن علي وضباطه؟"، قال لي: "ممكن".

 واتجهت على الفور من البيت إلى مستشفى المعادي لألتقي بالضباط. 

ولابُد من أن أعترف أن الدعاية الإسرائيلية في ذلك الحين نالت مني أنا أيضًا، كما نالت من الجميع، وقد كان هدفي من زيارة مستشفى المعادي ومقابلة كمال حسن علي وضباطه، أن أعرف شيئًا عن سرِّ هذه الكارثة.. أسئلة كثيرة كانت تمرُّ بذهني وتبحث عن إجابة عند هؤلاء الذين عاشوا في نيران المعركة.. على الطبيعة
هل كان سلاحنا على مستوى المعركة أم لا؟.

هل كان تدريبنا كاملًا أم لا؟.

 هل ما تقوله الدعاية الإسرائيلية من أسلحتها الخطيرة ومن التكنولوجيا التي لا يفهمها العرب وعن قدرتها العسكرية التي لا تقهر.. هل هذا الذي تردده الدعاية الصهيونية صحيح أم لا؟

هل نحن عاجزون حقا عن استيعاب الأسلحة الحديثة.. أسلحة العصر تكنولوجيا العصر.

 هل نحن أقل من سائر المتحضرين في هذا العالم؟ 

والتقيت بكمال حسن علي في مستشفى المعادي.. وأخذت أسأله وكان معه

ضابطان صغيران.. ملازمان أولان.. شابان "زي الورد"، كانا قد حلقا رأسيهما بـ"الموس" حتى يفتح الأطباء هذين الرأسين لاستخراج الشظايا.

قلت لكمال حسن علي: "يا كمال يا ابني قل لي حقيقة المعركة، ماذا حدث بالضبط؟"

قال كمال: "يا أفندم أنا عملت هجوم يوم 7".

قلت له: "ما أنا بسألك علشان كده، هل كان سلاحنا قاصرًا؟ هل كان تدريبنا ناقصًا؟ هل كانت أسلحة إسرائيلية "خرافية" لا استطاعة لكم بفَهمها أو استخدامها؟".

قال لي كمال: "أبدًا يا افندم؟!.. لا شيء من هذا كله على الإطلاق.. لا نقص في السلاح، ولا نقص في التدريب.. ولا أسلحة خرافية عند إسرائيل، أنا أروي لك الحماية كما جرت، من يوم 5 إلى يوم 7 يونيو وأنا في سيناء مع اللواء الذي أقوده -رايحين جايين- في سيناء، مئات الكيلومترات، كلما وصلت إلى مكان وجدت عندي أمرًا بالوصول إلى مكان آخر، وهناك كنت أجد أمرًا بالعودة مرةً أخرى إلى المكان السابق وهكذا، قطعنا مئات الكيلومترات ذهابًا وإيابًا في سيناء.. واللواء مائة دبابة -رايحين جايين على الجنزير-".. 

وهنا أتوقف لأُعلق على كلام كمال حسن علي.

فنحن عادةً عندما نرى الدبابات تمشي في شوارع القاهرة فإننا نجدها محمُولة على حمالات، لماذا؟.. حتى نوفر "الجنزير" للمعركة، وتتوقف قدرة القوات المسلحة وقوتها على إمكانها أن تحمل الدبابة إلى أقرب مكان من المعركة على حاملة، وذلك لتوفير "الجنزير" للمعركة نفسها.. هذا ما يحدث لكل جيوش العالم.

وفي سنة 1973 حدث هذا نفسه معنا.. ولهذا السبب استهلكت كل حاملات الدبابات عندي في المعركة والآن نحن نستعيض بحاملات جديدة.. ومن أجل هذا كانت دباباتنا تخوض  معركة 73 بقوة وبسالة.

الذي حدث في سنة 67 شيء مختلف، الدبابات "رايحه جاية" ثلاثة أيام "على جنازيرها" من يوم 5 إلى يوم 7، أوامر بقطع مئات الكيلومترات على الجنزير، وهذا عسكريًا خطأ، بل هو نوع من "التغفيل" والجنون.

ونعود إلى قصة كمال حسن علي، كانت دباباته في الحفر استعدادًا للقتال، في أحد المواقع، بعد أن راحت هذه الدبابات وعادت إلى سيناء بأوامر مُتضاربة لا معنى لها؟!.. وبعد أن كان كمال حسن علي قد سَمعَ من الإذاعات أخبار متناقضة.. إذاعتنا تقول نحن نضرب اليهود بشدة، وإذاعات تقول إن الطيران المصري قد تم ضربه كله؟!

فُوجئ كمال يوم 7 بكتيبة دبابات إسرائيلية هاجمةً عليه، ولم يكن لديه في تلك اللحظة أي أوامر بأي شيء؟!، ولكنه كأي قائد ممتاز لم ينتظر، بل أعطى أوامر لجنوده وضباطه فأخذوا "تشكيل" القتال، وفي أول طلقة يضربها كمال في المعركة، أصاب ثماني دبابات للعدو ولم تُصبْ له أي دبابة

ومثل هذه النتيجة في أي معركة للدبابات تُعتبر معجزة وشيئًا خارقًا وهو دليل على البطولة والتدريب الرائع، والتشكيل القتالي الرائع والاستيعاب الرائع.

ماذا حدث يا كمال بعد ذلك؟
 انسحبت الدبابات اليهودية فورًا بعد هذه الضربة العنيفة

 وهذا نفسه ما حدث سنة 1973.. عندما نضرب نحن كانوا يفرون على الفور، وبعد انسحاب الدبابات الإسرائيلية أطلقت هذه الدبابات إشارة ضوء أخضر؛ فجاء الطيران الإسرائيلي بعد دقيقتين، وأخذ يضرب دباباتنا وهي فوق الأرض؟!؛ لأن الدبابات وهي في الحفر، لا يستطيع الطيران أن يصيبها بشيء.. ولذلك لم يصب من دبابات كمال حسن علي في مشاويرها العشوائية في سيناء سوى عشرين دبابة وبقيت ثمانون دبابة، هي التي هاجم بها الدبابات الإسرائيلية، والشيء الممتاز الذي عرفته أن كمال حسن علي كقائد لواء مدرع استطاع بأسلحته أن يُسقط من الطائرات الإسرائيلية التي كانت تهاجمه.. استطاع أن يسقط من الطائرات أضعاف ما أسقطته الصواريخ في القاهرة.

لقد اعتمد هذا الضابط الشجاع الممتاز على أسلحته في مواجهة الطيران، فاللواء المدرع عادةً ما يملك وحدة متكاملة فيها مدفعية الميدان وفيها المدفعية المضادة للطائرات والرادار..

وهكذا -كما قلت لكِ- خسر كمال حسن على عشرين دبابة فقط وأسقط عددًا من الطائرات الإسرائيلية يبلغ أضعاف ما أسقطته صواريخ القاهرة. 

على أن الطيران الإسرائيلي ركز بعد ذلك على لواء كمال حسن علي، وأسقطوا دباباته واحدة واحدة، حتى قضوا على كل دبابات اللواء الشجاع وأُصيب كمال حسن علي بصاروخ في جنبه وأصيب الملازمان اللذان رأيتهما معه بشظايا في رأسيهما..

وقال لي أحد هذين الملازمين وأكد كمال على ما يقول: "كان سلاحنا في منتهى الكفاءة، وكان تدريبنا سليمًا، وكنت الطلقة الواحدة من دباباتنا تصيب الدبابة الإسرائيلية، ومن عنف الطلقة كانت الدبابة الإسرائيلية تنقلب على جنبها وتتعطل على الفور.. والمشكلة التي واجهناها أننا لم تكن عندنا أوامر واضحة، وما وصلنا من أوامر كان تبديدًا لجهدنا ووقتنا وسلاحنا، وكان تناقضًا في تناقض، لم نكن نعرف أين تأتي الأوامر؟ ولا نُدرك لها أي مغزى؟!".

من هذا كله نخرج بما يلي:

ـ نحن أبدًا لسنا أقلَّ كفاءةً من غيرنا من الشعوب المُتحضرة المتقدمة، بل إن أولادنا أثبتوا كفاءة رائعة في 1973، وذلك عندما توفرت لهم الخطة ولديهم الأوامر السليمة بالطرق السليمة.

ـ ما حدث في "لواء" كمال حسن علي سنة 1967 ينطبق على جميع وحدات الجيش المصري وفروع القوات المسلحة الأخرى، لم تصدُرْ للجيش المصري 1967 أوامر، وإن صدرت هذه الأوامر فإنها تكون أوامر هوجاء متناقضة؟!

 لم يكن أحد يعرف ما يجري حواليه في الساحة كلها، وكان من الضروري نتيجةً لهذا الموقف أن تحدث الهزيمة، لكن عندما قام كمال حسن علي هو وأولادنا الضباط والجنود بالهجوم المضاد على اليهود واستخدموا ما لديهم من سلاح بالأسلوب السليم تمكنوا من ضرب ثماني دبابات إسرائيلية وجرى اليهود أمامهم، ولولا أن السيادة الجوية كانت لإسرائيل لتغيرت النتيجة تمامًا، لقد كان كمال حسن علي يستطيع أن يقوم بهجومه ويستمر فيه محميًا بالطيران.

وهكذا نستطيع أن نقول إن قواتنا المسلحة في 1967 وصمت في سيناء بلا قيمة ولا خطة..

وبالمُقابل في 1973 لم ندخلْ معركةً ضدَّ اليهود إلا وكسبناها وبالذات في معارك الدبابات، وذلك لأن الخطة كانت كاملة، كل شخص يعرف دوره وواجبه، والأوامر واضحة أمام الجميع.. كل شيء كان يمضي بأسلوب عسكري سليم.

واليهود، حكايتهم بسيطة جدًا، إنهم يطبقون ما يقرؤونه في الكتب، لا أكثر ولا أقل، ولكنهم كانوا يشنون علينا حربًا نفسية بالغة الخطورة؛ وذلك ليشُلوا تفكيرنا وليفقدونا الثقة بأنفسنا، وقد حذرت أولادي قبل 73 من هذا كله، وطلبت منهم أن يكونوا هادئين جدًا وألا يسمعوا لبهلوانيات الدعاية الإسرائيلية والحرب النفسية التي يشوننها ضدَّنا، وقد قلت في آخر اجتماع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة: "على كل واحد أن يتمسك بخطته وهدفه ويقوم بإكمالها على خير وجه.. وعندما يلتزم كل واحد بهذا فالخطة الرئيسية كلها سوف تتحقق".

وهذا ما حدث تمامًا.

ولهذا نجحنا في معركتنا وانتصرنا.

من هذه اللمحات واللوحات التي رسمتها أمامكِ تستطيعين معرفة النتيجة الرئيسية العامة.. فقواتنا المسلحة لم تكن في 1967 سببًا للهزيمة بل كانت ضحية..

 شكرًا يا سيادة الرئيس على هذا التوضيح الدقيق المستفيض الذي يعيد ثقتنا بقواتنا المسلحة، وتعطي لجيلنا الحالي والأجيال الجديدة تفسيرًا واضحًا لهزيمة 1967، ولا شك أن هذا الوعي الصحيح لديكم بما حدث سنة 1967، كان أحد المفاتيح الرئيسية لانتصار 1973 المجيد... واسمح لي يا سيادة الرئيس أن أنتقل إلى سؤال جديد: فقد تحملتم سيادتكم على المستوى الشخصي كقائد أعلى للقوات المسلحة وكرئيس للجمهورية ما نتج

-خارجيًا وداخليًا- من ردود فعل بعد إعلانكم أن عام 1971 هو عام الحسم، ثم تبريركم لعدم قيامنا بالهجوم بما سميته سيادتكم "الضباب وتأثيره" على حركتنا.

تحملتم الموقف كاملًا، وفضلتم مواجهة كل ردود العمل بشجاعة بدلًا من القذف بقواتنا إلى معركة لا يعلم غير الله نتائجها.

ألم يحن الوقت يا سيادة الرئيس لإذاعة تفاصيل هذه المرحلة الدقيقة من مراحل الإعداد للحرب.. وقديمًا قالوا: "إن الإعداد أهم من الحرب نفسها"..

الرئيس:

كنت هذه الفترة التي تشيرين إليها فعلًا فترة معاناة أليمة، وعندما أشرت إلى "الضباب" في أوائل سنة 1972، لم أكن بهذه الإشارة أتهرب من مسؤوليتي أو "بعض الأذكياء جدًا" في العالم العربي أنني كنت بهذا الحديث أهرب من المسؤولية، وأنني لم أكن أنوي أن أخوض معركةً أو أدخل حربًا من أي نوع... وأطلق علينا هؤلاء "الأذكياء جدًا" وصف الانهزامية والتسويفية، وأمثال هذا الكلام الذي ظهر في تلك الأيام الصعبة، وللأسف وجد هذا الكلام بعض الصدى في مصر، وهذا ما كان يحزنني جدًا ويؤسفني ويحزُّ في نفسي..

وعندما تحدثت عن "الضباب" في أوائل 1972 كنت أغطي بهذا الكلام موقف الاتحاد السوفييتي، فقد وعدني القادة السوفييت في أكتوبر بأن يرسلوا إليّ الأسلحة التي تنقُصني، وقد قلت لهم: "إنني ارتبطت أمام شعبي وأمام العالم بأن تكون سنة 1971 هي سنة الحسم"، وقال لي السوفييت: "سنرسل إليكَ السلاح قبل نهاية 1971"، ولم يكن هناك فارق كبير بين أن تكون المعركة في أواخر 1971 أو في أوائل 1972، المهم أن المعركة سوف تقوم، وأن التحرير سوف يتم.

ولكنني اكتشفت أن الروس لم يكونوا جادين في وعدهم لي، كان كلامهم كما نقول "فك مجالس"، وفوجئت أن أكتوبر قد مرَّ، ثم مرَّ بعده نوفمبر وديسمبر دون أن يصلني أي شيء؟!، لم يصلني أي خبر عن أي مركب قادمة إلينا بالسلاح، وكانوا قد تعودوا أن يخبرونا بكل شيء مقدمًا، وألعن من هذا كله أنني فوجئت في 8 ديسمبر بمعركة تقوم بين باكستان والهند، وكان الاتحاد السوفيتي طرفًا واضحًا في هذه المعركة.

وهنا تساءلت: لماذا لم يخبروني وأنا كنت عندهم في أكتوبر 1971؟ أنني لم أكن أطلب منهم أن يخبروني بأن هناك معركة بين الهند وباكستان، ولكن كان من الممكن أن يقولوا لي أنهم مشغولون في هذه العام ولا يستطيعون تقديم شيء لنا، كنت سأقول لهم خلاص.. حاضر، وأعيد ترتيب أموري على هذا الأساس فليس في يدي شيء أفعله في هذه الحالة، ولكنهم لو أخبروني كنت استطعت ترتيب كل شيء بما يُناسب الظروف الجديدة..

ولكنهم وعدوني وأخلفوا عامدين ليقولوا لشعب مصر وللأمة العربية والعالم... إنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا بدون موافقتنا... كانوا "بيكشرولي"... ومع ذلك لم أتردد في أن أعمل على تغطية موقفهم السيئ، في أوائل 72، ولذلك تحدثت عن "الضباب"... ومع ذلك فقضية الضباب حقيقية.. وأنا لا أكذب على الشعب أبدًا.

 وحتى وأنا أحاول تغطية موقف الروس لا يمكن أن أكذب، إنني أكلم شعبي ولا يمكن أن أضع أمام شعبي إلا الحقائق، هذه طبيعتي مع شعبي، بل ومع نفسي ومع الناس ومع كل المحيطين بي... لا أستطيع أن أقول شيئًا غير الحقيقة.

قصة الضباب أيضا كانت حقيقية رغم أنني استخدمتها في تغطية موقف الروس وقد كان هناك سابقة لهذه الظاهرة.

في يوليو 1967، أي بعد شهر من هزيمة يونيو، في هذا الوقت أَبلغ محمد فوزي وزير الحربية آنذاك جمال عبدالناصر بأن هناك لواء إسرائيليًا مُدرعًا وصل إلى القنطرة شرق، وأن هذا اللواء وصل ومعه أدوات العبور، وهذا يعني أنه يريد أن يعبر إلى غرب القناة، وأصدر عبدالناصر أمرًا إلى محمد فوزي أن يضرب اللواء الإسرائيلي شرق القناة وهو في القنطرة شرق، وقبل أن يعبر إلى الغرب، وذلك حتى يمكننا القضاء عليه إذا عبر؛ لأنه سيمرُّ ضعيفًا بعد أن يتعرض  للضرب في نقطة انطلاقه في القنطرة شرق، وخرجت القاذفات المصرية بالفعل الساعة الثانية ظهرًا.

وكنا في يوليو كما قلت، وحاولت عدَّة محاولات ولكنها عادت في كل مرة دون أن تفعل شيئًا؛ لأن الرؤية كانت مستحيلة فوق القنطرة شرق، حيث خيم ضباب كامل على المنطقة، وقد أبلغ محمد فوزي عبدالناصر بذلك وأنا كنت موجودًا مع عبدالناصر في ذلك الوقت.. قال عبدالناصر لفوزي: "يظهر ربنا مش عايزنا نخش معركة القنطرة شرق دي .. خلي الطيران يرجع تاني". 

إذن أنا حاولت أغطي موقف الاتحاد السوفييتي بالحقيقة وليس بالكذب، فالضباب كان حقيقة لا شك فيها وحقيقة لها سابقة في نضالنا ضدَّ إسرائيل.

وفي هذا الوقت نفسه في أوائل 1972 ذهبت إلى مجلس الشعب ردّدَت عن الاتحاد السوفييتي.. وكلامي مُسجل بمحاضر مجلس الشعب، وقد قلت إن المسؤول الذي يريد أن يعمل معي يستطيع أن يواصل الطريق، والذي لا يُريد أن يعمل يستطيع أن يستقيل وقلت: إن الاتحاد السوفيتي صديقنا وهو يقف معنا..

وهكذا كنت أغطي موقف الاتحاد السوفييتي ولم أكن أغطي موقفي أنا، لقد تحملت الكثير على نفسي، قلت: إن معركتي سوف أدخلها في يوم من الأيام، فليقل الأعداء والشامتون ما يقولون.. ولكنني كنت أريد أن أعطي الفرصة للسوفييت.

ومع ذلك فلابُد أن أذكر هنا أن هذا الموقف من جانب السوفييت كان مقدمة من مقدمات يوليو 1972، وهو طرد الخُبراء السوفييت.

عندما قامت المعركة بين الهند وباكستان في 8 ديسمبر سنة 1971 وكان من الواضح أن الاتحاد السوفييتي "مشتبك" كطرف في هذه المعركة إلى أبعد حدٍّ، طلبت السفير السوفييتي وقلت له: إنني أريد زيارة موسكو قبل نهاية ديسمبر فابعث بهذا الطلب إلى القادة السوفييت، لم أقلْ له أرسلوا أحدًا من القادة السوفييت إلى القاهرة، رغم أنني زرت موسكو مرتين: في مارس 1971 وفي أكتوبر 1971، وكان المفروض أن يأتي أحد من القادة السوفييت لا أن أذهب أنا إليهم، ولكنني كنت مقتنعا بالتحمل من أجل وطني، وكتن من المفروض في لقائي معهم بعنف وحدة... كيف يعدوني ثم يخلفون بهذه الصورة ! كيف يحاولون أن يهزوا صورتي بهذا الشكل أمام شعبي وأمام العالم كله.. كان المفروض أن أحتد... ولكنني أيضًا لم أسمح لنفسي بأن أحتد على الإطلاق، لا مع السفير السوفييتي، ولا مع القادة السوفييت عندما التقيت بهم بعد ذلك؛ لأنني تعودت أن أتصرف في القضايا التي تخص وطني بعيدًا عن أي حساسيات عابرة... الوطن أكبر من ذلك بكثير، ومن حقه عليَّ أن أتحمل.

وبدا لي من ناحية أخرى أن من الخير تأجيل معركتنا مع اليهود، فلم يكن من المعقول أن تقوم معركتنا في نفس اللحظة مع معركة الهند وباكستان، حيث كان العالم مشدودًا إلى المعركة القائمة في شبه القارة الهندية، ونحن بحاجة إلى أن ينتبه العالم لمعركتنا حتى نستطيع الحصول على حقوقنا؛ لأن المعركة ليست معركة عسكرية فقط، بل هي أوسع مدىً من ذلك..

طلبت إذن من السفير السوفييتي أن يحدد لي موعدًا مع القادة السوفييت لزيارتهم في موسكو قبل نهاية ديسمبر سنة 1971، وكان أملي أن نصدر معًا بيانًا نغطي فيه الموقف عن عام الحسم ... وكما قلت لم أكن خائفًا على موقفي بقدر خوفي على موقفهم هم وحرصي على تغطية هذا الموقف..

هل تعرفين ماذا كان الرد؟.. الطريقة السوفييتية البطيئة تواجهني، لا رد، استعجلهم واسأل السفير السوفييتي يقول لي: "لم يأتِ الرد بعد"... يأتي يوم 15 ديسمبر ولا رد... يوم 30 ديسمبر ولا رد.. وأخيرًا يأتي الرد يوم 27
ديسمبر 1971 ويكون الرد هو أن القيادة السوفييتية "مش فاضية" إلا 1 و2 فبراير سنة 1972.. وكان موقفهم سيئًا وله نتائج ضارة.

ففي أوائل سنة 1972، وبالتحديد في يناير من هذا العام، وقف روجرز وزير خارجية أمريكا في ذلك الوقت يتهكم علينا وعلى سنة الحسم ويقول: "لقد أعطينا إسرائيل في نوفمبر عام 1971 أسلحة كثيرة وسنعطيها مزيدًا من السلاح بحيث تتعدى قوتها قوة العرب مجتمعة".

وهكذا كنت في موقف عجيب

الأمريكان يعلنون التحدي لإرادتنا ويتهكمون علينا.. 

و"المزايدون" في بلادنا يتهكمون ويسخرون من سنة الحسم..

والقادة السوفييت بعد ذلك يقولون لي: "مش فاضيين إلا في 1 و2 فبراير؟".

أدى هذا كله إلى تواتر عنيف لي داخلي، ولكنني تعودت دائمًا أنني عندما يكون الموضوع موضوع مصر أن أُبعد ذاتي تمامًا عن دائرة التفكير والانفعال.. ولذلك قبلت زيارة السوفييت في الموعد الذي حددوه لي وهو 1 و2 فبراير 1972... صحيح أنني قبلت على مضض... ولكنني من أجل مصر مُستعد لأن أتحمل كل شيء.

وتمت الرحلة بالفعل إلى الاتحاد السوفييتي في فبراير 1972، وفي الاجتماعات وجهت للقادة السوفييت كلامًا مثل "الكرابيج"، وأوضحت لهم نتائج موقفهم الخاطئ من تسليح الجيش المصري، ونتيجة موقفهم الخاطئ من تأجيل زيارتي إليهم قبل نهاية 1971، وقال بريجنيف: "أنا المسؤول"... وبريجينيف يعلم تمامًا أنني أحبه؛ لأن الرجل الوحيد الذي يمكن التعامل معه من القادة السوفييت، وبيني وبينه صداقة يعلمها هو ويقدرها، وقد سارع إلى القول إنه "المسؤول" عما حدث، حتى لا أدخل أنا في معركة مع بقية القادة السوفييت وبالذات مع بادجورني أو كاسيجين.. 

قلت لبريجينيف: "أنت تعلم أنك عندما تقول -أنا المسؤول- فإنني تقديرًا لصداقتك لن أتكلم وسوف أسكت"... قال بريجينيف: "أنا المسؤول، وصدقني إنها مسألة روتين حكومي، وأنها أشياء غير مقصودة أبدًا"، وهنا تدخل "كاسجين" ليقول: "لن يكون هناك شيء خاص إلا ويصلكم في موعده تمامًا".

وكانت جلستنا طويلة وكان الكلام فيها أمام الوفدين المصري والسوفييتي، والكلام كله موجود ومُسجل في محاضر هذه الجلسة.

وأنا طبعًا لم أصدق كلام كاسيجين ووعده بالانتقام في إرسال مطالب مصر، كنت أشعر أنهم يريدون بكلامهم أن يتخلصوا من المأزق الذي وقعوا فيه.. والحقيقة التي كانت واضحة أمامي تمامًا هي أن الروس منذ ثورة مايو 1971 بدأوا يتحفظون في التعاون معي، وقد وضعوا خططهم السرية على أساس عدم التعاون معي، وكانوا يحاولون الإبقاء على مجرد الشكل حتى يحدث تغيير من وجهة نظرهم..

كل هذا كان واضحًا أمامي... ولكني كنت أعاملهم بصبر شديد من أجل مصر، على أن هذا كله كان مقدمةً لابُد لها من نتيجة... هذه النتيجة هي طرد الخبراء السوفييت في يوليو عام 1972 

• لا شك أنكم يا سيادة الرئيس واجهتم عقبات كثيرة ومواقف معقدة خلال نشاطكم واتصالاتكم المختلفة بعد أن طرحتم على جماهير الشعب شعار «الصبر والصمت» عام 1972، وقد أخذ البعض يتناول هذا الشعار بالسخرية والنقد، حتى وقعت مفاجأة السادس من أكتوبر سنة 1973

هل يمكننا أن نعرف صورة لما واجهكم في هذه الفترة من مشاكل؟

الرئيس:

واللهِ كانت فترةً مليئة بالمعاناة والمرارة، ولكنني كما قلت وأقول دائمًا إنني أخرج بنفسي وذاتي من دائرة التفكير والانفعال حتى لا يكون قراري مشوبًا بأي غضب خاص أو انفعال شخصي، فالقضية هي قضية مصر وهي عندي أكبر من كل شيء، وأكبر من كل انفعال أو غضب.. عندما أعلنتُ شعار "الصبر والصمت" واجهتني ألوان من السخرية "والتريقة"، ولم يكن أمامي سوى أمر من اثنين: إما أن أحكي قصة الاتحاد السوفييتي وموقفه كاملًا، وأكشف كل شيء أمام الرأي العام المحلي والعالمي، ولم يكن هذا الموقف في مصلحة مصر.. ولقد كنت أتمنى -كبشر- أن أكشف موقف السوفييت حتى يعرف الناس الحقيقة، فقد كان موقف السوفييت في سنة الحسم متعمدًا للإضرار بي والإساءة إليَّ، ولكنني آثرت أن أكتُم انفعالي، وأن أتحمل ألمي وحدي، واخترت الأمر الثاني وهو الاحتمال من أجل مصر، تحملت السخرية و"التريقة"، ولم أقم اعتبارًا لهذه الصغائر، وهذا هو خط سيري دائمًا.. لا شيء يستطيع أن يجرفني أو يشدني إلى معركة شخصية أو مواقف انفعالية فأنا أنظر أولا إلى الصالح العام وأضع أمامي المعركة الوطنية الأصلية في ميادينها المختلفة، ولا أبدد جهدي في معارك خاسرة أبدًا.

ونتيجة هذا الموقف هو "الشماتة" التي ملأت الصحافة الغربية حيث كانوا يقولون إن سنة الحسم انتهت بدون أي نتيجة، وقد كان الحديث عن سنة الحسم نوعًا من "الجعجعة" ومصر لن تفعل شيئًا، وها هو الشعار الجديد "الصبر والصمت" يظهر في الأفق ليدل على أن مصر ليس عندها شيء، ولأن الأمة العربية عاجزة، ولأن الشعب المصري أصبح جثة هامدة.

وللأسف انتقل الوباء من الصحافة الغربية إلى الصحافة العربية، وخرج "جهابذة" التحليل السياسي في العالم العربي واشتركوا في حملة التشهير بي وبمصر، ثم انتقلت العدوى إلى بعض المثقفين عندنا في مصر وبين الصحفيين على وجه الخصوص، وأخذ هؤلاء المثقفون والصحفيون المصريون يكررون نفس التعليمات المسمومة في مجالسهم وكانت هذه الصورة مؤسفة جدًا.. ولقد كان.

ومما يزيد أسفي أن الذي كان يغذي المراسلين بهذه المعلومات الخاطئة والأفكار بالتعليقات هم صحفيون مصريون، وكان وراء هؤلاء الصحفيين مَن يحركهم ويغذيهم ممن كانوا يحاولون تغطية موقفهم بالكتابات المختلفة والتحليلات.. وقد انكشف هؤلاء "المحركون".. وانتهت صفحتهم..

ماذا فعلت أنا أمام هذا الموقف! لقد قمت بعملية عزل مؤقتة لمائة وعشرين صحفيًا.. لم أرسل واحدًا منهم إلى مؤسسات الدواجن أو اللحوم أو الأخشاب ولكنني نقلتهم إلى الاستعلامات، ولم أقطع مليمًا من مرتباتهم، قلت: فليأخذوا رواتبهم ويتوقفوا عن العمل فترة.. وكان هذا إنذارًا مني.. كان مجاملة أنني أقول لهم: عيب!.. كانت "صرخة عيب" من جانبي لهؤلاء اللذين يشوهون وجه مصر بغير حق وفي ظروف عصيبة.
ولو أنني فتحت المعتقلات في أول 1973 ووضعت فيها هؤلاء جميعًا بتهمة أنهم دعاة هزيمة وتخاذل في وقت الحرب ثم قامت المعركة بعد ذلك في أكتوبر، لكن الشعب كله قد أيدني وقال لي: معك حق.. لأنك قمت بالمعركة.. هؤلاء كانوا يهزؤون ويسخرون وينشرون روج الهزيمة.. إنهم يستحقون هذه المعتقلات..

ولكنني لم أفعل ذلك.. لم أفتح المعتقلات ولم أضع فيها واحدًا، لأنني لا أنوي الرجوع فيها.

وهناك حقيقة أخرى يجب أن يعرفها الجميع هي أنني واقفا في مكاني وموقعي هذا ولم تكن ولن تكون هناك خصومة بيني وبين أي مصري واحد.. إن ما يربطني بالجميع هو مصر ومصلحة مصر وحب مصر..
ولذلك لم أتصرف مع الصحفيين إلا بنقلهم إلى الاستعلامات لبضعة شهور، ثم انتهى الأمر بأن أعدتهم إلى عملهم قبل المعركة بأيام أي في 28 سبتمبر سنة 1973، هذا طرف من أطراف المعاناة التي شعرت بها قبل المعركة.

• فلنترك هذه الذكريات الحزينة يا سيادة الرئيس، ويكفينا أن نتذكر دائمًا موقفك العظيم الذي تُعلن فيه أنه لن تكون هناك خصومة بينك وبين أي مصري على الإطلاق.. ولتسمح لي أن ننتقل إلى موضوع آخر، فقد قيل إن خبراء حلف الأطلنطي وحلف وارسو أخذوا من المهندسين المصريين بعض خبراتهم وابتكاراتهم الهندسية المتفردة في بناء قواعد الصواريخ ودشم الطائرات وممرات الطائرات الحربية، كما قيل أيضًا إن المهندس أو الفني المقاتل في قواتنا المسلحة قد أضاف ابتكارات وإضافات للسلاح الشرقي والغربي على مستوى البر والبحر والجو، كل هذا قيل في حرب 73 وبعدها .. نأمل أن تتفضل سيادتكم بشرح الخلفية الخاصة بهذه الإنجازات.

الرئيس:

حقًا إن أولادنا في القوات المسلحة يستحقون كل المجد وكل الخلود، الطائرة الميج 21 والتي استخدمناها في المعركة اشترك أولادنا من الضباط والمهندسين في تطويرها في الاتحاد السوفييتي، والطائرات الأخرى غير الميج 21 حدث لها تطور كلي باشتراك أولادنا أيضًا.. وكأن ذلك قبل المعركة.

سر جديد لا يعرفه أحد إلى الآن.. لقد كانت كباري العبور التي أعطاها لنا الاتحاد السوفييتي كانت كباري الحرب العالمية الثانية، وهذه الكباري يتم تركيبها في مُدةٍ تمتد من 5 على 6 ساعات، وقد استخدمناها فعلًا في الحرب ولكن الذي لا يعرفه أحد إلى اليوم هو أن 60% من معدات العبور من "كباري" و"المعديات" وغيرها صُنعت في مصر وتم تصميمها بأيدٍ مصرية والـ40% من المعدات كانت هي هذه الكباري التي أخذناها من السوفييت، كباري الحرب العالمية الثانية، التي يتم تركيبها في مدة تمتد ما بين 5 إلى 6 ساعات.

وقد جاء كاسيجين إلى مصر في 14 أكتوبر أثناء الحرب حيث طالب بوقف إطلاق النار للمرة الرابعة، وكانت المرة الأولى يوم 6 أكتوبر بعد مرور 6 ساعات على بدء المعركة، وبالتحديد في الثامنة مساء حيث جاء لي السفير السوفييتي ليطلب مني وقف إطلاق النار بناءً على طلب الرئيس حافظ الأسد، وقد تبين أن الأسد قد طلب وقف إطلاق النار من السوفييت حتى قبل أن تبدأ المعركة.. طلب ذلك يوم الخميس 4 أكتوبر، لقد كنا قد اتفقنا أنا والأسد على أن يقوم الأسد بإبلاغ السوفييت بموعد المعركة بالضبط؛ وذلك لأن ملاقاتي بالسوفييت كانت سيئة منذ طَرد الخبراء في يوليو 1972، بالإضافة إلى أن الخبراء السوفييت كانوا موجودين بالجيش السوري فعلًا، ولابُد أنهم على عِلم بتحركات الجيش السوري، ولذلك قررنا أن يقوم الأسد بإبلاغهم بموعد المعركة بعد أن أبلغتهم أنا بقرار المعركة، ولكنني فوجئت بعد ذلك أن الأسد أبلغ السفير السوفييتي في دمشق بموعد المعركة ظهر يوم السبت 6 أكتوبر وطلب منه أيضًا وهو يبلغه بالموعد بضرورة وقف القتال بعد 48 ساعة على الأكثر؟

هذه هي الحقيقة الملحة التي اكتشفتها بعد الحرب، وعندما جاء كاسيجين إلى مصر في 14 أكتوبر، طلب الموافقة على وقف إطلاق النار بناءً على طلب السوريين.. وهذه كانت المرة الخامسة التي يطلب فيها مني وقف إطلاق النار، وكانت المرة الرابعة عندما أيقظني السفير السوفييتي فجر يوم 12 أكتوبر، وكان هذا الطلب الرابع لوقف إطلاق النار يسلك طريقًا غربيًا؛ ذلك لأن كيسنجر كان قد اتصل بهيث رئيس الوزراء البريطاني وقال له: "اتصلوا بالسادات لأني لا صلة لي به، فقد أبلغني الاتحاد السوفييتي أن السادات وافق على وقف إطلاق النار، ويجب أن نسرع إلى عمل الإجراءات مع الاتحاد السوفييتي لوقف المعركة، ومن هذا الطريق الغريب الذي يمر بكيسنجر وهيث ثم الاتحاد السوفييتي جاءني السفير السوفييتي يوم 13 أكتوبر ليطلب وقف إطلاق النار.

قلت للسفير السوفييتي: "أسف، أنا لم أوافق على وقف إطلاق النار، ولم أوافق الاتحاد السوفييتي على الطلبات الثلاثة السابقة لوقف إطلاق النار".

ثم جاء كاسيجين ليطلب نفس الطلب: وقف إطلاق النار يوم 14 أكتوبر، ولكنني لم أوافقه.. إنني لم أحقق أهدافي من المعركة، ولذلك فلا معنى لوقف إطلاق النار الآن، وبقي كاسيجين: في مصر، وجاء يوم 16 أكتوبر وكانت الثغرة قد حدثت، وهنا حاول كاسيجين أن يستغل الثغرة في الضغط لكي أقبل وقف إطلاق النار، قلت لكاسيجين: "أنتَ لست رجلًا عسكريًا، والثغرة لا تعني شيئًا.. إنها كلام فارغ، وهذه الثغرة لا تقوم على أساس استراتيجي عسكري على الإطلاق، إنها معركة هدفها الدعاية العسكرية فقط.. 

وهنا استطرد قليلًا، حيث أتذكر ما قاله بعد ذلك "الجنرال بوفر" مدير معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن عندما زارني بعد حرب أكتوبر، وكان معه رئيس تحرير الأهرام في ذلك الوقت .. قال لي بوفر -وكانت الثغرة لا تزال قائمةً-: "أرجو ألا تكون هذه الثغرة قد أزعجتك ! إنها عمل لا أساس له من ناحية الاستراتيجية العسكرية إنها معركة تليفزيونية وإذاعية لها هدف سياسي فقط.

وأضيف أنا - في هذا الاستطراد - أن الإسرائيليين كانوا يريدون بالثغرة أن يغطوا مراكزهم في الحرب، وكانوا يريدون أن يحتلوا السويس ويقولوا إنهم احتلوا السويس، ويكون لذلك أثر كبير في دعايتهم السياسية، بل إنهم ركزوا على بور سعيد، وحاولوا الاستيلاء عليها، وظلوا ثلاثة أيام يحاولون الاستيلاء على بور سعيد، وحاولوا ثلاث مرات أن ينزلوا فيها، ولكن محافظ بورسعيد الممتاز عبدالتواب هديب، الذي هو الآن محافظ الإسكندرية لم يعطهم أي فرصة، لقد كان في الأصل ضابط مدفعية ممتازا، ولو أنهم استولوا على بور سعيد لكانوا قد استخدموا ذلك في دعايتهم السياسية أيضًا وعلى نطاق واسع.

المهم.. العودة إلى موضوع كاسيجين.. حاول أن يضغط بالثغرة حتى أقبل وقف إطلاق النار فرفضت، فعاد يقول: "نحن نقيم الآن بيننا وبينكم جسرًا جويًا"، وكأنه بذلك يقول إن لنا الحق في أن نطلب منكم وتستجيبوا لنا، قلت له وكنا في مكتبي في قصر القبة: "استنى مكانك.. الكباري التي أرسلتموها إلينا هي كباري الحرب الثانية التي يتم تركيبها في وقت يمتد إلى 6 ساعات، وأنتم عندكم كباري يمكن تركيبها في نصف ساعة وأولادي رأوا هذه الكباري عندكم في الاتحاد السوفييتي واسم هذه الكباري -بالأمارة- (P.m.P) ولو عندنا هذه الكباري كانت قواتنا استولت على الممرات من أول يوم في المعركة، وبذلك كنت قد انتهيت من الجزء الأساسي من خطتي في معركة أكتوبر.. وكان يمكننا الآن أن نتحدث حديثًا آخر".

وسكت كاسيجين ولم يعلق.

هذه الحقيقة الكبرى التي يفخر بها شعب مصر: 60% من معدات العبور هي "كباري" و"معديات" مصرية صممها مصريون بأيدٍ مصرية.

هناك نماذج أخرى للإضافات العديدة التي أضافها المصريون في حرب أكتوبر عملية الساتر الترابي لها قصة مضحكة، ذهبنا إلى ألمانيا وطلبنا مضخات مياه قوتها كبيرة جدًا،، ضحك الألمان؛ لأن القوة المطلوبة للمضخات لا تُناسب أي  حريق في الدنيا، فأكبر حريق في العالم لا يحتاج إلى هذه القوة الرهيبة، قلنا لهم: "نحن نريدها بهذا الشكل، وهذا هو ثمنها، هل توافقون؟"، قالوا: "نوافق وأنتم أحرار، أرسلنا التصميم المصري للمضخات ونفذه الألمان وهو يضحكون ويعترضون، ثم طلبنا نقل هذه المضخات في سبتمبر بالطائرات، وعاد الألمان يضحكون: "مضخات رهيبة لا معنى لها، ومطلوب نقلها على وجه السرعة بالطائرات، ما القصة؟".. لقد جعلوها "نكتة" ولكن عرفوا ميزاتها بعد أكتوبر، لقد استطاعت هذه المضخات أن تسقط 17 مترًا هي ارتفاع السائر الترابي.. "اكلته أكلا".. وكان تصميم هذه المضخات مصريًا، وقد أخذناه من فكرة سابقة للمهندسين المصريين أثناء بناء السد العالي، لقد كان هناك سد رملي ضخم أثناء بناء السد أزلناه بمثل هذه المضخات، وفي حرب أكتوبر تذكرنا التصميم القديم لمضخات السد العالي وطورناه واستطاعت هذه المضخات أن تُزيل الساتر الترابي الذي أقامه اليهود على الضفة الشرقية للقناة، وقد كانت هذه المضخات بتصميمها الخاص معجزة مصرية خالصة.

هناك قصة أخرى هي قصة صعود الساتر الترابي من جانب جنودنا الأبطال، فقد تسلق أولادنا هذا الساتر بطرق بدائية لا شك أنها جعلت اليهود ينفجرون من الغيظ.. لقد استخدم أولادنا سلالم الحبال التي نراها في السينما، والتي كانت تستخدم على أيام القرون الوسطى أي والله أي والله.

كان بعض أولادنا المدربين تدريبًا خاصًا يصلون إلى الساتر الترابي ثم يفردون السلالم إلى تحت ويربطونها بوتد من فوق؛ فتصبح هذه السلالم صالحة للصعود يتسلقها الجنود بعد ذلك "زي القرود، زي العفاريت" وقد استطاعوا أن يجروا معهم في صعودهم مدافع مضادة للدبابات ثقيلة جدًا .. فراعنة.. هم الذين بنوا الهرم.. جروا هذه المدافع الثقيلة بأن ربطوها في حبال، وهذه الحبال جعلوا لها وتدًا في أعلى الساتر الترابي أيضًا، ومن جانب السلم شدوا هذه المدافع.. وعندما يصعد العسكري السلم يجد مدفعه جاهزًا، فيدخل المعركة على الفور.

وهكذا ترك النبوغ المصري بصمته على كل شيء، واخترق الصعوبات وانتصر عليها بابتكاراته الجريئة.

وأحب أن أذكر لكِ هنا أن قاذفات اللهب التي استخدمناها في المعركة كانت كلها مصرية مئة في المئة، وقاذفات اللهب هذه كانت من أخطر الأسلحة التي استخدمها المقاتل المصري، والتي هاجم بها خط بارليف وحطمه وقضى عليه "وبتوع بارليف" من جنود العدو وضباطه "ماشافوش الويل من شوية!!" لأن أخطر شيء على من يختبئ في موقع دفاعي هو قاذفات اللهب، فالمقاتل في موقعه الدفاعي إما أن يخرج من موقعه لتقتله رصاصة أو يبقى فيحترق.. ولهذا السبب، وبفضل الابتكار المصري لقاذفات لهب خاصة بنا، لم يتحمل خط بارليف وقتًا لقد اقتحمناه وحطمناه بسرعة.

وحطم أيضًا جسر الطائرات.. العالم كله بدأ يهتم بدشم  الطائرات بعد ضربة يونيو 1967، ولكن كل جيش كان يبني هذه الدشم حسب اجتهادات خاصة بمهندسيه، وقد قمنا نحن بمجهود جبار في هذا المجال، ولابُد أن أذكر فضل "المقاولون العرب" في تصميم هذه الدشم وتنفيذها مع المهندسين العسكريين لقد كان تصميمنا المصري للدشم والمدافع سام 3 من أروع الإنجازات، وقد حاول اليهود مَرارًا وتَكرارًا أن يسرقوا هذا التصميم ولكنهم فشلوا، ولم تنجح محاولاتهم؛ لأن مخابراتنا كانت وراءهم بالمرصاد ولم تمكنهم من النجاح في هذه المحاولات.

تفتق الذهن المصري، أيضًا عن أشياء رائعة فيما نسميه باسم "التكتيكات الصغرى"، هناك ضابط نابغ اسمه "حسن أبو سعدة" وهو الذي استولى على اللواء 190 اليهودي.. لواء عساف ياجوري المشهور.. حسن أبو سعدة.. قضى على لواء مدرع بأكمله، يضم 120 دبابة.. قضى على هذا اللواء بكل دباباته في عشرين دقيقة، اللواء المدرع عندنا مئة دبابة، عند إسرائيل مائة وعشرون، واللواء المدرع فيه 5 دبابات ومدفعية ميدان ومدفعية مُضادة للطائرات، كل هذا قضى عليه أبو سعدة في عشرين دقيقة.. مائة وعشرون دبابة مجهزة بأدق التجهيزات العسكرية، قضى عليها أبو سعدة في عشرين دقيقة، وقد ذُهل "عساف ياجوري" قائد اللواء الإسرائيلي المُدرع عندما نزل من دبابته وكانت آخر دبابة في لوائه؛ فوجد كل دباباته المئة والعشرين محطمة ومحترقة تمامًا.. ذُهل الضابط الإسرائيلي وكاد يُجَّن!!، وما زالت دبابة عساف ياجوري موجودة في مكانها في رمال سيناء حتى الآن ذكرى لهذه المعركة المجيدة..

أكبر معركة دبابات في الحرب العظمى كان اسمها معركة "كورسك" في روسيا، وكان في هذه المعركة 500 دبابة، نحن قضينا على مئة وعشرين دبابة في عشرين دقيقة.. هذه معجزة.

وبهذه المناسبة كانت معارك الدبابات بيننا وبين اليهود عنيفة، وكانت خسائر

الدبابات في هذه الحرب ثلاثة آلاف دبابة... وللعِلم خسائر الدبابات المصرية هي خمسمئة دبابة فقط، أما الخسائر الباقية وهي ألفان وخمسمئة فهي موزعة بين إسرائيل وسوريا... هذه حقيقة لم أكن أود إعلانها الآن.. ولكنني أقولها لأولادنا وللتاريخ.. فهذا واجبي ألا أخلي هذه الصفحات المجيدة في تاريخنا.

• هذه حقائق عظيمة جدًا يا سيادة الرئيس، وهي حقائق مشرفة تذاع لأول مرة.. ويجب ان يعرفها شعبنا ليعرف قيمة الإنجاز العظيم الذي تم في أكتوبر 1973 تحت قيادتكم وعلى يد جنودنا وضباطنا الأبطال..

أرجو أن تسمح يا سيادة الرئيس أن أسألكم عن مشاعركم، أدق مشاعركم يوم 5 أكتوبر وصباح 6 أكتوبر، وقبل ذلك بعشرة أيام حين ذهبت قواتنا البحرية إلى مهامها في حرب أكتوبر يوم 26 سبتمبر 1972 عبر البحر الأحمر إلى باب المندب كما أعلنتم سيادتكم من قبل.

الرئيس:

كان شعوري عاديًا جدًا، ومطمئنًا جدًا ... يوم 28 سبتمبر كانت ذكرى عبدالناصر، ألقيت فيها خطابًا، وأعدت فيها الصحفيين المئة والعشرين إلى عملهم، فقد تم ما قصدته بإبعادهم لبعض الوقت.. كنت أريد أن أقول لهم: عيب، وفي هذا الوقت خرج مَن يقول إن السادات يقوم بعمل مصالحة وطنية؛ لأنه لا ينوي أن يخوض المعركة بأي شكل... مصالحة وطنية مع مَن !... كما قلت من قبل: ليس بيني وبين أي مصري خصومة ولن يكون ذلك أبدًا... ليس هذا مفهومي للحكم أبدًا : أن أخاصم أحدًا من المصريين أو أدخل معه في صراع أنا أب للجميع كما قلت من قبل.

يوم 4 رمضان دعيت مجلس الأمن القومي المصري للاجتماع، وهذا المجلس يتكون مني: ومن"نواب الرئيس ورئيس الوزراء، ونوابه، ووزير الحربية، ووزير التموين، ومدير المخابرات، وأمين الاتحاد الاشتراكي، ومستشار الأمن القومي وهو المنصب الذي كان يشغله حافظ إسماعيل في ذلك الوقت، واستمر هذا الاجتماع 4 ساعات، سمعت فيها آراء الجميع، ثم قلت لهم: "أحب أن أوضح

لكم شيئًا.. إن اقتصادنا تحت الصفر وليس عندي رغيف العيش لسنة 1974 وكنا في أكتوبر 1973، أي أن أمامنا شهرين فقط... ومع ذلك فليفعل الله ما فيه الخير.

وفي اليوم الثاني جمعت المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإعطاء الأمر الأخير مني، وفي جلسة امتدت 6 ساعات قام كل قائد بتقديم خطته أمام جميع القادة الآخرين، وأصبح كل قائد يعرف نصيبه في الخطة بدقة ووضوح، قلت: "مبروك يا أولادي"، واعطيتهم الأمر الأخير.

بقي في المعركة أمران ــ حسب أرقى العلوم العسكرية في العالم :

الأمر الأول : هو التوجه الاستراتيجي ويكون من رئيس الجمهورية، وقد صدر مني هذا التوجه للمشير أحمد إسماعيل قبل المعركة بشهر وهو موجود ومحفوظ في وزارة الحربية، وهذا التوجه الاستراتيجي هو الذي أعطاه تشرشل في الحرب العالمية الثانية لأيزنهاور.

الأمر الثاني: أمر القتال وقد أصدرته قبل المعركة بثلاثة أيام وسلمته للمشير أحمد إسماعيل وهذا الأمر أيضًا محفوظ في سجلات المعاركة للتاريخ.

يوم الأربعاء، أي قبل حوالي 72 ساعة من المعركة طلبتُ السفير السوفييتي وأبلغته بقرار الحرب وقلت أريد من موسكو إجابة عن هذا السؤال: "ماذا سيكون موقف الاتحاد السوفييتي من المعركة؟".

سألني عن ساعة الصفر: قلت له لم تحدد بعد، وكنت قد اتفقت مع حافظ على أن يقوم بإبلاغ السفير السوفييتي بساعة الصفر وهي الساعة 2 يوم السبت 6 أكتوبر.

وفوجئت بأن السفير السوفييتي عاد يطلب مقابلتي في اليوم التالي أي في يوم الخميس 4 أكتوبر، ودهشت لأن السوفييت لا يجيبون عن الرسائل بسرعة بل يتلكؤون وقد تتأخر الإجابة شهورًا بعد شهور، ووافقت على مقابلة السفير السوفييتي بعد دقيقتين من طلبه، فبيته بجوار بيتي في الجيزة، وكنت أتصوّر أنه يحمل ردَّ الحكومة السوفييتية من القاهرة، أننا سوف نخسر المعركة؛ لذلك فهم يريدون سرعة الرحيل، ومع ذلك وافقت وتم نقل العائلات الروسية في الوقت المحدد.

وقبل أن يخرج السفير من مكتبي سألته عن الرد على رسالتي الخاصة بموقف السوفييت من المعركة، فقال:" إن رسالتي مازالت تحت الدراسة وليس هناك رد حتى الآن"، والغريب أن هذا الرد لم يصلني حتى اليوم... أي بعد ثلاث سنوات من المعركة.

في يوم الخميس 4 أكتوبر انتقلت من بيتي في الجيزة إلى قصر الطاهرة الذي كان قد تم تجهيزه، بحيث يمكنني منه أن أتصل بجميع أنحاء جمهورية مصر وبكل مسؤول في البلاد فهنا لو انقطعت التليفونات، فقد كان في تقديري أن اليهود يمكن أن يركبوا رؤوسهم ويهاجموا المدن ويقطعوا المواصلات، وعلى ذلك فقد كان في قصر الطاهرة غرفة عمليات متصلة بغرفة عمليات الجيش، وكل ما يتم في المعركة ينقل إليها فورًا بأحدث الوسائل.

يوم الجمعة كنت عادي جدًا، بل كنت أسعد إنسان، مع أن المعركة كانت لا تزال في كف القدر، ولكن حساباتي كانت على وجه الآتي: "فلو نجحنا في المعركة كان بها والحمد لله، وإن فشلنا فإنني سأكون بين جنودي في القتال وأموت معهم شهيدًا من الشهداء، المهم أنني اتخذت القرار، وكانت البحرية قد بدأت يوم 5 أكتوبر عملها وانتهى الأمر... انتهى الاضطراب والبلبلة، انتهت اللاحرب واللاسلم... وهذا كان مريحًا لي إلى أبعد حد.

وفي يوم الجمعة هذا قمت بالصلاة في زاوية صغيرة في منشية الصدر هي الزاوية التي تعلمتُ فيها الصلاة وأنا صغير عندما جئت إلى القاهرة مع أبي لأول مرةٍ فلاحا بسيطًا، حيث كُنا نسكن في كوبري القبة.

جاءني المشير أحمد إسماعيل في الواحدة والنصف، وذهبنا معًا إلى القيادة، ووصلنا قبل ساعة الصفر بدقائق.

غرفة القيادة التي أرجو أن تشاهديها -إن شاء الله- في 6 أكتوبر، وقد رآها بعض زملائكِ الصحفيين... وهذه الغرفة أشبه بغرف العمليات التي تشاهدينها في "السينما" من الحرب العالمية الثانية وغرفتنا بهذا الشكل، ومجهزة بأحدث الأجهزة، وكانت الخطة معلقة على الحائط بعرض الحائط كله، شيء رهيب مُثير للانتباه...

وأذكر أنني عندما وصلت إلى غرفة العمليات وجدت أولادي في الغرفة صائمين... كنت قد أعطيت أمرًا بالإفطار؛ لأنه لا يحارب أحد وهو صائم، وحربنا ضدَّ عدو عبادة ليس بعدها عبادة، ونحن لا نُريد أن تحدث أي غلطة... أنا صائم؛ لأنني تعودت الالتزام بالصوم في جميع الأحوال.. في السفر، في المرض، في كل الأحوال أصوم، فقد أصبح الصيام عندي له معنى خاص منذ أيام القرية بالإضافة إلى معناه الديني، إنه مرتبط بمعنى الرجولة.

ولكنني عندما وجدت في غرفة العمليات صائمين؛ شعرت أنهم صائمون احترامًا لي وحرصًا على شعوري... طلبت "البايب" وكوبًا من الشاي وأفطرت في الثانية إلا عشر دقائق في الساعة الثانية ميكروفون غرفة العمليات أعلن: "الطيران المصري عَبرَ إلى سيناء"... بعد عشرين دقيقة اتصل حسني مبارك بفرقة العمليات ليقول: "ضربة الطيران حققت 99% من أهدفها"، وهذه روعة حسني مبارك... روعة حقيقية لقد قال السوفييت إن ضربة الطيران الأولى لن تحقق إلا 30% وإننا سوف نخسر 40% من سلاح الطيران كله.

هذا كله مُسجل للتاريخ ومكتوب وعليه شواهد ثابتة، من ثلاثين قاعدة جوية ومع ثلاثين مطارًا على مسافات مختلفة خرجت طائراتنا في وقت واحد، وعبرت القناة في مظلة من 222 طائرة، وعندما رأى أولادي هذه المظلة من طائراتنا تعبر، أصيبوا بنوع من "الهستيريا" العظيمة– إن صح هذا التعبير... هستيريا عظيمة حقًا؛ لأنهم لم ينتظروا أمر العبور فاندفعوا للعبور، كانت خسائرنا في الطيران في الضربة الأولى 5 طائرات من 222 طائرة، نتيجة رائعة بل مُذهلة، وكان من بين الطيارين الخمسة الذين سقطوا عاطف السادات، أخي الله يرحمه، أصرَّ أن يخرج في الطلعة الأولى ولم يكن فيها، فسمح له القائد بذلك، وكان نصيبه الاستشهاد.

في غرفة العمليات بعد ما أبلغنا حسني مبارك بنتيجة ضربة الطيران، حدثت فرحة كبيرة حقًا، لقد تذكرت ما قرأته عما حدث في غرفة العمليات في الحرب العالمية الثانية، عندما قامت ألف طائرة بضرب من برلين لأول مرة، وحققت الضربة أهدافها... وفي غرفة العمليات في لندن جرى هناك ما جرى عندنا بعد نجاح ضربتنا لليهود... صرخة فرح وسعادة تملأ الغرفة.

بعد أربعين دقيقة، سلاح المدفعية ضرب ضربته وحقق أهدافه بقيادة الماحي كبير الياوران آلان..

إن الماحي "ورّا اليهود الويل لا ودك خط برليف على راسهم" وبدأت الأخبار بانتصارات الجيش والعبور وكان أول لواء عبر ووضع العَلم على سيناء هو اللواء السابع، بعد أربع ساعات تأكدت مع النصر، وقد سجلت في اجتماع المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن الـ24 ساعة الأولى سوف تحدد مصير المعركة، والآن تحدد مصير المعركة في الساعات الأربع الأولى.

• هل ترك القمر الصناعي الأمريكي ونشاطه فوق مناطق حدودنا العسكرية أثرًا من الخوف والحذر في رأيكم؟

الرئيس:

أبدًا، أبدًا وهنا لا بد أن أقول إن القمر الصناعي مازال إلى يومنا هذا يخدم إسرائيل، والقمر الصناعي الأمريكي هو الذي كان أساسًا للثغرة في التخطيط والتنفيذ... إن الثغرة قد صنعها الأمريكان بقمرهم الصناعي وبأسلحة لم تخرج من أمريكا إلا في سيناء.. أسلحة لم تعطَ لأي دولة في العالم حتى أكتوبر 1973 ومن بينها قنبلة "لافريك" التي رأيتها بعد ذلك في مناورات إيران، وبالمناسبة فإن القمر السوفييتي لا عَلاقة له بنا ولا يقدم لنا أي شيء، بينما القمر الأمريكي كان ومازال في خدمة إسرائيل.

• لو كان العدو قام بضربة إجهاض لنا قبل تحركنا فهل كان هذا يمكن أن يمثل خطرًا على حرب أكتوبر ونتائجها أم كان في إمكاننا وفي تخطيطنا أن نرد بضربة مضادة؟

الرئيس:

ضربة الإجهاض لو أنها وقعت قبل ثلاثة أيام من المعركة كان يمكن أن تسبب متاعب لنا، رغم أننا وضعنا مثل هذه الضربة في الحساب وكنا سوف نرد عليها بقوة وعنف، ولكن في الأيام الثلاثة السابقة على الحركة لم يكن لمثل هذه الضربة من جانب العدو أي قيمة، قيل إن قادة الجيش الإسرائيلي اتصلوا بجولدا مائير صباح السبت 6 أكتوبر لكي يقوم الجيش الإسرائيلي بضربة وقائية، كل هذا الكلام لا قيمة ولا أهمية له.. ولم تكن ضربتهم تجدي شيئًا، لا يوم السبت 6، ولا الجمعة 5، ولا الخميس 4 أكتوبر..

• سيادة الرئيس هل كان هناك خوف من انتكاس الوقفة العربية الجماعية الواحدة بعد قيام الحرب نتيجة التناقض بين القول والفعل عند بعض زعماء العرب؟

الرئيس:

في حياة الأمة العربية للأسف توجد دائمًا هذه الخلافات والمشاحنات، ورغم ذلك فأنا أستطيع أن أقول وبكل ثقة إن إخواني وأصدقائي الملوك والرؤساء العرب قد تجاوبوا معي كل التجاوب أثناء التجهيز للمعركة، وذلك باستثناء بعض الخوارج مثل القذافي مجنون ليبيا، وبعض الأصوات الأخرى التي لم يكن لها قيمة.

وهنا أود أن أسجل دهشتي البالغة من بعض العرب الذين يريدون أن يملأوا حياة أمتنا بالمرارة والنزق والخوف من المستقبل المجهول... لقد صدرنا هذا كله إلى إسرائيل بعد حرب أكتوبر، لماذا يريد هؤلاء أن يستوردوا هذا كله من جديد إلى

الوطن العربي؟ إن المواقف السورية والمواقف الليبية تعني استيراد الهم والقلق والتمزق إلى صفوف الأمة العربية.. ونحن نرفض هذه المواقف، وأغلبية الأمة العربية ترفض هذه المواقف... والأمة العربية بخير، وما نراه من ظواهر فوق السطح ولا يجوز أن تزعجنا مزايدات سوريا ولا جنون الحاكم الليبي..

• قيل إن بعض قطاعات الجيش اندفعت لتطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر لتخفيف الضغط على الجبهة السورية وإن هذه القوات استطاعت بلوغ المنطقة المواجهة لممر متلا .. نُريد أن نعرف من سيادتكم بعض التفاصيل من هذه المهمة للحقيقة والتاريخ.

الرئيس:

بالفعل اندفعت قوات من الجيش الثاني وهي الفرقة 21 المدرعة إلى الشرق، وقد كان ذلك تحت إلحاح سوريا، فلم يكن في خطتنا أن ندفع بهذه الفرقة إلى الشرق، كنا قد أعددنا " منطقة القتل"  killing zone  في سيناء وكان تقديرنا أن اليهود سيدفعون إلى هذه المنطقة من باب الدور العسكري؛ لأن المفروض عسكريًا ألا يندفع أحد إلى منطقة القتل، ففي هذه المنطقة كل ما يظهر ينبغي القضاء عليه... كل شيء حتى لو كان نملة، ومع ذلك كان اليهود يندفعون إلى هذه المنطقة، وقد تعرضوا لضرب عنيف جدًا فيها، وكما أشرت في جزء الحديث هناك لواء مدرع بأكمله هو لواء عساف، تم القضاء عليه في عشرين دقيقة، وكان المفروض أن مثل هذا اللواء أن يستمر في الحرب سنة أو سنتين، وفي الأيام الأولى من المعركة كانت نسبة خسائر اليهود إلى خسائرنا هي 3 : 1 أي أن خسائر اليهود 3 وخسائرنا واحد..

لمَّ استفاقت سوريا؛ لأنها كانت في اليوم الثالث قد بدأت تخرج من الحرب وكان اليهود على بعد عشرين كيلو من دمشق، وأمام إلحاح السوريين وافقت للمشير أحمد إسماعيل على القتال الفرقة  من الغرب إلى الشرق حيث اشتبكنا مع اليهود وأصبحت خسائر اليهود بالنسبة لنا 2 : 1 بعد أن كانت 3 : 1، أي أن اليهود كانوا يخسرون دبابتين كلما خسرنا نحن واحدة.. وكانت النتيجة أن خسائري في الدبابات بلغت 500 بينما بلغت خسائر سوريا 1400 دبابة وخسائر إسرائيل أكثر من ألف دبابة، وقد خسرت سوريا 1200 دبابة في يوم واحد.

اشتباك الفرقة 21 من الجيش الثاني مع اليهود عطلتنا عن تحقيق بعض أهدافنا.

• قمنا بتسليم 39 جثة من جثث ضباط وجنود العدو في الصيف الماضي، وقالت الصحافة العالمية إنها «ضربة معلم» من الرئيس السادات وقيل إن مصر تحتفظ بعدد آخر من الجثث الإسرائيلية عالجها المصريون كيميائيًا حتى لا تتحلل وإنها بعض خسائر إسرائيل في منطقة الثغرة وهي الخسائر التي بلغت أكثر من ألف قتيل.. ما صحة هذه المعلومات؟..

الرئيس:

ثقة بدأ الإسرائيليون هذا العام فقط في تسمية "الثغرة"، باسم وادي الموت؛ لأن أكبر خسائر اليهود كانت في الثغرة، وفي زيارتي لعمان قبل لقائي بفورد في "سالزبورج" ألقيت خطابًا تحديت فيه اليهود أن يذكروا خسائرهم في الثغرة.. ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ لأن هذه الأرقام سوف تفضح قصة الثغرة كلها، هناك طيار يهودي من الذين كانوا ينقلون القتلى من الثغرة ضربنا طائرته وأسرناه، وقد أعطانا هذا الطيار بيانًا كاملًا بخسائر اليهود، بالإضافة إلى ما تملكه من بيانات دقيقة..

وعندما فشلت مفاوضات فض الاشتباك الثاني لأول مرة في مارس 75 اتخذتُ قراري بفتح قناة السويس وتسليم اليهود 39 جثة، وقد كان بينهم ضباط كبار جدًا، وقد أقيمت لهم جنازات ضخمة في إسرائيل، وتجددت أحزان إسرائيل مع تسليم هذه الجثث، وبعد أن رفضوا الاشتباك الثاني في المرة الأولى، عادوا فقبلوه... وهذا ما قدرته وقد صح تقديري تمامًا.

لقد تذكروا ما أصابهم في حرب أكتوبر، وعرفوا أن العناد لن يفيدهم كثيرًا، فهذه "جثثهم" شاهد على هزيمتهم.

أما بالنسبة لبقية الجثث فقد أعطيت تعليماتي بالبحث عنها وإذا وجدنا جثثًا أخرى فسوف نسلمها لليهود.

ليس عندنا أبدًا نية التمثيل بالجثث... وليست أخلاقنا أو عقائدنا.

• هل يمكن يا سيادة الرئيس أن تتحدث بشيء من التفصيل عن الثغرة؟..

الرئيس:

أنا سعيد؛ لأننا أعددنا دراسة كاملة عن الثغرة تكشف كل الحقائق، وقد تم عرض هذه الدراسة في ندوة 6 أكتوبر العالمية التي عُقِدت في جامعة القاهرة العام الماضي..

الثغرة عبارة عن ماذا؟.. هناك جيشنا الثاني وجيشنا الثالث يحتلان المسافة من السويس إلى بورسعيد أي حوالي 180 كيلو، هناك "مفصل" بين الجيشين، والمفصل دائمًا هو نقطة الضعف، فجاء اليهود وركزوا على المفصل وفتحوا فيه مسافة بلغت ستة كيلو مترات، ولم يتزحزح الجيش الثاني أو الثالث بوصة واحدة إلى الوراء، ولم يستطيعوا أن يحتلوا السويس، وتحولوا بعد وقت قليل إلى "سندوتش" بين الجيش الثاني والجيش الثالث.

إن الثغرة كانت بطلب من أمريكا لتحسين وضع إسرائيل في أي مفاوضات، وتمت بمساعدة القمر الصناعي الأمريكي وبالأسلحة الامريكية الجديدة، كما أن جولدا مائير قالت لقائدها أليعازر: "نحن في القاع.. الحقونا بأي عمل"، وقامت الثغرة الفاشلة، والتي يمكن تصفيتها من البداية لولا خطأ رئيس الأركان في ذلك الوقت، فقد كان أولادي في الجيش فقد وصلوا إلى موقع الثغرة ولكن رئيس الأركان أعطاهم أمرًا بالرجوع إلى الوراء.. وهذا خطأ.

ومع ذلك فإن الصاعقة والمظلات والقوات الخاصة في الجيش المصري جعلت من الثغرة وادي الموت بالنسبة لليهود، وكنت قد نبهت في المجلس الأعلى للقوات المسلحة جميع القادة -أولادي- في القوات المسلحة، إلى الحركات المسرحية التي تعودت إسرائيل أن تقوم بها، وطلبت بعدم الانزعاج من هذه الحركات أو الخوف منها، لقد كان هدفهم هو أن يقولوا إنهم على بُعد 90 كيلو من القاهرة، وهذا هو نفسه ما كان يقوله المجنون معمر القذافي، حيث جاء إلى القاهرة في فترة الثغرة وهو "لابس مظلة".. جاء لينقذ القاهرة.. "ما هو أصحاب العقول في راحة"... لقد كانت الثغرة مادة للدعاية الإسرائيلية، ومادة للحاقدين الانهزاميين... ومع ذلك فلم تكن الثغرة شيئًا... كانت عذابًا لليهود.. وقد عرف اليهود هذا الأمر وحاولوا الاستيلاء على السويس ليعوضوا خيبتهم ولكنهم فشلوا تمامًا.. وتصفية الثغرة، لم تكن تستغرق ساعات قليلة.

• ولماذا يا سيادة الرئيس لم تتم تصفية الثغرة؟

الرئيس:

كان عدد دبابات اليهود في الثغرة أربعمئة دبابة، واستطعت أن أجمع لحصار هذه الثغرة 800 دبابة... طلبت من "تيتو" أن يُرسل لي بعض الدبابات فأرسل لي الزعيم المناضل على الفور 140 دبابة بالذخيرة والوقود، الرئيس بومدين أـرسل 150 دبابة فورًا، وكان هنا 100 دبابة أخرى وضعها معمر القذافي في مرسى مطروح، أخذتها على الفور رغم أنف القذافي، وكان الرئيس بومدين قد دفع للسوفييت 100 مليون دولار أثناء المعركة، ثمنًا لـ 400 دبابة وصلتني أيضًا، وأصبح عندي 800 دبابة تقريبًا بفضل الرئيسين تيتو وبومدين، وعندما أحسَّ اليهود بهذا الرقم من الدبابات أسقط في أيديهم واضطربوا أشدَّ الاضطراب، وكان القرار هو تصفية الثغرة، وكانت تصفية الثغرة ممكنة تمامًا وسهلة..

وفي يوم 11 ديسمبر 73 جاءني كيسنجر وقال لي: "إذا حاربتم من جديد فإننا -أمريكا- سنقف إلى جانب إسرائيل، نحن نعلم إنك تستطيع تصفية الثغرة ولكننا سنقف ضدَّك ونضرب مع اليهود.. والحلّ هو أن نعمل فض اشتباك ويعودوا هم إلى الشرق بدون قتال".

قلت له: "متى يمكن أن يتم هذا"، قال في يناير 1974.

كان هذا الحديث في 11 ديسمبر، ولأنني بدأت أثق بكيسنجر -الذي أثبت لي دائمًا- أنه رجل شريف وصريح، فقد وافقت على ذلك.

ومع ذلك لم أسكت... عينت قائدًا للثغرة هو "سعد مأمون" محافظ مطروح الآن، وكان قبل ذلك قائدًا للجيش الثاني في وقت العبور، وهو عسكري رائع وممتاز، ثم أعددنا خطة الثغرة وصدقت عليها يوم 24 ديسمبر 1973.. كل ذلك حتى أكون مستعدًا لأي مفاجآت، سافرت إلى أسوان أنتظر كيسنجر، ولو فشل كيسنجر كان هناك كلمة سر واحدة أقولها للمشير أحمد إسماعيل لنبدأ المعركة على الفور وننتهي من العملية.

ولكني كنت أضع في اعتباري موقف أمريكا وخطورته على أهلي ووطني.. كما كنت أضع في اعتباري أن الاتحاد السوفييتي لن يساعدني أبدًا في هذه المعركة... بل سينتظر ضربي ليفرض شروطه من جديد.

وجاء كيسنجر.. ولقد وعد بفض الاشتباك ورحلت قوات اليهود وانتهت عملية الثغرة.

• أود أن أسأل سيادتكم بعد هذه الرحلة الطويلة معكم حول 6 أكتوبر عن رأيكم - باعتباركم كاتبًا ومثقفًا كبيرًا - في الأدب العربي .... هل عبَّر أدبنا بصدقٍ عن أكتوبر؟.. ثم ما هو رأيكم فيما قدمته السينما المصرية من أفلام عن حرب أكتوبر؟

الرئيس:

إن أدبنا لم يعبر حتى الآن عن معركة أكتوبر، إن حرب أكتوبر ليست حدثًا محليًا، وإنما حدث عالمي، والعالم بعد أكتوبر يختلف تمامًا عن العالم قبل أكتوبر.

سياسيًا: تأكد مركز العرب كقوة صامدة في العالم يعد أكتوبر، ولنترك ما يبدو على السطح من زوابع وخلافات فتلك لعنة مكتوبة على العرب أن يجتمعوا في أيام المحنة ثم يتفرقوا ويتمزقوا... ولكنني على يقين بأن الجوهر سليم ونقي، لقد أصبح العرب بعد أكتوبر قوة رهيبة.

اقتصاديًا: امتلك العرب لأول مرة -بترولهم الخاص بتأميم شركات البترول بالكامل- واستطاع العرب الأول مرة أيضًا أن يحددوا إنتاج البترول، واختصت الكويت مليون طن من الإنتاج ، وارتفع ثمن البترول ثلاثة أضعاف ثمنه قبل أكتوبر، والغرب الآن يقف موقف الرعب من العرب.

عسكريًا: دخلت دروس حرب أكتوبر في تعديل تصميمات السلاح، وقد التقيت منذ فترة قريبة ببعض الأوروبيين الذين يعملون في صناعة الأسلحة، وقد قالوا إن تصميمات الأسلحة تغيرت بعد حرب أكتوبر، كما تغيرت المفاهيم العسكرية في العالم كله..

هذه الآثار الضخمة لحرب أكتوبر لم تنعكس حتى الآن في أدبنا، وربما يحتاج الأمر إلى بعض الوقت، كما يحتاج إلى إزالة آثار الانهزامية التي سيطرت على بعض الأدباء... وبعدها اعتقد أن من الممكن أن نجد أدبًا يعبر عن أكتوبر بغير تزييف.

بالنسبة إلى الأفلام التي ظهرت عن أكتوبر بعضها أفلام جيدة، ولكنني أنوي أن تقوم مصر بعمل فيلم طويل على غرار فيلم "أطول يوم في التاريخ" وهو الفيلم الذي صوَّرَ غزو الحلفاء لنورماندي، هذا الغزو الذي كان بداية لانهيار هتلر، وقد تكلمت مع عمر الشريف عندما قابلني في أمريكا عن مشروع هذا الفيلم، وأرجو أن يحشد هذا الفيلم جميع الممثلين الكِبار عندنا، كما حشد فيلم "أطول يوم في التاريخ" جميع الممثلين في كل بلاد الغرب.

أن جبهتنا طولها 180 كيلو مترًا، وعندنا خمسة رؤوس كباري وتفاصيل المعارك كثيرة جدًا في الجو والبر والبحر... وهذا يجعلنا نحتاج إلى أكبر حشد سينمائي عرفته السينما العربية لإنتاج هذا الفيلم.

• سؤال أخير يا سيادة الرئيس، وهذه التجارب الضخمة والذكريات العديدة النادرة... لماذا لا تقومون بتسجيلها في كتاب يكون دليلًا حبًا للأجيال الجديدة... يتعلمون منه العلوم الكثيرة عن وطنهم وتاريخهم بقلم قائد له خبرتك وتجرِبتك ومواهبك؟

الرئيس:

قبل نهاية السنوات الست الأولى من رئاستي للجمهورية شعرت بأنني لابُد أن أكتب مثل هذا الكتاب، فهناك حقائق كثيرة لابد أن يعرفه الشعب، ولا يجوز أن يكون حولها خلاف بعد ذلك، خاصةً وقد لاحظت أن البعض للأسف بدأ يكتب ويشوه أو يُصور الحقائق من زاوية واحدة فيها الكثير من النقص، ومن أجل هذا أعددت كتابًا تحدثت فيه عن سنواتي الست السابقة في الحكم وعن معركة أكتوبر وعن حياتي في القرية ... إنه كتاب كبير يشمل الكثير، وقد اتفقت مع ناشر أمريكي على إصدار هذا الكتاب، وسوف يُصدر في طبعته الإنجليزية العالمية الربيع القادم إن شاء الله في أوروبا وأمريكا والعالم كله.

وقد تبرعت بدخل هذا الكتاب كاملًا بحيث يذهب نصف دخله لإعادة بناء "ميت أبو الكوم" والنصف الآخر للوفاء والأمل... أنا لا أريد من دخْل هذا الكتاب شيئًا لنفسي.