بقلم – السفير حسين هريدى
شهد قطاع غزة يوم الثلاثاء الموافق ٣ أكتوبر ٢٠١٧ حدثا استثنائيا تمثل فى قدوم حكومة الوفاق الوطنى برئاسة رامى الحمد الله إلى غزة، وتسلمها كافة الوزارات فى القطاع. والتطور الأهم فى المشهد كان مشاركة اللواء خالد فوزى، مدير المخابرات العامة المصرية فى الاحتفال الشعبى الكبير الذى تم تنظيمه ابتهاجا بهذه المناسبة الوطنية الهامة فى تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية. وتزامن مع الاحتفال رفع صور للسيد الرئيس عبد الفتاح السيسى، وبث فيديو تضمن كلمته التى أعرب خلالها عن الإيمان الكامل بأن الاختلافات بين مكونات المجتمع الفلسطينى ينبغى أن تجد حلولا داخل البيت الفلسطينى، بدعم ومساندة من الدول العربية، مع رفض التدخلات الأجنبية فى الشأن الفلسطينى.
أضافة إلى أن العالم بأسره يتابع الجهود الرامية لتحقيق الوفاق الوطنى الفلسطينى، ويثمن عزم الفلسطينيين على تخطى العقبات التى أدت إلى التنافر والانقسام، مؤكدا على حقيقة هامة ألا وهى أن الانقسامات الفلسطينية لم تخدم، لا الشعب الفلسطينى، ولا الفصائل الفلسطينية. وربط الرئيس السيسى بين هذه الجهود والفرصة، التى وصفها بالتاريخية، لتحقيق السلام الشامل والعادل فى الشرق الأوسط واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى.
جاءت هذه التطورات الإيجابية على صعيد القضية الفلسطينية بعد مضى عقد من الزمان على استيلاء حركة حماس على السلطة فى القطاع فى شهر يونيه ٢٠٠٧، بعد مواجهات دموية مع قوى الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية وحركة فتح. وخلال هذا العقد الحزين والهدام تدهورت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى القطاع بشكل صادم، وارتفعت نسبة البطالة بين الشباب إلى ٦٠ بالمائة، وتعرض القطاع إلى العدوان الإسرائيلى المتكرر.
وعندما مرت أعاصير ما سمى بالربيع العربى على الأمة العربية فى ٢٠١١، كان للقطاع نصيبه، وليس بالقليل، من الأضرار الجمة التى خلفتها هذه الأعاصير على القوة الذاتية العربية، والقوة الذاتية الفلسطينية، التى كانت ضعيفة أصلا بفعل تمرد يونيه ٢٠٠٧. وكان لصعود أسهم الإسلام السياسى ورهان الغرب، وفى المقدمة إدارة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، على جماعة الإخوان، بتأييد سافر من قطر وتركيا، دوره الكبير فى ترسيخ الانقسام الفلسطينى، وتكريس المواجهة بين السلطة الفلسطينية وحركة فتح من جانب وحماس من جانب آخر، وهو الانقسام والمواجهة الذى كانت خصما للأمن القومى المصرى وللدور والتأثير المصرى فى مجريات الأمور فى منطقة الشرق الأوسط، وكذلك فى مسار الصراع العربى الإسرائيلى.
ساعد على ذلك أن مصر ذاتها من الداخل كانت تبحث عن ذاتها فى خضم هجمة شرسة من قوى الإسلام السياسى توجت بنجاحها فى اختطاف منصب الرئاسة لمدة عام فى الفترة من يونيه ٢٠١٢ حتى اندلاع ثورة ٢٠ يونيه٢٠١٣
كانت مرحلة عصيبة فى تاريخ العلاقات الإستراتيجية بين مصر والدول العربية وفلسطين، غلب فيها الانتماء الدينى على مقتضيات ومتطلبات واستحقاقات الانتماء القومى والوطنى، التى طالما استندت عليها السياسة الخارجية المصرية، وأدى ذلك إلى المزيد من الابتعاد بين رام الله بقيادة السلطة الفلسطينية وغزة تحت سيطرة حماس. وهو ما ترتب عليه تعطيل تنفيذ اتفاق المصالحة الوطنية الموقع فى القاهرة فى ٤ مايو ٢٠١١، فحماس خلال فترة حكم الجماعة فى القاهرة، وهى الحركة التى قدمت نفسها للعالم فى ديسمبر ١٩٨٧ على أنها حركة « مقاومة إسلامية « تابعة لجماعة الإخوان، سعت لتوسيع سيطرتها على الشأن الفلسطينى بالتخطيط للاستيلاء على الضفة الغربية بدعم ومساندة وتحريض من قبل القاهرة والدوحة وأنقرة فى الفترة من ٢٠١٢ ويونيه ٢٠١٣.
كانت ثورة ٣٠ يونيه ٢٠١٣ وبكل تداعياتها داخل وخارج مصر أكبر الأثر فى وقف هذا المخطط الجهنمى الذى كان من شأنه فى حالة نجاحه وأد القضية الفلسطينية تماما كقضية شعب يناضل من أجل تقرير مصيره الوطنى وتحويلها إلى صراع إقليمى بين إسرائيل وإيران وحلفاء كل طرف منهما، فقد كانت ستكون فرصة ذهبية لحكومة اليمين المتطرف فى تل أبيب للقول إن وجود إسرائيل كدولة معرضة « لتهديد وجودى «، وكان ذلك ذريعة لمد حصارها لقطاع غزة ليشمل الضفة كذلك.
بعد انقضاء عام على ثورة ٣٠ يونيه نجحت الجهود المصرية المستأنفة لتحقيق الوحدة الوحدة الوطنية الفلسطينية فى التوصل إلى ما يعرف باتفاق الشاطئ، أو اتفاق غزة فى أبريل ٢٠١٤، وتم من خلاله تشكيل حكومة الوفاق الوطنى برئاسة رامى الحمد الله، وكان الأمل معقودا على التئام الصف الفلسطينى والشروع فى تنفيذ اتفاق القاهرة فى مايو ٢٠١١ بكافة عناصره سواء المتعلق بملفات الأمن فى غزة أو إعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية أو الإعداد لإجراء انتخابات عامة فى الضفة والقطاع أو فى ملف المصالحة المجتمعية. لكن التدخلات القطرية والتركية والإيرانية من جانب، والصراعات داخل كل من السلطة الفلسطينية وفتح فى رام الله من ناحية وداخل حركة حماس من ناحية أخرى، كلها عوامل تضافرت لعرقلة وضع اتفاق المصالحة الفلسطينية موضع التنفيذ.
وفى الأثناء تم انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيسا لمصر فى يونيه ٢٠١٤ وبدء العودة التدريجية لمصر للمشهد العربى والشرق أوسطى، وهو ما مثل تحديا للنفوذ القطرى والتركى فى المنطقة، دفعهما لزيادة دعمهما لكل من « الإخوان « من جانب، والجماعات الإرهابية من جانب آخر لزعزعة أمن واستقرار مصر، معتمدين فى هذا المخطط على مباركة أمريكية ضمنية من قبل إدارة أوباما. أدى هذا إلى دعم نفوذ العناصر المتشددة داخل حركة حماس، وبالتالى عرقلة تنفيذ اتفاق الشاطئ، مع غض الطرف، إن لم يكن التواطؤ مع الجماعات الإرهابية فى شمال شرق سيناء بعدم إحكام السيطرة على الأنفاق مابين قطاع غزة وسيناء.
بدأت الأمور فى الشرق الوسط تدخل مرحلة نوعية جديدة فى سبتمبر ٢٠١٥ بالتدخل العسكرى الروسى فى سوريا دعما للجيش العربى السورى والحكومة السورية، وهو التدخل الذى ترافق مع ازدياد النفوذ المصرى فى مقدرات المنطقة، ووقوفها بحزم فى مواجهة « محور الشر» القطرى التركى الإخوانى فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحديدا فى ليبيا لاحتواء مصر بحركة « كماشة « ما بين شمال شرق سيناء والحدود الغربية لمصر مع ليبيا، بالإضافة إلى تشجيع العمليات الإرهابية داخل مصر.
ورويدا رويدا بدأ بريق جماعات الإسلام السياسى فى الأفول، ما ترتب عليه من الانحسار التدريجى للرهان الغربى عليه. وجاء انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة فى يناير الماضى ليعيد تشكيل التحالفات فى الشرق الوسط على ضوء أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة.
كل ما تقدم من تطورات عميقة فى المشهد الشرق أوسطى، ومع التدهور المستمر فى الأوضاع الإنسانية فى قطاع غزة، ومع محاصرة الدور القطرى والتركى فى المنطقة، أصبح لزاما على قيادات حماس إعادة تقييم شاملة لتحالفاتها ولسياستها. وبرهنت الحركة فى هذه العملية الضرورية على قدرة على قراءة المشهد بواقعية بعيدا عن طبيعتها العقائدية المنبثقة عن انتمائها الإخوانى.
أول مراجعة هامة كانت إعادة العلاقات مع مصر الثورة لتصبح علاقات تعكس التلاحم التاريخى بين مصر وفلسطين على قاعدة إستراتيجية، وثانيا الابتعاد، ولو شكليا ومرحليا، عن المحور القطرى التركى الإخوانى، وثالثا البناء على القواسم المشتركة بين السلطة الفلسطينية وحماس، وأخيرا وليس بآخر تعظيم الاستفادة من الدور المصرى المتعاظم فى المنطقة والتقارب المصرى الأمريكى فى ظل رئاسة الرئيس الجمهورى دونالد ترامب. وفى هذا السياق، ينبغى الأخذ فى الاعتبار تأثير انعقاد القمة غير المسبوقة التى جمعت الولايات المتحدة والدول العربية والإسلامية فى الرياض فى ٢١ مايو الماضى، تلك القمة التى بعثت برسالة قوية لحماس أن الرياح التى هبت على العالم العربى فى ٢٠١١ بدأت فى تغيير اتجاهها، وأن الوقوف فى وجه المشهد الجديد الآخذ فى التشكل فى الشرق الأوسط سيخرج حماس من التاريخ، أو يكاد.
بدأت التغييرات فى حماس باختيار يحيى السنوار، قائد كتائب « عز الدين القسام»، رئيسا لحماس فى قطاع غزة، ثم إصدار وثيقة سياسية جديدة للحركة، نستطيع أن نصفها بأنها تمثل قطيعة مع وثيقة التأسيس الأصلية، حيث تم حذف العبارة الدالة على تبعية حماس إلى تنظيم الإخوان. ثم انتخاب إسماعيل هنية رئيسا للمكتب السياسى، خليفة لخالد مشعل، الحليف القطرى والتركى والإيرانى داخل القيادات العليا لحماس، وممثلا لقيادات الخارج المتشددة والتابعة لقطر وتركيا وإيران.
كل هذه التغييرات لم تتم بمعزل عن مصر، التى عادت مرة أخرى لتلعب الدور القومى الذى يمليه التاريخ، وتفرضه الجغرافيا فى تحصين القضية الفلسطينية من التدخلات الأجنبية، وتوحيد الصف الفلسطينى من أجل تحقيق الهدف العربى والفلسطينى فى إقامة دولة فلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة، والوقوف فى خندق واحد مع الفلسطينيين فى مواجهة التوسعية والعدوانية الإسرائيلية.
على ضوء هذه التغييرات الهيكلية فى حركة حماس، استضافت مصر خلال الأشهر القليلة الماضية لقاءات مع فتح وحماس والسلطة الفلسطينية أدت إلى إعلان حماس، خلال زيارة قام بها إسماعيل هنية للقاهرة فى سبتمبر الماضى، فى يوم ١٧ من ذات الشهر إلى حل اللجنة الإدارية، وكانت تقوم مقام حكومة فى القطاع، وقبولها بعودة حكومة رامى الحمد الله للقطاع، وموافقتها على إجراء انتخابات عامة.
ومما لا شك فيه أن الطريق أمام ترسيخ المصالحة الوطنية الفلسطينية سيكون طويلا وغير مفروش بالورود. فسواء تحدثنا عن إسرائيل أو عن قطر وتركيا أو عن بعض العناصر المتشددة داخل حماس ذاتها، فالمصالحة فى حالة نجاحها، لا تخدم مصالحها، وبالتالى ستستغل أى خلافات بين السلطة الفلسطينية والقيادات الحمساوية الجديدة لنسف المصالحة وتحجيم الدور المصرى، ليس فقط فى القضية الفلسطينية، وإنما على امتداد رقعة الشرق الأوسط بكامله.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر، أعلن بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى أن المصالحة الفلسطينية لن تتم على حساب الأمن الإسرائيلى، وطالب بنزع سلاح كتائب « عز الدين القسام»، وإعلان حماس نبذها للعنف، والاعتراف بإسرائيل. من ناحية أخرى، أعلن السيد محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، أنه لن يقبل بتكرار تجربة « حزب الله» بلبنان فى قطاع غزة، أى أنه لن يقبل بالفصل بين سلطات حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية والقيادة، سواء السياسية أو العسكرية، على كتائب « عزالدين القسام.»
من الناحية النظرية البحتة، هناك شبه إجماع على أنه من الأهمية بمكان عدم تجزئة السلطة فى قطاع غزة، ومن أنه لا مجال للتفرقة فى المعاملة بين الضفة وغزة فيما يتعلق بصلاحيات ومسئوليات الحكومة الفلسطينية الموحدة، وتنفيذها فى كافة المجالات، بما فى ذلك المجالات الأمنية والعسكرية. وفى هذا الإطار لابد من التسليم بهذا المبدأ، لكن القضية تكمن فى توقيت التعامل مع هذا الملف الحساس للغاية، بحيث لا يستخدم لنسف الجهود الرامية لتوحيد الصف الوطنى الفلسطينى. ويتردد أن مصر اقترحت تشكيل مجلس أمن وطنى يضم أعضاء من الحكومة الفلسطينية وحماس يدير الشؤون الأمنية فى غزة، ويكون هو المسئول عن كل ما يتعلق بالمقاومة الفلسطينية المسلحة. وبدون أدنى شك ما يدعو إليه رئيس الوزراء الإسرائيلى من نزع سلاح «المقاومة « الفلسطينية يعد مرفوضا شكلا وموضوعا، وافترض أن الحكومة المصرية لن تتعامل معه، ولن تحاول فى أى وقت فرضه. ومن بين المقترحات المتداولة فى هذا الصدد، أن تتحول هذه الكتائب إلى قوات للأمن الوطنى وبقيادة ثنائية فى البداية، والتخلى عن « كتائب عزالدين القسام». هذا الملف الهام والخطير سيكون ضمن مجموعة من الملفات الهامة المقرر بحثها بمزيد من العمق والروية فى الاجتماعات التى دعت إليها مصر هذا الأسبوع بين فتح والسلطة وحماس بالقاهرة.
وكان رئيس السلطة قد عقد اجتماعا يوم الخميس الموافق ٥ أكتوبر للجنة المركزية لفتح أشار فيه إلى أن إتمام الاتفاق مع حماس يحتاج إلى « جهد وتعب ونوايا طيبة، ونرجو أن تتوافر النوايا عند الجميع، والوحدة الوطنية هدف سام بالنسبة لنا، ونعلق عليها آمالا كبيرة وعريضة لأنه من دونها لا توجد دولة فلسطينية.»
ومن جانبها أكدت حماس، على لسان المتحدث باسمها، أنها ستقدم مصلحة الشعب الفلسطينى على أى مصلحة حزبية فى حوارات القاهرة، وأن الحركة ستتعامل بإيجابية تامة ومرونة كاملة لإنجاحها، مشيرا إلى أن حماس ملتزمة بالاتفاقيات السابقة مع حركة فتح، وجاهزة للبدء بتنفيذها، حتى بدون حوارات، وفق اتفاق القاهرة ٢٠١١.
وحوارات القاهرة ستكون حاسمة وكاشفة لصدق النوايا لدى كافة القيادات الفلسطينية لتفعيل اتفاقات الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتجاوز انحيازات وتحالفات وسياسات أعاصير خريف العرب، وخريف القضية الفلسطينية خلال الست سنوات الماضية. والأمل يحدونا أن تنتهز تلك القيادات، التى ائتمنها الشعب الفلسطينى على قيادة نضالهم التاريخى من أجل استرداد كافة حقوقهم الوطنية وفقا لقرارات الأمم المتحدة، عودة مصر بقوة كقوة عربية حاسمة فى تفاعلات الشرق الأوسط، واستثمارا إلى رهانات كل القوى الدولية والعربية الساعية إلى استرداد الأمن والسلام على مصر، كقوة وكدور وكتأثير، لتحقيق التوازن المطلوب فى الساحتين الإقليمية والعربية الكفيل ببلوغ هذا الهدف.